الاحتكام إلى العقل
أؤكد لكم أن أكثر المنازعات والخصومات سببها عدم احتكام الخصمين أو أحدهما إلى العقل — سواء في ذلك النزاع بين الزوجين في البيت، أو بينهما وبين الأولاد، أو نزاع الناس في الشارع أو في المجالس، أو نزاعهم أمام المحاكم، أو النزاعات السياسية بين الأحزاب أو بين أعضاء الحزب الواحد — فكل هذه المنازعات — على اختلاف ألوانها — لو حكم فيها الطرفان المتنازعان العقل لارتفعت الخصومة وحل الوفاق محل النزاع والخصام، هذا النزاع بين الزوجين على ميزانية البيت — مثلًا تريد الزوجة ملابس جديدة تكلف الزوج مائة جنيه أو أكثر أو أقل، ويأبى الزوج أن يدفع هذا المبلغ كله أو بعضه، ويشتد هذا النزاع، وقد يتطور إلى أخطر النتائج، ما سببه؟ سببه عدم تحكيم العقل إما من الزوجة أو من الزوج أو منهما معًا، فإذا حكم العقل قال العقل ما يأتي: هل للزوجة حاجة إلى هذه الملابس! ونعني بالحاجة ما يشمل الزينة وظهورها أمام مثيلاتها بالمظهر اللائق بها ونحو ذلك؟ فإذا كان الجواب بالنفي استبعد هذا الطلب، وإن كان بالإيجاب انتقل العقل إلى سؤال آخر وهو: هل مالية الزوج تسمح بهذا الطلب كله أو بعضه؟ وهل هناك مطالب أهم من هذا المطلب، كمصاريف المدارس للأولاد أو نحو ذلك؟ فإن كانت مالية الرجل تسمح بكل ذلك، وتسمح بادخار بعض المال للطوارئ كان المعقول أن يجاب الطلب وإلا حكم العقل بتقديم الضروريات على الكماليات وبأن الزوجين يجب أن يتفاهما على تقديم الأهم على المهم، والحاجيات على الكماليات، ونزلت الزوجة على حكم العقل فنقصت ما تطلبه إلى الحد الأدنى حتى تكفي مالية الرجل، فإذا تم هذا التفاهم وخضعا معًا لحكم العقل فلا نزاع ولا خصام، وهكذا الشأن في مطالب الأولاد — وإنما يأتي النزاع من أن الزوجة تحكم رأيها وتطلب المال ولو «من تحت الأرض» ولو بالاستدانة، ولو ببيع ما يملك، وهذه مطالب غير معقولة، أو أن الزوج يكون عنده المال الكافي لكل هذه المطالب ويصمم على ألا يصرف؛ لأن الصرف يؤلمه أو أنه يبالغ في الاحتياط للمستقبل، أو لأنه مصاب بالبخل ولا يتزحزح، فيكون التشاحن الدائم والمعيشة التي تقصر العمر وما سبب ذلك إلا عدم الاحتكام إلى العقل.
وقل مثل ذلك في الخصومات السياسية بين الأحزاب، هؤلاء ينظرون إلى المسألة من ناحيتهم الحزبية ويكونون فيها رأيًا ينفع الحزب ويعلي شأنه، وهؤلاء يقفون مثل موقفهم وينظرون فقط إلى ما ينفع حزبهم، فتتصادم الرغبات وتثار الخصومات، ولكن إذا حكم العقل قال: إن الأحزاب وتعددها ونظمها إنما وضعت لخدمة الأمة ومصلحتها، فالحكم في الأحزاب وتصرفاتها هو هذه المصلحة، فإذا ثارت خصومة في مسألة فلتقس منافعها ومضارَّها للأمة لا للحزب، وإذا قومت الأمور هذه القيم العامة بين وجه الحق، وإنما يعميها اختفاؤها وراء المصلحة الحزبية ودوران المناقشات حول الأغراض الحزبية وهكذا.
ولكن — مع الأسف — ليس تحكيم العقل في المسائل بالأمر الهين، وإنما يحتاج إلى تربية نفسية شاقة، وتمرين طويل، فكثيرًا ما يكون الباعث على العمل هو الشهوة والمصلحة الذاتية والوصول إلى منفعة شخصية معينة، ولكنها تعمل في الخفاء، وتظهر بمظهر العقل، ويدور الجدل بالمنطق والحجج، وفي الحقيقة ليس هناك منطق ولا حجج، وإنما هو ثوب براق لماع ينسجه شخص باسم العقل؛ ليخفي به الشهوة والمنفعة الذاتية أو الحزبية، هذه الزوجة رأتك تنفق على أهلك المحتاجين بعض ماهيتك فغاظها ذلك؛ لأنها تريد ماهيتك كلها لها ولأولادها، فهي تخلق المطالب غير الضرورية خلقًا، وتقيم ألفي دليل ودليل على أنها في الضرورة القصوى من الحياة، وليس هذا هو العقل ولكنه غطاء العقل، وليس الذي يوجد التفاهم هو العقل المزيف ولكنه العقل الصحيح.
وهذا حزب تحركه الرغبة في الحكم ولكن هذا لا يمكن أن يقال، وإنما الذي يقال هو مصلحة الأمة والصالح العام ونحو ذلك، وتصاغ الحجج العقلية لخدمة هذا الغرض الذاتي، فلا يكون التفاهم؛ لأنه مؤسس على العقل المزيف.
وهذا رئيس مصلحة، مصلحته في ترقية شخص معين؛ لأن ترقيته تعود عليه بمنفعة شخصية، فيخلق من العلل والبراهين ما يبرر به طلبه مدعيًا أنه أكفأ أو أنزه أو أصلح ونحو ذلك، فيسبب عمله خصوماتٍ سببها عدم الرجوع إلى العقل الصحيح وهكذا.
ومن أجل هذا قلت: إن الرجوع إلى العقل شاق عسير، وكثيرًا ما يخدع الإنسان نفسه، ويظن أنه محق فيما يقوله وما يبرهن عليه، وهو في حقيقة الأمر مخدوع قد غشته نفسه.
وكثير من الخصومات المالية يرجع إلى هذا السبب، كل يكوِّن له رأيًا مبنيًّا على ما ينفعه أكبر نفع ويربحه أكبر ربح، وكل يعتقد بناء على ذلك أن نظره هو الصحيح، ونظر غيره هو الباطل، والحق أن المنفعة الذاتية هي التي توجه كلًّا منهما.
ومن أجل ذلك كان الرجل المحايد الذي لا ينتفع بهذا الرأي أو ذاك أقدر على تحكيم العقل والوصول إلى الصواب، قد يكون الخصمان معقولين كل منهما ينظر إلى المسألة نظرًا مجردًا عن الهوى ومع ذلك يختلفان، وكثيرًا ما يكون السبب في ذلك أن كلًّا منهما ينظر إلى المسألة من زاوية غير الزاوية التي ينظر منها الآخر، فمن الحكمة أيضًا أن يسائل الإنسان نفسه: ماذا أعمل لو كنت محل خصمي، وأي الآراء، وأي البواعث حملته على أن يرى هذا الرأي المخالف لرأيي؟ وفي هذه الحالة قد يعدل عن رأيه إلى رأي صاحبه أو على الأقل يعذره.
وبعد، فنعمة من الله كبرى أن يكون لدى الإنسان روح التعقل … إن البيت يكون سعيدًا إذا ساده روح التعقل، وقد سئل حكيم صيني: ماذا تشترط في الزوج الذي يتقدم لابنتك الوحيدة؟ قال: شرط واحد؛ هو أن يكون عنده روح التعقل.
ونعمة من الله كبرى أن يسود الأمة روح التعقل، إذن لرأيت الخصومة بين أحزابها، خصومة معتدلة معقولة، وصحافتها نافعة معقولة، ومجالس هيئاتها تتجادل في المسائل وتبت فيها في الحدود المعقولة، والرأي العام يمدح وينقد ويؤيد ويعارض في الحدود المعقولة … بل أوكد أن المنازعة بين الأمم تنقطع أو على الأقل تخف حدتها ويسود السلام إذا احتكمت إلى العقل دون الشهوات والمطامع.