جمع اللغة العربية١
كان المثقفون في العهد الأول، وصدر من الدولة العباسية، لا يلتفتون إلى جمع اللغة؛ فاللغة تؤخذ من أفواه العرب، ومن شاء أن يتعلمها فليتعلمها من بادية البصرة والكوفة في العراق، أو بادية العرب في الشام، فكان ابن المقفع وبشار بن برد مثلًا يخرجان إلى هذه البادية ويقيمان فيها ويتعلمان ما طابت لهما الإقامة، شأنهم في ذلك شأن الطفل ينشأ بين أبويه وقومه، ويتثقف بثقافتهم، وينطق لسانه بلغتهم، وهذا هو التعلم الطبيعي للغة، فلما جاءت موجة التدوين، وتخصصت كل فرقة لعلم، فقوم للفقه، وآخرون للنحو، اشرأبَّ قومٌ لجمع اللغة فجمعوها أولًا من لغة القرآن الكريم، مستعينين على ذلك بتفسير المفسرين، وبالأحاديث التي صحت عندهم، ومستعينين أيضًا بتفسير المحدثين، ولم يكتفوا بذلك، بل ساحوا في جزيرة العرب بين القبائل العربية، يجمعون كل ما يسمعون؛ وكان من أشهرهم عبد الملك بن قُرَيب الأصمعي، والكسائي، والأزهري، وكان الأصمعي أميل إلى جمع نوادر العرب، يتحدث بها إلى الملوك، وكان الكسائي يخرج من حين لآخر ومعه قنينة مملوءة خبزًا وكاغد، وقد أسر الأزهري من القرامطة ومكث نحو سنتين في الجزيرة بين القبائل يصيف في الستارين، ويشتي في الدهناء، ويرتبع في الصمان، وألف في اللغة كتاب التهذيب الذي أخذه ابن منظور في لسان العرب.
وقد جد المؤلفون فيما بعد، في حذو المحدثين في تقسيمهم اللغة إلى متواترة ورواية آحاد؛ فالمتواتر لغة القرآن، وما تواتر من كلام العرب، واشترطوا أولًا في ذلك أن يبلغ عدد النقلة حدًّا لا يجوز على مثلهم الاتفاق على الكذب فيه، كرواة لغة القرآن وما تواتر من السنة، وقد استشكل الفخر الرازي في تفسيره وجود التواتر في اللغة، قال: لأنا نجد الناس مختلفين في المعاني والألفاظ التي هي أكثر الألفاظ تداولًا ودورانًا على ألسنة المسلمين، اختلافًا شديدًا، لا يمكن فيه القطع بما هو الحق، كلفظ «الله»؛ فإن بعضهم زعم أنها عبرية، وقال قوم سيريانية، والذين جعلوها عربية اختلفوا هل هي مشتقة أو لا؟ والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافًا شديدًا، وكلفظ الإيمان والكفر، والصلاة والزكاة قال: فإذا كان هذا الحال في هذه الألفاظ التي هي أشهر الألفاظ والحاجة إليها ماسة، فما ظنك بسائر الألفاظ؛ فإذا كان ذلك كذلك، ظهر أن دعوى التواتر في اللغة متعذرة. والإشكال الثاني أن من شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة، فهب أننا علمنا حصول شرط التواتر في حفاظ اللغة في زماننا، فكيف نعلم حصولها في سائر الأزمنة؟ والثالث أنه اشتهر، بل بلغ مبلغ التواتر، أن هذه اللغات إنما جمعت عن جمع مخصوص كالخليل، وأبي عمرو، والأصمعي، وأقرانهم، ولا شك أن هؤلاء ما كانوا معصومين، ولا بالغين حد التواتر، وإذا كان كذلك لم يحصل القطع واليقين بقولهم، وقد ضربوا أمثلة من المتواتر بما جرى على ألسنة الناس من زمن العرب إلى الآن كأسماء الأيام والشهور والربيع والخريف والقمح والشعير والأرز والحمص والسمسم.
وأما أخبار الآحاد، فما انفرد بروايته واحد من أهل اللغة، ولم ينقله أحد غيره، وقالوا: وحكمه القبول، إن كان المنفرد به من أهل الضبط والإتقان، كأبي زيد والخليل، والأصمعي وأبي حاتم وأبي عبيدة، وأضرابهم، وشرطه ألا يخالفه فيه من هو أكثر عددًا منه مثل ما رواه أبو زيد المنشية: المال، فلم يقله غير أبي زيد، ومثل رجل ثط ولم يقال أثط، قال أبو حاتم قال أبو زيد مرة: أثط. فقلت له: أتقول أثط؟ قال سمعتها. ومثل ما حكاه الكسائي: سمعت لجبة ولجبات، ولجبة ولجبات، فجاء بها على القياس، ولم يحكها غيره، إلى كثير من أمثال ذلك ومثل هلمَّ جرًّا، قال الجوهري في الصحاح: كان ذلك عام كذا وهلمَّ جرًّا إلى اليوم، قال ابن هشام في تأليف له: عندي توقف في كون هذا التركيب عربيًّا محضًا؛ لأن أئمة اللغة المعتمد عليهم لم يتعرضوا له، حتى صاحب المحكم، مع كثرة استيعابه وتتبعه.
وكان بعض اللغويين غير موثوق به، كأن يكون غير عدل، أو يروي عن صبيان أو عن مجانين أو كان راوية من أهل الأهواء، ولم يكن بعض الجامعين يتحرى الصدق، بل كان يبيح لنفسه أن يضع، كما أخذ على ابن دريد اللغوى صاحب الجمهرة، ومما زاد في تضخيم اللغة ما طرأ على الكلمات من التصحيف؛ فقد رووا أن الخليل بن أحمد صحَّف يوم بعاث إلى يوم بغاث، وابن الأنباري صحف يوحا اسم الشمس إلى يوح، ورووا أن حمادًا الراوية صحف في القرآن ثلاث كلمات؛ لأنه أخذه من المصحف، ولم يروه عن أحد، فحرف وَعَدَهَا إِيَّاهُ «بوعدها إياه»، وفِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ إلى «في غرة وشقاق»، لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ إلى «شأن يعنيه»، وقالوا: إنه وقع في كتاب العين للخليل من التصحيف ما لا تصح نسبته إلى تلميذ من تلامذته فضلًا عنه، ووقع في التصحيف الجوهريُّ صاحب الصحاح وغيره، ولم تحقق هذه التصحيفات بل كدست فوق بعضها، وضخمت المعاجم، وذلك مثل فرشحت الناقة وفرشخت إذا استعدت للبول، وكان الواجب أن يحقق أيهما التصحيف لا أن يكدس.
وعني الجامعون للغة بقبائل خاصة وهي: عليا هوازن، وهم خمس قبائل، أو أربع، منها سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، قال أبو عبيد: وأحسب أفصح هؤلاء بني سعد بن بكر، وقال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن، وسفلى تميم.
وتحرجوا من أن يأخذوا اللغة عمن جاور الحضر من قبائل العرب؛ إذ كانت وجهة نظرهم أن يأخذوا اللغة ممن صفت لغتهم، وبعدت عن الدخيل، وكانت أمامهم وجهة نظر أخرى محترمة أيضًا، وهي أن يأخذوا ممن اختلط بالحضر، فإن لغتهم أوسع وألفاظها قد رققتها الحضارة.
إنما كان عملهم في الجمع بدائيًّا غير منظم، فهم يلتقطون ما يسمعون من الألفاظ ويدونونها، وعيب هذه الطريقة أنهم لم ينصوا في الأعم الأغلب على القبيلة الواحدة التي جمعوا منها ألفاظهم، بل يهتمون بالكلمة التي يسمعونها ويدونونها حيثما اتفق كلمة بجانب كلمة من غير ترتيب، ولذلك نرى نقصًا كبيرًا في هذا الجمع، فأحيانًا نجد مصدرًا ولا نجد له فعلًا، وأحيانًا نجد مفردًا ولا نجد مثناه ولا جمعه، وأحيانًا نجد الجمع ولا نجد المفرد، وهكذا.
والمدنيون الآن يؤلفون الجمعيات، ويعدون الخرائط والاستمارات ويحددون الأسئلة التي يريدونها، فيسألون مثلًا: ما تقول بلادكم في (كيف حالك) ويقيدون فيها اسم البلد، ثم يستنتجون من ذلك نوع الناس الذين ينطقون بهذا القول، ويستخرجون من ذلك الدلائل اللغوية والاجتماعية ويرسمون الخرائط وفقًا لهذه الاستنتاجات فتكون هذه العملية عملية علمية.
والقبائل كانت أعقل من أن تضع لفظين لمسمى واحد، فالقبيلة التي تستعمل كلمة «السكين» لا تستعمل كلمة «المدية» والقبيلة التي كانت تستعمل «البئر» لا تستعمل كلمة «القليب» فلما كان الجمع بدائيًّا، وجدت ألفاظ كثيرة مترادفة، ومن ثم كانت المعاجم مملوءة بالمترادفات، فلغتنا ليست لغة العرب، ولكن لغات العرب، وفي رأيي أن المترادفات — مع إعانتها للشاعر خصوصًا في الشعر العربي الذي يلتزم القافية بل قد يلتزم ما لا يلزم، وخصوصًا في الملاحم الطويلة التي تشتمل أبيات كثيرة يحتاج معها لا شك إلى مترادفات كثيرة — كالجدري في الوجه الجميل، وقد أنكرها ابن فارس وثعلب؛ فقد روي أن ابن خالويه قال في حضرة سيف الدولة بن حمدان: إني أعرف للسيف خمسين اسمًا. فقال ابن فارس: إني لا أعرف له إلا اسمًا واحدًا وهو السيف. فقال ابن خالويه: وماذا تقول في المهند والصمصام والبتار؟ قال: إنها صفات. يعني بذلك أنها اختلفت لدلالتها على صفات غير الاسم، وذلك كأسماء الله الحسنى، فإنها تدل على صفات أكثر مما تدل على ذوات، وقد حكي أن أبا عبيدة افتخر يومًا أمام الرشيد بأنه يحفظ عشرة أسماء لكل عضو من أعضاء الفرس؛ فقال الأصمعي: إني لا أحفظ إلا اسمًا واحدًا. فاستحضر الرشيد فرسًا، وسأل أبا عبيدة عن تطبيق الأسماء العشرة على كل عضو فلم يعرف، فسأل الأصمعي فذكرها فوهب له الفرس، مما يدل على أن بعض الجامعين لم يكونوا يدققون كثيرًا في دلالة الأسماء على مسمياتها.
والترادف في نظري ليس مزية من مزايا اللغات، بل هو عيب من عيوبها، فإن كان موجودًا في اللغات الحية كالإنجليزية والفرنسية فهو أثر من آثار اللغات القديمة، والمثل الأعلى للغة لفظ واحد لكل مسمى فلا ترادف ولا اشتراك، ولذلك كانت المترادفات في اللغات القديمة أكثر منها في اللغات الحديثة، ومع أن ألفاظًا كثيرة عدت مترادفات وإن لم تكن مترادفة لدقة الفروق بينها، مما أدى إلى عناية بعض العلماء من مستشرقين وعرب إلى تأليف كتب في الفروق، كما فعل أبو هلال العسكري وكما فعل بعض الآباء اليسوعيين — إلا أنها مع ذلك من غير شك كثيرة في اللغة العربية مما ملأ المعاجم بالمترادفات وضخمها ضخامة كاذبة.
وشيء آخر وهو أن القبائل تختلف فيما بينها أيضًا في اللهجات، وقد تكون الكلمة تنطق بها قبيلة بلهجة ثم تنطق بها قبيلة أخرى بلهجة أخرى، كما تختلف اللهجات في مصر بين القاهري والإسكندري والصعيدي والدمياطي، ويتبع ذلك ما روي كثيرًا في كلمات من القلب والإبدال، فمثلًا تقول قبيلة جبذ في جذب، وبكل في لبك، ومثل أن يقولوا: «أشد سوادًا من حلك الغراب» ومن «حنك الغراب» وقال بعض العرب: «فأبعدكن الله من شجرات» وقال بعضهم: من شيرات، وهكذا.
فلما جاء صانعو المعاجم جمعوا هذا كله إلى بعضه من غير أن يتخففوا من اللهجات المختلفة، مكتفين بلهجة ممتازة بالوضوح.
ثم كان أن اختلف العلماء الجامعون للغة في فهم الكلمة أو الجملة من الأعراب، خصوصًا وأن كلمات كثيرة إنما تفهم بالقرائن، فكان عالم يفهمها بفهم، وآخر يفهمها بفهم آخر، وهذا ربما كان السبب في وجود بعض الألفاظ المشتركة مثل قرء في الحيض وفي الطهر، خصوصًا وأن اللغة العربية تعتمد أكثر ما تعتمد على الصيغ القريبة مع الاختلاف البعيدة في المعنى كالفرق بين رجل ضُحَكة وضُحْكة وطلَعه وطلْعه، ونحو ذلك، وقد يدق معنى كل تركيب، ويقع اللغويون في التضارب، ماذا نستنتج من كل ذلك؟
نستنتج من كل هذا أن اللغة قد تضخمت تضخمًا مزيفًا كثيرًا وكانت نتيجة ذلك تضخم المعاجم تضخمًا أيضًا مزيفًا، وقد يكون هذا مقبولًا، لو لم تدهمنا الحضارة الغربية بكثير من المسميات والمعاني، نحتاج معها إلى ألفاظ كثيرة وهي تغمرنا كل يوم بمئات المصطلحات، التي كثيرًا ما نعجز عن مسايرتها، فكان المعقول أن نتخفف من كثير من الكلمات؛ لنفسح مكانًا لها في المعاجم، وقد فعلت قريش خيرًا مما فعله جامعو اللغة العربية ومؤلفو معاجمها، فإنهم صفوا اللغات المختلفة ونقوا خيرها واستعملوه لغة لهم وبها نزل القرآن، فلم يجمعوا كل ما قيل عن القبائل، بل نخلوه واقتصروا على ما حسن وقعه في أسماعهم وراق في أذواقهم.
بقي سؤالان هامان وهما: ألم يرد في القرآن الكريم مترادفات لنثبت أن قريشًا اختارت من اللغات أحسنها؟ والسؤال الثاني: أيهما خير، أنضحي بوحدة القافية في الشعر لتنقية اللغة من المترادفات؟ أم نبقي عليها للإبقاء على الشعر العربي في شكله القديم؟
ومن رأينا في الإجابة على السؤال الأول أن ليس في القرآن مترادفات، وإنما كلمات متقاربة المعنى مثل أفلح وفاز، دقت الفروق بينها، أو على الأقل اختلف وقع الكلمة باختلاف موضعها؛ فقد تكون كلمة أوقع في محلها حيث تكون الأخرى أوقع في محلها الآخر، وقد أدرك الجرجاني في دلائل الإعجاز ذلك؛ إذ قال: إن كلمة (أيضًا) ليست من الكلمات التي تستحسن في الشعر، ولكن وردت جميلة في بيت شعري وهو:
وأما عن السؤال الثاني: فيمكننا أن نهدر المترادفات، ونهدر معها ورود القصيدة على قافية واحدة، خصوصًا وأنه من الصعب في الملاحم وأمثالها، أن نطيل أبياتها على روي واحد وقافية واحدة؛ والمهرب من هذه الصعوبة هو أن تتغير القافية في كل عدة أبيات، كما اضطر البستاني أن يفعل ذلك حين ترجم الإلياذة، وبذلك كله نفسح مكانًا واسعًا في المعاجم للكلمات الحديثة والمصطلحات الحديثة.
وإذا لم تتح لنا فرصة الإجادة في الشعر المرسل كما حدث في بعض اللغات، فليس أقل من أن نغير القافية بين جملة من الأبيات وأخرى، وليست وحدة القافية بالأمر المقدس الذي لا يصح أن نخرج عنه، ولكنه أمر اعتيادي وتقليدي، مرده كله إلى الأذن الموسيقية.