المعتزلة والمحدِّثون
كان للمعتزلة منهج خاص أشبه ما يكون بمنهج من يسميهم الفرنج العقليين، عمادهم الشك أولًا، والتجربة ثانيًا، والحكم أخيرًا، وللجاحظ في كتابه «الحيوان» مبحث طريف عن الشك.
وكانوا وفق هذا المنهج لا يقبلون الحديث إلا إذا أقره العقل، ويؤولون الآيات حسب ما يتفق والعقل، كما فعل الزمخشري في الكشاف، ولا يؤمنون برؤية الإنسان للجن؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ويهزءون بمن يخاف من الجن، ولا يؤمنون بالخرافات والأوهام، ويؤسسون دعوتهم إلى الإسلام حسب مقتضيات العقل وفلسفة اليونان، ولهم في ذلك باع طويل، ولا يؤمنون بأقوال أرسطو لأنه أرسطو، بل نرى في الحيوان أن الجاحظ يفضل أحيانًا قول أعرابي جاهلي بدوي على قول أرسطو الفيلسوف الكبير.
هكذا كان منهجهم، وهو منهج لا يناسب إلا الخاصة، ولذلك لم يعتنق الاعتزال إلا خاصة المثقفين، أما العوام فكانوا يكرهونه.
وجرهم هذا المنهج إلى تشريح الصحابة والتابعين كما يشرح سائر الناس، فهم في نظرهم عرضة للخطأ كما يخطئ الناس، فلم يتورعوا عن أن ينقدوا أبا بكر وعمر وعثمان، ولم يمنعهم أن يفضلوا بعضهم على بعض، ومن أجل هذا كانوا أقرب إلى الشيعة من المحدثين، بل كان بعض المعتزلة شيعة.
ويقابل هذا المنهج، منهج المحدثين، وهو منهج يعتمد على الرواية لا على الدراية، ولذلك كان نقدهم للحديث نقد سند لا متن، ومتى صح السند صح المتن ولو خالف العقل، وقل أن نجد حديثًا نُقد من ناحية المتن عندهم، وإذا عُرض عليهم أمر رجعوا إلى الحديث ولو كان ظاهره لا يتفق والعقل، كما يتجلى ذلك في مذهب الحنابلة.
وكان من سوء الحظ أن تدخل المعتزلة في السياسة ولم يقتصروا على الدين، والسياسة دائمًا شائكة، فنصرهم على ذلك المأمون والواثق والمعتصم، وامتحنوا الناس وأكرهوهم على الاعتزال، فكرههم العامة واستبطلوا الإمام ابن حنبل الذي وقف في وجههم، فلما جاء المتوكل انتصر للرأي العام ضدهم، وانتصر للإمام أحمد بن حنبل على الجاحظ وابن أبي دؤاد وأمثالهما، ونكل بهم تنكيلًا شديدًا، فبعد أن كان يتظاهر الرجل بأنه معتزلي، كان الرجل يعتزل ويختفي، حتى عد جريئًا كل الجراءة الزمخشري الذي كان يتظاهر بالاعتزال، ويؤلف فيه، ولم يكن له كل هذا الفضل؛ لأنه أتى بعد هدوء الثورة التي حدثت ضد الاعتزال.
•••
فلنتصور الآن ماذا كان يكون لو سار المسلمون على منهج الاعتزال إلى اليوم؟ أظن أن منهج الشك والتجربة واليقين بعدهما كان يكون قد ربي وترعرع ونضج في غضون الألف سنة التي مرَّت عليه، وكنا نفضل الأوربيين في فخفختهم وطنطنتهم بالشك والتجربة التي ينسبونها إلى بيكون مع أنه لم يعمل أكثر من بسط مذهب المعتزلة.
وكان هذا الشك وهذه التجربة مما يؤدِّي حتمًا إلى الاختراع، وبدل تأخر الاختراع إلى ما بعد بيكون وديكارت، كان يتقدم مئات من السنين، وكان العالم قد وصل إلى ما لم يصل إليه اليوم، وكان وصوله على يد المسلمين لا على يد الغربيين، وكان لا يموت خلق الابتكار في الشرق ويقتصر على الغرب؛ فقد عهدنا المسلمين بفضل منهج المحدثين يقتصرون على جمع متفرق أو تفريق متجمع، وقل أن نجد مبتكرًا كابن خلدون الذي كانت له مدرسة خاصة، تلاميذها الغربيون لا الشرقيون.
فالحق أن خسارة المسلمين بإزالة المعتزلة من الوجود، كانت خسارة كبرى لا تعوض.
ثم بدأ المسلمون ينهجون منهج الحضارة الغربية تقليدًا من الخارج لا بعثًا من الداخل، وشتان ما بينهما، فالتقليد للخارج بث فيهم ما يسميه علماء النفس مركب النقص، فهم يرون أنهم عالة على الغربيين في منهجهم، ولو كان من أنفسهم لاعتزوا به وافتخروا، ولكن ما قُدِّر لا بد أن يكون، ولله في خلقه شئون.