كيف تتغير الأمم
الأمة في حركة مستمرة دائمة، فهي طورًا إلى الأمام وطورًا إلى الخلف، ولكنها لا تقف أبدًا، وحركتها تحدث في بطء قلما ترى نتائجها إلا بعد عهد طويل، وكثيرًا ما يكون هذا التغير ضروريًّا لتغير العادات والتقاليد التي ينشأ عنها تغير في الأوضاع؛ فمثلًا تغير الطبيعة من صيف إلى شتاء، ومن شتاء إلى صيف، ينشأ عنه تغير في الملبس، وكالذي شاهدناه من سفور المرأة قد نشأ عنه تغير في الملابس وتغير في أوضاع الزواج وغير ذلك.
فالتغير يسلم بعضه بعض، وهو يحدث عادة من الطبقة الراقية الأرستوقراطية، سواء كانت أرستوقراطية في المال؛ فإن الفقير مولع أبدًا بتقليد الأغنياء، أو أرستوقراطية علمية؛ فإن المتعلمين عادة ينقدون الجهلاء في اعتقاداتهم بالأساطير وفي تقاليدهم الوضيعة فيكون التغير.
والتغيير عادة يقابل بالمقاومة، فكل تغيير تقابله بعض الجهات بالعداء، فبكل أمة محافظون يكرهون التغيير ولا يرضون عنه ويعبدون تقاليدهم القديمة، ولا يتم التغيير إلا بعناء، كالسفور وحق المرأة في الانتخاب ونحو ذلك.
وقد تحدث هذه المقاومة بحسن نية؛ إذ يعتقدون أن المقترح الجديد ضار كل الضرر ولا تتغلب العادات الجديدة إلا بعناء، وربما لا يحدث التغيير المطلوب إلا بعد حرب أو ثورة، وذلك عند شدة العداء أو المقاومة.
والمشاهد أن هذا التغير في الأمة إما أن يحدث عن دعوة وقصد، وإما أن يحدث لا عن دعوة ولا عن قصد؛ فالأول يأتي بعد درس لأضرار الحاضر ووضع خطة للعمل على تغييره، مثله حركة النبي محمد ﷺ وحركة أحد السلاطين العثمانيين للقضاء على الانكشارية لما رأى ظلمهم وعسفهم، وحركة قاسم أمين في الدعوة إلى السفور ونحو ذلك.
أما الثاني فمثله هجرة جماعة إلى بلد آخر كهجرة بعض الأوربيين إلى أمريكا؛ فينشأ عن ذلك اختلاط بين سكان البلاد الأصليين، ومواليد جديدة تتخذ طرفًا من هؤلاء وطرفًا من هؤلاء.
ومثل ذلك السينما والإذاعة، فإنهما يقلبان من غير قصد عقول الجماهير وأذواقهم ومداركهم، والتاريخ مملوء بالأمثلة على النوعين، وما الثورة الفرنسية إلا مثل قوي على التغيير من النوع المقصود، وكذلك الثورة الروسية، وهما أيضًا مثلان للثورة على النظم القديمة وعدم الرضا عنها، وربما دلت هذه الثورات وأمثالها على ضرورة شيء هام جدًّا، وهو تعديل الأمة نفسها على حسب الظروف الجديدة، وربما كان من خير الأمثلة على ذلك إنجلترا، فقلة الثورات فيها ناشئة من أنها تنظر نظرة بعيدة إلى الظروف الطارئة فتؤقلم نفسها حسب هذه الظروف؛ فلما شاهدت الثورة الفرنسية غيرت نفسها على مقتضاها، ولما رأت قوة الاشتراكية عدلت أيضًا نفسها على وفقها، ولم تشأ أن تصطدم بها، وربما كان من أسباب ذلك أنها جزيرة بحرية تعلمت من البحر المد والجزر وتعديل النفس حسب الأمواج والرياح.
والتغير في الأمة إذا كان عن قصد كان صعبًا عسيرًا لاختلاف الأفراد في المزاج والثقافات والآراء والرغبات الطموح والأفكار، ورغبة بعضهم في الإصلاح الجديد، وصد بعضهم عنه وغير ذلك، ولذلك قل أن يكون إجماع من الشعب على التغير، وقل أن يكون في البرلمان الممثل للشعب اتفاق على رأي، وفي كل أمة قوم متزمتون يحافظون على القديم ولا يرضون أبدًا عن التقدم خطوة للمصالحة بينهم وبين الأحرار، ولذلك كان الإصلاح البطيء غير المقصود أسلم عاقبة وأقل خطرًا.
وكلما تقدمت الأمم في عقليتها كانت أقرب إلى قبول التغير؛ لأنها في هذا التغير الجديد تعمل عقلها أكثر مما تعمل مشاعرها، والعقل دائمًا أرقى من المشاعر.
أما الأمة الوضيعة فهي أقل قبولًا للإصلاح؛ لأنها تعمل مشاعرها أكثر مما تعمل عقلها، ومن أجل هذا يحتاج المصلحون إلى دعاية قوية حتى تجمع الأمة على قبول التغير الجديد؛ فإذا لم تقبل فليس أمامهم إلا القوة لإخضاع هذه الميول المتأثرة المستبدة، فالاستبداد لا يقابل إلا بالاستبداد، فمتى حصل الإصلاح بالقوة شعر الشعب بعد ذلك بفائدته واطمأن إليه.
ولذلك كان التعليم خير إصلاح؛ لأنه يهيئ الأمة لقبول الآراء الجديدة فإذا تعرض الإصلاح لناحية دينية قوبل المنادي به بأقسى معارضة؛ لأن الدين ينشئ عادات وتقاليد يتمسك بها الناس ويظنون أنهم بهذا التمسك يعبدون الله ويؤدون واجبهم، ويظنون أن من أراد تغيير هذه العادات والتقاليد يريد تغيير الدين، وما أشد ذلك على النفوس، وفي التاريخ كثير من الأحداث الدينية والوسائل السياسية اللتين وقفتا عقبة في سبيل الإصلاح والمصلحين؛ وكثيرًا ما ادعي من الدين ما ليس من الدين، وكثيرًا ما لعبت السياسة دورها الخطير في شعورها أن الإصلاح يضرها، فهي لا تصرح بذلك؛ لأن الجمهور يكشف لعبتها، وإنما تثير الشعوب بإفهامهم أن الإصلاح يضرهم، بينما لا يضر الإصلاح سوى صالح الساسة، وكم من الحريات والإصلاحات كبتت باسم المحافظة على النظام ومراعاة المصلحة العامة.