مركب النقص
مما اكتشفه علماء النفس الحديثون مرضان نفسيان، يسمى أحدهما مركب النقص، ويسمى الآخر مركب التسامي، وقلما يخلو إنسان من أحدهما أو منهما معًا، ويستطيع الدقيق النظر أن يفسر كثيرًا من تصرفات الناس بما عنده من هذا المرض.
فأما مركب النقص فهو شعور يستولي على الإنسان بأنه ناقص في ناحية من نواحيه الجسمية أو الخلقية او العقلية، فيحاول بسلوكه أن يظهر بمظهر السليم من هذا المرض، ويكون ذلك الشعور في أعماق نفسه، قد لا يستطيع المريض نفسه أن يدركه، ولو سألته عنه لأجابك بالنفي ولكنه حقيقة واقعة يتصرف المريض به تصرفات كثيرة للتبرؤ منه، ولو دققت النظر لوجدت آلاف التصرفات تصدر من الإنسان لهذا الشعور بالنقص، هذا رجل قصير القامة تراه يحب أن يلبس طربوشًا طويلًا وجزمة عالية الكعب؛ لأنه يشعر بنقصه في قصره، وهذه امرأة سمراء تكره كلَّ الكره أن يكون لها خادمة بيضاء؛ لأنها تشعر بالغيرة منها وتخاف أن يشعر زوجها بسمرتها بالمقارنة بخادمتها البيضاء، وهذه امرأة ولدت ثلاث بنات ولم ترزق بصبي فتشعر بنقصها وتكره أن تسمع الأحاديث عن المرأة التي خلفت صبيانًا فقط، وهذه فتاة تزوجت زواجًا فاشلًا فهي تكره كل الكره أن تسمع بأمثالها اللائي سعدن بأزواجهن، وهذا موظف لم يأخذ الدرجة الثالثة التي يستحقها فيغيظه أن يسمع عن أشخاص أخذوها ويسره أن يسمع أخبار من حرموا منها أشد من حرمانه، وهكذا من آلاف الحوادث التي تحصل أمامنا كل لحظة … إن الطفل يحب البنطلون الطويل ويحب أن يمسك عصا؛ لأنه يشعر بنقصه، والمرأة تغالي في زينتها إذا أحست بنقص جمالها، والرجل يبالغ في الإسراف في المال إذا أحس بنقص جسمي يريد أن يعوضه.
وكثير من تصرف أفراد العائلة يصدر عن شعور بالنقص في ناحية من النواحي يراد سترها، ولما كان هذا الداء كثيرًا ما يخفي فهو كذلك كثيرًا ما يعالج خطأ، ولو عرف الداء على حقيقته لعرف الدواء على حقيقته، وكذلك الناس في مجتمعاتهم ومعاملاتهم المالية وغير المالية.
لي ابن تخرج في مدرسة عالية وهو يلح أن يعين في وظيفة خارج القاهرة مع أنه سعيد في بيته، موفرة عليه راحته، حاولت أن أعالجه بالضغط فلم ينجح وأخيرًا اكتشفت السبب، وهو أنه ذو شخصية يريد أن يظهرها كاملة ولا يتأتى له ذلك مع شخصيتي، فشخصيتي في البيت أكبر من شخصيته، فهو يريد أن يتخلص من هذه الشخصية التي طغت على شخصيته بأن يوظف خارج القاهرة، فلما عرفت هذا السبب أمكن وضع العلاج.
وكذلك قد يتنازع الرجل والمرأة في البيت فإذا استفسرت عن سبب النزاع قيل لك أسباب تافهة، ولكن الحقيقة أن وراء هذه الأسباب أسبابًا أخرى هي مركب النقص عند الرجل أو عند المرأة، ولو سألت أي إنسان: هل عنده مركب النقص في كذا؟ لنفى ذلك نفيًا باتًّا.
وتصرفات الناس تختلف اختلافًا كبيرًا حتى في مركب النقص الواحد، كالذي حكي أن ثلاثة أطفال دخلوا مع أمهم حديقة الحيوان، فلما وصلوا إلى حجرة الأسد، ورأوه يزمجر اختفى أحدهم وراء أمه وقال: «إني أريد الذهاب إلى البيت»، والثاني اصفر وجهه، وارتجف جسمه وقال: «لست بخائف» والثالث حملق في وجه الأسد وقال لأمه: «هل تسمحين لي أن أبصق عليه؟» فالثلاثة كان عندهم مركب نقص واحد وهو الشعور بالخوف من الأسد ولكنهم تصرفوا تصرفاتٍ مختلفة كلها تدل على الخوف.
وفي كثير من الحالات تكون مظاهر النقص واضحة، ولكن قد تختفي وتعمق حتى يصعب تفسيرها، ترى جندي البوليس شديدًا على الباعة الجائلين، ولكن تعليل ذلك أنه شاعر بالنقص التام أمام ضابط البوليس، فهو يريد أن يرضيَ نفسه الضعيفة بقوته الظاهرة على الباعة، وكذلك ترى الرجل هرة وديعة ذليلة في مصلحته، ويريد أن يكون أسدًا في بيته، أو هرة في بيته فيريد أن يكون أسدًا في مصلحته، وترى آخر يشعر بنقصه العقلي إذا قورن بعقل زملائه، فيحدث كثيرًا عن ذكائه، أو كذوبًا فيتحدث كثيرًا عن صدقه، أو فاشلًا في عمله فيرضي نفسه بأن الدنيا فانية والناجح والفاشل مصيرهما معًا إلى الموت، وهذه كلها منشؤها شعور باطني بالداء وبالنقص، ولكن ليس في شيء من هذا علاج للمرض، فالمرض إذا عولج بهذا النوع من العلاج بقي كما هو يعمل في نفس صاحبه.
إن الشعور بالنقص يوتر الأعصاب فينشأ عنه رد فعل بالتسامي، كالكرة من الكاوتش تضربها في الأرض فتنضغط ثم تعوض ذلك بالارتفاع، فإذا رأيت طفلًا يتظاهر بالقوة أو رجلًا يتبجح، أو عالمًا مغرورًا، فاعلم أن ذلك تعبير عن شعوره العميق بالنقص، وكثيرًا من طرق العلاج ليست صحيحة، فالطفل الذي يبكي إنما يبكي لشعوره بنقص، فإذا دلل واستجيبت طلباته اعتقد أن البكاء وسيلة صحيحة لحصوله على حاجته، فأكثر من البكاء كلما شعر بحاجته، ونمت عنده هذه العادة حتى إذا كان مراهقًا كان مدللًا لا يعتمد على نفسه، ويتخذ الغضب أو الدموع أو كثرة الشكوى وسائل من وسائل تغطية شعوره بالنقص.
وكثيرًا ما يتولد الشعور بالنقص من الفشل في الحياة، خصوصًا في أول مواجهتها، فالطفل في المدرسة الابتدائية إذا كان ترتيبه متأخرًا، أو وبخه مدرسه على التقصير كثيرًا، وجد عنده هذا الشعور بالنقص، ومن حاول التجارة أو الصناعة فأصيب بالفشل في أول أمره ولد لذلك أيضًا عنده الشعور بالنقص، والفتاة التي بلغت سن الزواج ولم تتزوج تولد عندها هذا الشعور، والموظف إذا لم يرضَ عنه رؤساؤه وزملاؤه شعر بهذا النقص أيضًا وهكذا.
وكل شعور بالنقص يستلزم من صاحبه سلوكًا خاصًّا يغطي به نقصه، إما بأن يظهر بمظهر الرجل الكامل أو يعتزل الناس ويكره مقابلتهم والاختلاط بهم، أو يكثر الغضب، أو يعتقد في الناس السوء، أو يكثر الشكوى منهم أو نحو ذلك، فكثير مما نراه من عيوب الرجل أو المرأة يمكن إرجاعه إلى مركب النقص فيه، غاية الأمر أن مركب النقص هذا قد يكون واضحًا يمكن الوقوف عليه في سهولة ويسر، وقد يكون عميقًا اختفى في اللاوعي من قديم حتى احتاج إلى تحليل نفسي طويل ليمكن العثور عليه.
وكل التظاهر بالتغطية ليس علاجًا صحيحًا، فمن عالج نقصه بالغضب أو البكاء أو الشكوى فليس هذا علاجًا، ومن عالج نقصه بالخجل أو اعتزال الناس أو كثرة الحديث عن نفسه أو الظهور بمظهر الأبهة والعظمة فليس هذا علاجًا، بل كل هذه مظاهر للمرض لا تعالجه ولا تستأصله، وليس كل شعور بالنقص عيبًا مذمومًا، بل أحيانًا يكون فضيلة، فالناس إنما طلبوا العلم وتبحروا فيه واستكشفوا قوانينه لشعورهم بنقصهم، والأمم التي حاربت لنيل استقلالها وإخراج المستعمر من أرضها وطلبها السيادة لنفسها إنما فعلت ذلك لشعورها بنقصها تحت الاستعمار وفي ظل العبودية.
والذي يشعر بنقصه في خلقه أو عقله أو نفسه ثم يستكملها يكون الشعور منه بالنقص فضيلة، إنما الرذيلة أن يشعر بالنقص فيسكت عنه أو يعالجه علاجًا خاطئًا فيغطي النقص بالتظاهر بضده، يكون بخيلًا فيتظاهر بالكرم وجبانًا فيتظاهر بالشجاعة، وكذوبًا فيتظاهر بالصدق، وهكذا فكل هذا التظاهر لا يقلل من النقص شيئًا بل يزيده تأصلًا.
وأما الشعور بالتسامي، أعني الشعور بالرفعة والعلو والسمو، فيكون مرضًا إذا جاوز الحد ووضع الإنسان نفسه فوق ما يستحق، وفيما عدا ذلك يكاد يكون طبيعيًّا في كل إنسان، فكل إنسان يصبو إلى الكمال وإلى أن يكون خيرًا مما هو، وليس في هذا عيب بل هو فضيلة، بل إن الأخلاقيين حثوا عليه ووضعوا وسائلَ كثيرةً لتحقيقه، كقراءة سير الأبطال وكبار المصلحين، ورجال الدين حثوا عليه من ناحية التشبه بالله والاقتداء بالرسل وبخيرة الصالحين، ولكن العيب أن يتطلب كمالًا لا تستطيعه نفسه ولا يمكن أن تبلغه قواه ولا ملكاته، كضعيف العقل يريد أن يكون فيلسوفًا، أو جبانًا يريد أن يكون قائد حرب أو نحو ذلك من السخافات، ومن العيب أن يتطلب الكمال ولا يعمل لتحقيقه، يتطلبه قولًا لا عملًا، أو يتطلبه لغاية غير شريفة، قد يتطلب الشاب المتعلم أن يكون طبيبًا ولكن شتان بين من يريد أن يكون طبيبًا ليجمع المال من جميع الوجوه ولا يرحم فقيرًا ولا يسعف مستغيثًا وبين من يريد أن يكون طبيبًا لخدمة الناس ورفع الآلام عنهم ولا بأس بالمال يأتي في اعتدال، وقد يتطلب الشاب أن يكون معلمًا ولكن شتان بين من يريد أن يكون معلمًا؛ ليظهر سيطرته على الطلبة، أو ليجمع المال بالدروس الخصوصية أو نحوها، ومن يريد أن يكون معلمًا ليحارب الجهل في المتعلمين ويفتح زهرتهم ويرفع مستواهم مع ما يفيض عليه ذلك من رزق حلال، وكذلك شتان بين من يريد أن يكون موظفًا كبيرًا؛ ليستطيع أن يؤدي للناس خدمات كبيرة بقدر ما تسمح له قوته ويسمح له منصبه.
لا عار مطلقًا في الشعور بالتسامي بل هو واجب، ومن فقد الشعور بالتسامي فقد فقد طعم الحياة، بل إن الأمة التي فقدت شعورها بالتسامي فرضيت باستعمار الأجنبي ورضيت بنظامها الداخلي السيئ ورضيت بحالتها التعيسة في الشئون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أمة لا تصلح للبقاء، إنما تصلح للبقاء يوم تتسامى، يوم يغمرها الشعور بالتسامي ويكون شعورًا قويًّا صادقًا لا يكتفي بالقول دون العمل، ولا يقتنع بالتظاهر دون الحقيقة، والشعور الصحيح بالتسامي هو شعور يستتبع العمل على تحقيق ما تسمو إليه.