ضيعة الأدب
مما أعجب له تفكك الأدباء في مصر، فليس لهم رابطة تربطهم، وكل أديب حزب وحده، وكما يتراشق السياسيون في سياستهم يتراشق الأدباء، وفي الوقت الذي نرى فيه تكوُّن النقابات للعمال وغيرهم، حتى كان للحلاقين نقابة، لا نجد للأدباء نقابة، وحاول مرة الأستاذ توفيق الحكيم أن يجمع بينهم ليخرجوا مجلة كبيرة تحمل اسمهم فلم يفلح، فكيف يتصافى فلان مع فلان، أو فلان مع فلان، ومن ذا الذي يُرضى أن يكون رئيسًا للجميع، وانقضت الدعوة على لا شيء.
ننظر إلى الأدباء في فرنسا مثلًا، فنراهم كتلة ينتهزون كل فرصة للاجتماع، اجتماع لمؤلف مات منذ عشرين سنة، واجتماع لمؤلف ظهر منذ عشر سنين، وهكذا تتوالى الاجتماعات حتى لا يمر شهر من غير اجتماعين أو أكثر من هذا القبيل، ويفض الاجتماع عن بحوث في أديب تطبع وتنشر، ونحن أردنا مرة أن نجتمع فأسسنا نادي القلم، فتهرب منه بعض الأدباء؛ لأنهم لم يرضوا أن يكون فلان رئيسًا، والذين اجتمعوا لم يفلحوا؛ لأنه كان من الخطأ ضم أدباء الجاليات الأجنبية إلى الأدباء المصريين.
وربما كان من أهم أسباب الانحلال انغماس الأدباء في السياسة الحزبية لا القومية، وتفرقهم تفرق السياسيين؛ لأن كلًّا ينصر حزبًا؛ مع أني أعتقد أن السياسة تفسد الأدب وتفقده الخلود، فالأدب السياسي ابن يومه، والأدباء الذين يقدرون رسالتهم يفهمون أنهم أرقى من السياسيين، بل أرقى من الوزارة نفسها، وأن على أكتافهم عبئًا ثقيلًا، فهم يحملون الأدب من عهد امرئ القيس إلى اليوم، وهم يحافظون عليه ويزيدونه حتى يسلموه إلى الجيل الذي بعدهم، ولو عرضت الوزارة على برنارد شو أو أندريه چيد لسخرا من ذلك كل السخرية وترفعا عن الوزارة، وإن للأدب مجدًا أكبر من مجد السياسة، بل الأديب الكبير يستطيع أن يكون منارًا عاليًا يهتدي به الوزراء أنفسهم، وللأديب من الخلود ما ليس للوزير، بل إن الأديب تخلده الكتابة المترفعة عن الحزبية ولا تخلده الكتابات السياسية.
وأذكر مرة أني وصاحبًا لي كنا نتحدث عن ابن حزم فقلت: إن أباه كان وزيرًا. فقال: ما اسمه؟ قلت: لا أذكر. قال: سبحان الله! أتذكر ابن حزم العالم ولا تذكر أباه الوزير؟! قلت: هو كذلك.
وبلغني أن مرشحًا للمجمع اللغوي الفرنسي كان وزيرًا لفرنسا في أمريكا، فطلب إليه أن يقدم طلبًا ليكون عضوًا، فكتبه على ورقة طبع عليها اسم السفارة الفرنسية في أمريكا، فرفض المجمع ترشيحه؛ لأنه ظن أنه يدل بمركزه السياسي على مركزه في المجمع، وهو يعتقد بحق أن مركزه الأدبي في المجمع أشرف من مركزه السياسي.
ونقطة أخرى يؤسف لها، وهو أن الأدباء عندنا كانوا أدباء مستقلين لا يُعِدّون من يخلفهم، فإذا زالوا زالت مدارسهم، وتسكع من بعدهم طويلًا حتى يختطوا الطريق، لم يفعلوا ما تفعل شجرة الموز، فقبل أن تموت تترك خلفًا لها من جنسها، إنما فعلوا ما فعلت شجرة الورد تنضر حينًا ثم تذبل من غير عقب، إن الأديب كالمتصوف، والمتصوف الكبير ينبغي أن يعد مريدًا صغيرًا حتى تتصل الحلقات، وقرأت بحثًا لطيفًا لابن خلدون في هل يشترط في المتصوف أن يتعلم على شيخ، أو أنه ينال غرضه استقلالًا، فكان من حجج المؤيدين لحجج المشيخة أن هناك أسرارًا في قلب الشيخ، وليست مما في الكتب، والكتب تعلم الناس عامة، والشيخ يعلم المريد ما يصلح له، وما يتناسب مع نفسه وبواعثه وبيئته، وقد كان القدماء لا يقدرون المتعلم يأخذ علمه من الكتب، ويسمونه صحفيًّا، بل حتى لا يكتفون بالأخذ عن الشيخ حتى يكتب له إجازة، وفي كتب التاريخ صور كثيرة من الإجازات، فما بال أدبائنا يعيشون لأنفسهم، ويساعدون على هوة تكون بينهم وبين خلفهم، ونشاهد هذا فيمن بعد جيلنا؛ فقد كان من قبلنا يأخذ عن القدماء بأساليبهم القديمة، ثم جئنا نحن حلقة وسطًا بين القديم والجديد، ثم عيب من يأتي بعدنا أنه يعرف الجديد ولا يعرف القديم، فتراث من قبلنا سيذهب هباء، أو تتراكم عليه الأتربة في المكاتب، مع أن فيه كنوزًا قيمة تناسبنا نحن أكثر من الكنوز الغربية، إن برنارد شو وهـ.ج ويلز وأمثالهما لم يكونوا يستطيعون أن ينتجوا ما أنتجوا إلا بمريدين لهم، يعدون لهم المواد الخامة، ويستفيدون من عملهم، فما بالنا لا نعمل مثل ما عملوا، إنها الأنانية المحضة وعدم التقدير للعواقب، إن الأديب يظن أنه يعمل لنفسه فيربح ما يربح، ويؤلف ما يؤلف، ليشتهر أو ليربح، ويقول: بعدي الطوفان، وليست هذه فكرة إنسانية ولا قومية، وقد علمنا آباؤنا أن نزرع شجرة الزيتون ولو لم نأكل ثمرها في أعمارنا وقالوا: قد زرع من قبلنا فأكلنا، ونزرع ليأكل من بعدنا، إن أخشى ما أخشاه أن يرمي الأدباء أعباءهم فلا يجدوا من يحملها بعدهم، ولست أقول هذا مزدهيًا ولكن أقوله باكيًا، وأخشى أن يمر زمن طويل حتى يرزق الله الأدب من يحمل عبئه، وخير أن يكون الأدب بيعًا يدًا بيد من أن يكون بيعًا سَلَمًا، وكما يحمل تبعة ذلك الأديب نفسه يحملها الأديب الناشئ، فهو ينفر من أن يكون «مريدًا»، ويود أن يتزبَّب قبل أن يتحصرم، أو أن يطلع المئذنة من غير سلم، وما هكذا تنال الأمور، فكم خضعنا لننال، وكم صبرنا لنفهم، وقد عودتنا الأيام أن ليس طريق العلم والأدب سهلًا مُعَبَّدًا، وإنما هو طريق مملوء بالأشواك، لا يسير فيه إلا من تحصَّن بالصبر والأناة.