تربية الإرادة
ليس يمكن أي إصلاح خلقي إلا إذا ربينا الإرادة أولًا، فإذا طالبنا شابًّا أو شابة بضبط النفس عند الغضب أو عدم الإسراف في الملذات أو بالشجاعة عند الجبن أو بالعدل عن الظلم، فلا قيمة لكل هذه النصائح ما لم تسبقها عند الشاب أو الشابة إرادة قوية رباها صاحبها لينفذ بها ما اعتقد أنه حسن، ويتجنب بها ما اعتقد أنه ضار، فانصح ما شئت، وكرر النصح ما أردت، فليس لهذا كله قيمة إذا لم يكن المنصوح قوي الإرادة يستطيع بها أن يسيطر على نفسه.
ولكن كيف نربي إرادتنا؟
انظر إلى من يريد أن يتعلم ركوب الدراجة أو كما نسميها «البسكليت» — إن الشخص أول الأمر لا يستطيع ضبطها ولا يحسن السير عليها، فهو يتأرجح مرة ذات اليمين ومرة ذات اليسار، وكثيرًا ما يبدأ ثم يقع، وأخيرًا وبعد جهد جهيد تستقيم في يده البسكليت — ويسير بها سيرًا حسنًا ويعدو بها ويتجنب الأخطاء حتى ليأتي بالأعاجيب في السير بها، فماذا حدث؟ البسكليت هي البسكليت لم تتغير، وهي دائمًا مطيعة خاضعة، ولكن الذي تغير هو راكبها؛ فقد كان لا يحسن حركاته ثم أحسنها، ولا يمكنه ضبط نفسه عليها، ثم ضبطها، فالتغير إنما حدث في النفس لا في البسكليت، كذلك الشأن في كل أنواع الحياة، لا بد من السيطرة أولًا على النفس ثم مواجهة الأحداث، لا بد أولًا من تربية الإرادة، وبعد ذلك يمكن مواجهة المشاكل بالإرادة وحلها، إن ضعيف الإرادة يتأرجح في أمره كما يتأرجح راكب الدراجة عند ركوبها لأول مرة، فإذا هو ربى إرادته سار سيرًا متوازنًا معتدلًا متجنبًا الأخطاء، كما يفعل راكب الدراجة إذا اعتادها، وكما يحتاج راكب الدراجة إلى جهد جهيد أول أمره حتى يستقيم له السير، وحتى يسير سيرًا هينًا من غير بذل جهد كبير، كذلك الشأن في تربية الإرادة يحتاج المرء أول أمره إلى كبير جهد وقوة تصميم وصحة عزم واحتمال الشدائد، ثم تسير الأمور بعد ذلك في يسر وسهولة من غير جهد ملحوظ، ولذلك جاء في الحديث: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى»، فمن صبر على الشدة الأولى في تربية إرادته كان ما بعدها أهون، إن الذي يفسد الإرادة أن تعزم وتعدل ثم تعزم وتعدل، فيكون شأنك شأن بكرة الخيط يلقي صاحبها عليها الخيط ثم ينقض ما لف.
وبعد ما يصير المرء على شيء الذي يريده ويربي فيه إرادته، يصبح عادة يأتي به من غير عناء كبير، فالرجل الفاضل الذي اعتاد الإتيان بالأعمال الفاضلة كالرجل الشرير الذي اعتاد أن يأتي بالأعمال الشريرة، كلاهما تصدر عنه الأعمال في يسر وسهولة، وليس من فرق بينهما إلا أن الأول وجه إرادته وعوَّدها أعمالًا صالحة والثاني وجه إرادته وعوَّدها أعمالًا سيئة.
وكثير من الشباب يقع في العادات السيئة من غير تفكير ومن غير قصد، إنما هم ينساقون مع التيار، يجدون بعض الشبان المستهترين يتجهون اتجاهًا سيئًا فيسيرون في اتجاههم من غير وعي ولا تفكير ولا إعمال عقل في النتائج، وكان يجب أن يقدروا هذا الاتجاه ويزنوا نتائجه، ثم يسلطوا إرادتهم لتجنيبهم هذا الاتجاه السيئ.
إن أكثر ما يفسد الشبان ويضعف إرادتهم هو الإغراء؛ يجلس الشاب مثلًا مع بعض أصحابه فيجد اثنين منهم أو ثلاثة يدخنون، فيعزمون عليه بسيجارة، فيأبى؛ فيلحون عليه، ويبررون تدخينهم بمبررات، مثل أنه يبهج النفس ويزيل الكرب أو نحو ذلك من علل فاسدة، فيشرب أول سيجارة فلا يحس لها طعمًا وقد يشعر بشيء من الدوخان فيكرهها وينفر منها، ولكن قد يوجد في مثل هذا الظرف فيشربها ثانية فلا يحس بالألم الأول، وإذا هو مدخن مثلهم، ولو جرد إرادته للمرة الأولى واعتزم ألا يدخن، ما وقع في هذه العادة السيئة، وقل مثل ذلك فيمن يشرب الخمر أو يجري وراء الفتيات أو نحو ذلك من عادات سيئة كلها، إنما يقع الشاب بسبب ما يحيط به من إغراء، ومتى وجد الإغراء وجب على الشاب أن يتسلح بالإرادة القوية؛ ليتقي الوقوع في مثل هذه العادات.
كثيرًا ما يحدث أن يسكر سائق قطار ويفرط في الشرب فيخطئ في تسيير القطار ويعرض أرواح الراكبين فيه إلى أشد الأخطار، وقد روي لنا كثير من هذه الأحداث، فلنتصور كيف يجني سائق هذا القطار على من يحمل مسئوليتهم من الركاب، ولنتصور الفزع الذي يعرض للركاب لو علموا بحالة سائقهم، والحقيقة أن كل إنسان هو سائق قطار، أعني أن نفسه تسوق قطارًا، وأن مثل العادات السيئة مثل الخمر الذي يشربها السائق تقوده إلى أشد الأخطار، وليس هناك دواء لتجنب هذا الخطر إلا الإرادة القوية التي تحمي صاحبها من السكر عند سوق القطار … ومع الأسف كثير من الشبان لا يفهمون هذا، ويسوقون قطار أنفسهم وهم سكارى، ولا يفيقون من سكرهم إلا بعد الاصطدام وفوات الوقت وخسارة النفس.
لا بد أن يعوِّد الشاب نفسه إيقاظ العقل وقوة الإرادة والشعور بالواجب؛ ليقاوم هذا الإغراء، مثل ذلك مثل من استحلى النوم في السرير مع مجيء موعد عمله، فإنه إذا استسلم للنوم والخمول والكسل ضعفت إرادته، ولكن إذا أشعر نفسه بواجبها ونبه وعيه لوجوب الانتباه والقيام من السرير لمباشرة عمله استطاع بذلك أن يقاوم الإغراء ويباشر العمل، وهكذا الشأن في شؤون الحياة كلها، إذا استسلم للراحة واستسلم للإغراء خمل عقله ونامت إرادته، ولم ينتبه إلى ما يجب أن يعمل إلا بعد فوات الأوان.
وعظماء الناس إنما كان سر عظمتهم في قوة إرادتهم وإطاعة عقلهم لا شهوتهم، وتمرين إرادتهم على العمل الجاد أمام الصعاب الحادة، إن الرجل العظيم يتلذذ من مقاومة الإغراء ويتلذذ من السيطرة على نفسه، ويحس اغتباطًا من أنه غلب الإغراء ولم يغلبه الإغراء، وصبر على الشدة ولم يخضع لها، وفي التاريخ أمثلة كثيرة من هذا القبيل، فقول رسول الله ﷺ: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته»، معناه أن أي إغراء مما اعتاد الناس أن يخضعوا له ويتركوا مبادئهم من أجله لا يغريني، ولا يؤثر في مبادئي وتعاليمي.
وموقف أبي بكر يوم ارتد كثير من العرب وأبوا أن يدفعوا الزكاة ونصح بعض الناس له بأن يلين معهم ورفضه ذلك وتصميمه على الحرب وألا يقبل من العرب إلا الإسلام كله كاملًا من غير أن ينقص منه شيء، قوة في العزم وقوة في الإرادة ومقاومة للإغراء.
وموقف ابن تيمية وقد أراده السلطان على أن يعدل عن رأيه الذي وصل إليه باجتهاده وبحثه فأبى، ثم حبسه وعذبه فأبى، وكان وهو في السجن يكتب الكتب يشرح بها مبادئه وتعاليمه ويستدل على صحتها، ثم لما منع عنه القلم والورق أخذ الفحم وصار يكتب به على حيطان السجن في شرح أدلته وبراهينه على تعاليمه، مثل صالح كذلك على قوة الإرادة وصحة العزم وشدة التصميم، وعدم الاستماع إلى المغريات أو التخويف بالعقوبات.
وكثير من المؤرخين كانوا يرون أن سر نجاح نابليون في حروبه كان في سرعة تصميمه ومواجهة العدو بكل قوته.
وعلى كل حال فتربية الإرادة وقوتها وتعويدها مقاومة الإغراء سر النجاح وسر الاستقامة وحصن حصين من الزلل، ومن ربى إرادته أمكن إصلاحه وأمكن حسن توجيهه، ومن فقد إرادته فلا أمل مطلقًا في تقويمه إلا أن يبدأ من جديد، فيعالج نفسه كما يعالج المريض، ويصبر على العلاج المر حتى يشفى من الداء.