لماذا كان الدين؟
لنتصور أمة من الأمم عاش أهلها من غير دين، لا مساجد ولا كنائس ولا شعائر، ولا اعتقاد بإله، ولا بيوم آخر، ولا اعتقاد في جزاء: ثواب أو عقاب، فماذا يكون شأنهم وهل يتصور أن يكونوا سعداء؟
إني أتصورهم يعيشون عيشة جافة شقية حتى ولو ساروا في حياتهم وفق العقل؛ لأن أفقهم في الحياة ضيق محدود بعمرهم القصير.
ثم إن الإنسان مكون من عقل وشعور لا يعيش في الحياة من دونهما، وشعوره متأصل فيه أكثر من تأصل العقل، فهو أحيانًا يتصرف في الأمور حسب عقله من تقدير المنفعة أو المضرة، وأحيانًا يتصرف بشعوره وعواطفه، كرحمته على أبنائه والتضحية من أجلهم من غير نظر إلى مكافأتهم له في مستقبل حياته، وهذان العنصران — أعني العقل والشعور — لا بد لهما في الحياة من غذاء كغذاء المعدة، وغذاء العقل العلم، وغذاء الشعور الدين، والحياة إذا أسست على العقل والعلم وحدهما كانت حياة خالية من العطف والرحمة والإنسانية وفي ذلك البلاء المبين.
وإذا كان الإنسان قد كون من عنصرين: عقله الذي يتغذى بالعلم، وشعوره الذي يتغذى بالدين حق لنا أن نقول: إن التدين من طبيعة الإنسان كما أن العقل من طبيعته، ولهذا لازم التدين الإنسان منذ عرف تاريخه في بدوه وحضره، في جميع أقطاره وأقاليمه، في رقيه وانحطاطه، فمهما اختلفت تفاصيل الدين، ومهما تعددت المعابد والشعائر فالإنسان هو الإنسان لا بد له من دين.
والدين يكوِّن عنصرًا هامًّا من عناصر المدنية، قديمها وحديثها، ويؤثر أثرًا كبيرًا في حركات كل أمة سواء كانت حركات سياسية أو اجتماعية حتى في المدنية الحديثة مع إيمانهم التام بالعلم وانطباعها بطابعه لا يزال للدين الأثر البالغ في منازعها السياسية والاجتماعية، فعلاقة الأمم النصرانية بعضها ببعض وعلاقتها بغيرها من أهل الأديان الأخرى وفهمها للحقوق والواجبات ومبادئها التي تسيرها في مجتمعاتها كلها متأثرة بالدين.
ومهما تنازع العلم والدين ودعا بعض الدعاة إلى الإلحاد فإن الدين لا يزال يمس قلوب الناس حتى الملحدين منهم وهم يأبون أن تتخلى قلوبهم عنه؛ لأن هذا هو فطرتهم وطبيعتهم، ومن تجرد من الدين أحس القلق والاضطراب إحساس من شوهت طبيعته.
أساس الدين الإيمان بقوة فوق المادة وفوق أن يدركها العقل، والإيمان بإله يدبر هذا العالم وينظمه ويكافئ المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته، وفي هذا اتفقت كل الأديان الراقية تقريبًا، وإن اختلفت في تفاصيلها وشرائعها.
ولقد كان الدين سببًا في قوة الرابطة بين الجماعة المعتنقة دينًا واحدًا، فكل جماعة تدين بدين يؤلف بينها الدين ويوفق بين أفرادها، ويشعرهم بالوحدة، ويكون أساسًا بينهم للترابط والتعاون، وهذا ولا شك دعامة من دعائم الرقي في المجتمعات، كذلك كان الأمر في الديانات القديمة كديانة قدماء المصريين والصينيين والنصرانية والإسلام، فإذا نحن عددنا الروابط بين الأمة من لغة وجنس وإقليم وجب أن نعد من أهمها رابطة الدين، وكما كانت كل رابطة من هذه الروابط سببًا في تقدم الجنس البشري فكذلك كانت رابطة الدين.
ثم إن الدين أهم باعث على الأخلاق، فهو يدعو إلى الفضائل دعوة حارة، دعوة ممزوجة بالعواطف، دعوة مؤسسة على حب الله — قد يدعو العقل والفلسفة والعلم إلى الفضيلة من حيث هي حق ومن حيث هي نافعة، ولكن دعوة الدين إليها أقوى؛ لأنه يسبغ عليها من روحانياته ويربطها بالثواب في الدنيا والآخرة ويربط بينها وبين الضمير؛ ولذلك كانت دعوة الدين إلى الفضيلة مناسبة للخاصة والعامة بينما كانت دعوة الفلاسفة والعلماء للفضيلة لا تناسب إلا الخاصة، ثم إن الفرق بينهما كالفرق بين ما يصدر عن العقل من نظريات علمية هادئة باردة، وما يصدر عن القلب من حب ممزوج بالحرارة والقوة والحماسة، ولذلك كان أهم التغيرات البشرية على وجه الأرض قد صدر عن الأديان أكثر مما صدر عن الفلاسفة ورجال العلم، بل إن الدين قد أمد الفلاسفة والعلم بروح منه وجعلهما أقرب إلى إدراك الحق والجمال.
الدين هو الذي أنشا المعابد تهتز فيها قلوب الناس وتتحرك عواطفهم في لذة واشتياق إلى هذا الإله الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، والدين هو الذي حرك العواطف لإنشاء معاهد البر والإحسان والملاجئ والمستشفيات فخفف بؤس البائسين وعوز المحتاجين، والدين هو الذي حرك نفوس الفنانين فصاغت عواطفهم أروع الآثار الفنية من مساجدَ وكنائسَ، وهز نفوس الأدباء والشعراء فانتجوا لنا أروع الأدب الصوفي والشعر الديني والابتهالات التي تنبض بالعواطف وتسيل عذوبة ورقة، والدين كان عماد التربية والتعليم بفتح المدارس والجامعات ثم كانت الدراسة الدينية باعثة على غيرها من الدراسات، فالدين الإسلامي — مثلًا — خلف ثروة كبيرة في التأليف وبعث على تدوين كثير من العلوم؛ فقد جمع العلماء اللغة العربية؛ محافظةً على الدين، ودرسوا النحو والصرف؛ لتقويم اللسان في القرآن، ووضعوا علوم البلاغة؛ لفهم إعجاز القرآن، وهكذا.
والدين هو الذي يتجلى في أسمى مظاهر الإنسانية ولا سيما في أوقات الشدائد من عطف على الفقراء ومواساة للجرحى والمنكوبين ومن أصيبوا بزلزال أو بركان أو حريق أو غرق؛ إذ ذاك تتحرك النفوس للنجدة يحدوها الدين.
فلنعد، ولنتصور ما يكون شأن الإنسانية إذا فقدت كل هذه النظم والمؤسسات والعواطف والمشاعر والأخلاق، إن العالم بلا دين، جسم بلا قلب، ومادة بلا روح، إنه آلة جوفاء، إنه قصة فارغة.
نعم قد حدثت في التاريخ أضرار كثيرة باسم الدين، كالغلو في العصبية الدينية، وما نشا عنها من اضطهاد وتعذيب وسفك دماء، وأضرار عقلية كالتي نشأت من الخرافات والأوهام وضيق في الأفق نشأ عنه اضطهاد العلم والعلماء، والفلسفة والفلاسفة، وجمود إلى درجة التحجر، ولكن هذه الأضرار ترجع إلى ما اعترى الدين من فساد لا إلى الدين نفسه، وترجع إلى سوء فهم رجال الدين دينهم على الوجه الصحيح أو فهمهم له فهمًا صحيحًا ولكن شاءوا أن يكسبوا منه ويتاجروا به، أما الدين نفسه ولا سيما إن كان دينًا صحيحًا فلا ينتج عنه إلا الخير.
وبعد، فالدين نعمة على الفرد والمجتمع، هو راحة للنفس؛ لأنه يساير طبيعتها، وهو نعمة على المجتمع الإنساني؛ لأنه يوثق روابطه ويحيي عواطفه ويوجهه نحو الخير، وخير الأديان ما سما بالعاطفة، وأوسع المجال للعقل، وبنيت تعاليمه على خير الفرد وخير الإنسانية.