اعترافاتي
اعتاد الكتاب أن يقصروا الاعترافات على المسائل الجنسية التي اعتاد الإنسان أن يسرها ولا يجهر بها إلا لخواص أصدقائه، ولعل المسئول عن حصر الكلمة بهذا المعنى «جان جاك روسو» وأمثاله ممن قيدوا هذه الاعترافات، والقسس الذين يصغون إلى هذه الاعترافات، أما الكلمة نفسها فواسعة شاملة، تشمل هذا النوع وتشمل غيره من الفضائل التي اكتسبها الإنسان في حياته بعنف ومشقة.
وبعد هذا نذكر شيئًا من الاعترافات على المعنى المشهور فنقول:
إنني رزقت عاطفة تهتز للجمال أيًّا كان سواء كان جمالًا طبيعيًّا أو جمالًا صناعيًّا، أو جمالًا فنيًّا، وأذكر من هذا القبيل أني وأنا صغير سمعت رجلًا ينشد على الدف في مدح النبي ﷺ فتبعته من حارة إلى حارة حتى بعد العشاء، مع علمي بأن التأخر إلى هذا الوقت يستتبعه الضرب من أبي حتمًا.
ولي إلى الآن حاسة قوية في سماع الموسيقى وخاصة النغمات الحزينة.
وأذكر أيضًا أني وأنا صبي عشقت صبية جميلة بنت جار لنا، فتعلمت من حبها ضنى الحب وعذابه ولوعته … وكل ما فعلت أن كنت أنتهز الفرصة فأجلس إليها أمام دار أبيها، فلما اكتشف ذلك أبوها حجبها وحرمت من لقياها.
وعشقت مرة مدرسة لي إنجليزية كنت أتبادل معها الدروس العربية والإنجليزية، وأحببتها حبًّا يائسًا … لأنها كانت متزوجة وسعيدة بزواجها، ولكن جمالها وجمال عينيها جعلني أتمنى يوم درسها وأعده عيدًا، ولولا أن الدين والعلم كبتاني لكنت إمام المحبين.
•••
وعلى المعنى الواسع من معنى الاعترافات عاهدت الله من صغري أن أنصر الحق حيث كان، وقد لقيت في سبيل نصرته عناءً لا يقدر في المجالس والمجتمعات، وخاصة في مجلس الجامعة؛ فقد كنت أصطدم أحيانًا بأكبر الرجال عقلًا، وأوسعهم شهرة، وأعظمهم قدرة، وأوذيت في سبيل ذلك كلَّ الإيذاءِ حتى لقد كنت أتوقع في كثير من الأحيان أن أجد خبر إحالتي على المعاش، كلما حزب الأمر وجد الجد، ومع ذلك لم أعدل عن هذه الطريقة، وكنت مشربًا فيها بروح القاضي العادل.
ومرة حرمت وظيفة كبيرة كنت مرشحًا لها بسبب من هذه الأسباب؛ ذلك أني رشحت أستاذًا للشريعة بكلية الحقوق، ثم عاقني عنها الانغماس في المبادئ السياسية على مذهب سعد، فلما علم عني ذلك حرمت من الوظيفة، فقلت: لا بأس، وعوضني الله عنها أستاذًا بكلية الآداب، ولكن بعد وقت طويل.
•••
وأعترف أني أحب الخير للناس خصوصًا من أعرفهم، وأفرح لنجاحهم أو رقيهم، ولكني مع هذا الحب غيور … فبجانب هذا الفرح أغضب إذا أنا حرمت من مثل ما نالوا خصوصًا إذا كنت أعتقد أني لست أقل منهم علمًا وذكاءً، وأذكر أني بكيت طويلًا عندما كان ترتيبي الثاني في مدرسة القضاء الشرعي … لعلمي أني لست أقل من الذي كان الأول، إلا أنه أجد مني في العمل وأكثر في التحصيل، ولا تزال هذه عادتي إلى اليوم … فإذا سمعت محاضرة في الجامعة أو في المجمع أو في غير ذلك فرحت بها وحمدت قائلها، ولكني غرت لأني لم أقل مثلها، كذلك إذا ألف أحدًا كتابًا جيدًا حمدته وأطريته، ولم أترك مجلسًا من المجالس إلا ذكرته، ولكن حز في نفسي أني لم أؤلف مثله.
•••
وقد علمتني الأحداث أن المدافع عن الحق لا بد أن ينال يومًا جزاءه؛ فقد يعذب وقد يهان وقد ينتقم منه … ولكن أخيرًا يعترف بفضله، ويمجد لموقفه على شرط واحد، وهو أن يكون معتدلًا في طلبه للحق، وأن يطلبه من غير تجريح لخصومه، وأن يطلبه في لباقة ومهارة، فإن أخل بهذا الشرط، فالذنب ذنبه ليس ذنب الحق؛ وذنب وسائله لا ذنب الحق نفسه.
كما علمتني التجارب أن الناس إزاء هذا أصناف ثلاثة: قليلون جدًّا ينصرون الحق ويتشجعون في الجهر به والدفاع عنه، وقليلون أيضًا مجرمون يقفون في وجه الحق لأسباب تافهة، ومصالح شخصية كاذبة عاجلة، وأكثر الناس يحبون الحق ويحبون نصرته، ولكن ينتظرون أحدًا يجهر به ليكونوا أتباعه، فإذا جهر به تبعوه؛ وهم إلى نصرة الحق أقرب منهم إلى نصرة الباطل؛ وإلى نصرة المدافع عن الحق، ولو كان صغيرًا، أقرب من أن ينصروا الباطل أو المبطل ولو كان كبيرًا.
ومن هذا النوع الشامل اعترافي بأني جبان بقدر شجاعتي في قول الحق … أخاف التعذيب، وأخاف السجن، وأخاف الشنق، وربما كان هذا هو السبب في أني أفضل العلم على السياسة، فالعلم طريق غير محفوف بالأشواك، والسياسة طريق وعر محفوف بالأشواك وربما كان هذا أيضًا هو السبب في أني تخلفت عن زملائي السياسيين حيث تقدموا إلى أن كانوا رؤساء وزارة، وقد كنت زميل المرحومين أحمد ماهر باشا ومحمود باشا فهمي النقراشي، ولكن خفت من القنابل إذ لم يخافا، وخفت من السجن إذ لم يخافا، وتقدما وتقاعدت، وبرزا واختفيت، ولعل هذا أيضًا هو السبب في أني لما كنت أحد أعضاء المائدة المستديرة في مؤتمر فلسطين في لندن ١٩٤٦ خطب مستر بيفن خطبة طويلة فحضرت عندي معان للرد عليه … خلت أنها جيدة، ولكن عاقني عن الرد خوفي من أن تكون آرائي في السياسة فجة، وخوفي من ضعفي في اللغة الإنجليزية … فسكت وصمت، وتكلم غيري، ولم تكن معانيه خيرًا من معانيَّ التي كنت انتويت أن أقولها.
ومن ذلك خوفي على عرضي وشرفي أن يمسهما سوء، وعلى العكس من ذلك عدم خوفي من نقد آرائي وكتبي؛ وأذكر أني كتبت مرة مقالات في جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي؛ فخصص الأستاذ ذكي مبارك مقالات للرد عليها كل أسبوع نحو ثلاثة أشهر، فلم يؤلمني نقد آرائي، ولكن مرة زل قلمه فتعرض لخلقي وشرفي، فغضبت من ذلك غضبًا شديدًا، بل ربما استحثثت الناس على نقد آرائي وأفكاري، علمًا بأن تقريظ هذه الآراء والأفكار ونقدها على حد سواء في خدمة الفكرة والرأي، بل قد يفيد النقد أكثر مما يفيد التقريظ، والحق لا يظهر إلا بعرض الآراء المخالفة كلها، كالمصباح لا تتجلى قوته إلا بقدر ما يجليه من الظلام.