تنظيم الإحسان
استعملت كلمة الإحسان في معان كثيرة، فاستعملت بمعنى الإتقان مثل قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا، وقوله ﷺ: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة».
وتستعمل بمعنى الفضل والزيادة عن أداء الواجب، فأداء الواجب عدل، والزيادة عنه إحسان، وعلى هذا المعنى قوله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ.
وتستعمل بمعنى التصدق على الفقير والمسكين.
والإحسان قديم وواجب ما دام في المجتمع غني وفقير، ومحتاج وغير محتاج، وربما كان الباعث عليه أول الأمر سد رب الأسرة حاجة أفرادها من أطفال وعاجزين عن الكسب، والإشفاق على ذوي القربى وصلتهم، ثم اتسعت حتى شملت المجتمع بأسره، ثم اتسعت حتى شملت الإنسانية كلها، وحتى شملت الحيوان والنبات، وقد تبنى الإحسان الدين، وجعله إحدى وسائله وربطه بالجزاء الأخروي، والثواب بعد الموت.
وفي العصور الحديثة ربط بالمجتمع واتخذ أشكالًا مختلفة مثل رفع الضرائب عن الفقراء، ومصادرة الأغنياء فيما زاد عن حاجتهم وإعطائه للفقراء، وفتح المدارس لأولاد الفقراء، والملاجئ للعجزة، والمستشفيات للمرضى، وغير ذلك.
وقد كان ينظر إليه على أنه إعطاء مال من فرد لفرد أو جماعة يدًا بيد، وكان عيب هذه الطريقة أن المال قد يعطى لغير مستحقه، ولمن يدعي الفقر وليس فقيرًا، ولمن يتظاهر بالمرض وليس مريضًا، ثم في العصور الحديثة نظم الإحسان حتى حرمت بعض الأمم الإحسان الفردي، وأعطي الإحسان للجمعيات الخيرية والهيئات التي تُعْنَى بذلك، فهي التي تعني بدرس الأفراد وحالاتهم المختلفة، وتتلقى الإحسان من المحسنين، وتتصرف كما ترى.
وأعرف أن بعض الممالك الأوروبية قسم البلاد إلى أجزاء، وخصوصًا المدن الواسعة، وتبرع أفراد، وخصوصًا من السيدات، للقيام بهذا العمل، أعني التبرع بدراسة أحوال الفقير، فكل جماعة تخصصت لحي من الأحياء، وتدخل السيدة منهن بيت الفقير في هذا الشارع فتدرس حالته وأسباب فقره وتقترح العلاج اللازم؛ فقد يكون السبب تعطل رب الأسرة، وقد يكون السبب إدمانه على نوع من المخدِّرات، وقد يكون السبب التبذير وعدم الحكمة في الإنفاق، إلى غير ذلك من أسباب، وبعد الدرس تقترح نوع العلاج المناسب، من إمداد الأسرة بمال أو معالجة المدمن على نوع من المخدرات، أو النصيحة بالاقتصاد في الإنفاق، أو نحو ذلك، ثم تراقب الحالة وما ترتب على العلاج من نتائجَ، ونظروا أيضًا في حالة أولاد الفقراء، حتى لا يؤول أمرهم من الفقر إلى ما آل إليه أمر آبائهم، فعلموهم حسب استعدادهم، ووجهوا اهتمامهم إلى نوع العلم الذي ينفعهم في حياتهم، فوضعوا نصب أعينهم أن العلم للحياة لا للترف العقلي.
على هذا النحو تكونت الجمعيات المختلفة لتنظيم الإحسان، وتبين أن هذا خير من الإحسان الفردي يدًا بيد.
وتعددت أنواع الإحسان في الأمم طبقًا لما يظهر من حاجات، فبعض الأمم جعلت مقدارًا معينًا من اللبن مثلًا من حق كل محتاج — وخصوصًا الفقراء وأطفالهم — تدفع ثمنه الحكومة مما تحصله من الضرائب على الأغنياء.
وبعض الأمم جعلت علاج كل مريض من حقه على الحكومة، والحكومة تعالج الفقير كالغني ممَّا تحصله من الضرائب، ومن ذلك تعليم أولاد الفقراء مجانًا، وعلى العموم نظر إلى الإحسان نظرة اجتماعية خلاصتها تحمل الأغنياء المسائل الضرورية للفقراء.
والإسلام نظر إلى هذه المسألة نظرة جديدة بأشكال مختلفة، فأولًا: فرض الصوم حتى يشعر الغني بحاجة الفقير، وثانيًا: فرض الزكاة على كل من يملك نصابًا حال عليه الحول، وجعلها بمقدار ٢٫٥٪ من رأس المال، وثالثًا: دعا إلى عدم الاكتفاء بهذا الفرض؛ بل الإكثار منه والزيادة عليه بحسب الاستطاعة، فوجدت على أثر ذلك الأوقاف المختلفة الخيرية، عدا الملاجئ والمدارس والمستشفيات وغير ذلك، حتى إن بعض الوقفيات جعلت جزءًا منها يصرف في إطعام الحيوانات، وكلما سرت في شوارع المدن مثلًا ترى الأسبلة المختلفة لري الحيوانات، حتى قال بعضهم: إن الزكاة والإحسان لو نفذا بإحكام ما وُجِدَ فقير محتاج ولا حيوان محتاج.
وقد عقدت الحياة المدنية الحديثة، وجعلت أنواع الحاجات تختلف وتكثر، ولا بد أن يقابلها الإحسان بأشكاله المختلفة المناسبة، وليس كل الإحسان أكلًا وشربًا؛ فقد يكون الإحسان بالتعليم، وقد يكون بنشر الكتب وترقية العقل، وقد يكون بمنع التعطل، وقد يكون بالتوجيه إلى نوع العمل، وأقدر الناس على ذلك هي الجمعيات التي تدرس البيوت المختلفة في الأحياء، وتضع العلاج لكل حالة، وليس يقدر الأفراد على ذلك.
وفي ضوء هذا إذا نظرنا إلى ما يصرف من أموال الإحسان في العالم الإسلامي وجدناه كثيرًا جدًّا، ولكن ينقصه التنظيم، فهناك أموال تصرف في بعثرة على الفقراء أمام الأضرحة، وهناك الإحسانات الكثيرة على المقابر، وهكذا كلها محتاجة إلى التنظيم، فكل زمن تظهر فيه أشياء كثيرة تحتاج إلى إحسان، وهناك أوقاف كثيرة على مشاريع خيرية بعضها أُتخمت بالوقوف عليها وبعضها في حاجة إلى المعونة، فيجب أن ينظر إليها كوحدة، يؤخذ من الجهات الخيرية للجهات الفقيرة، بل إن لولي الأمر أن يوحد أموال الأوقاف ويصرف منها على جهات لم ينص عليها متى ظهرت فائدتها، فلكل زمن حكمه، ولكل زمن حوائجه.
تغير النظر إلى الإحسان من جهتين: الأولى: أنه كان ينظر إليه على أنه تفضل من الغني على الفقير؛ يفعل إن شاء ويترك إن شاء، فجاءت العصور الحديثة وجعلته واجبًا محتومًا لا يفعله الغني تفضلًا بل يفعله أداء واجب، وكان جميلًا تعبير القرآن عن ذلك بقوله: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ.
والثانية: أنه كان ينظر إلى الإحسان على أنه علاقة بين فرد وفرد، فجاءت العصور الحديثة فرأت أنه واجب اجتماعي، فوجود الفقراء في مجتمع مظهر مرض له، والإحسان علاج اجتماعي، ولا يصح المجتمع إلا إذا عولج مرض الفقر فيه، وكما أن الفقر مرض اجتماعي فالإحسان كذلك علاج اجتماعي.
وقد يلحق بهاتين الجهتين مسألة ثالثة، وهي أن الإحسان لا يصح أن يقتصر على المال؛ فقد يكون الإحسان بتوجيه الفقير حتى يكسب، وبتعليم الجاهل حتى يقدر، وبمعالجة المريض حتى يصح، بل قد يكون سلبيًّا لا إيجابيًّا، بمنع المخدرات عن الفقير، ومحاربة الأمراض قبل تفشيها، بل رأى المفكرون في العصور الحديثة أن الإحسان قد يكون جريمة إذا كان إلى شخص كبير أو صغير يحمله الإحسان إليه على أن يتخذ السؤال حرفة، أو يأخذ الصدقة فيتكيف بها، ومن أجل هذا كله أصبح الإحسان لا ينظر إليه بالسهولة التي كان ينظر إليه بها، فيجب أن يوضع محله بعناية وبدقة؛ حتى لا يسبب مرضًا أعظم.
لا يكفي أن يتلذذ المحسن من إحسانه بل لا بد من أن يقابل مرضًا اجتماعيًّا يعالجه.
والأدب العربي مملوء بالشعر الذي يمدح العطاء الفردي، ولكن لا أذكر أني رأيت شاعرًا ينظر إلى الإحسان على أنه واجب اجتماعي، فيجب أن يتحور النظر بتحور الزمن، والله الموفق.