ورقة بن نوفل
في الحديث أن رسول الله ﷺ لما أوحي إليه في أول مرة في غار حراء رعب وتمالكه البرد، حتى ذهب إلى زوجته خديجة فقال لها مرة: زملوني زملوني. ومرة: دثروني دثروني. ودُعِيَ في إحدى صور القرآن: يا أيها المزمل، وفي الأخرى: يا أيها المدثر، فأشكل الأمر على محمد نفسه، وعلى زوجته خديجة، فأشارت إليه بأن يذهب إلى ابن عمها ورقة بن نوفل؛ إذ اختلط عليهما الأمر: هل هذا وحي من وحي الكهان، أو هو وحي من جنس وحي الأنبياء، أو هو مسٌّ من الجن، أو ضرب من الجنون، أو نوع من الإلهام كالذي يجده الصوفي؟ كل ذلك جائز، فذهبا إلى ورقة بن نوفل، فسأل ورقة أسئلة خاصة، وامتحن امتحانات خاصة؛ فأولًا استبعد أن يكون ضربًا من الجنون أو مسًّا من الجن؛ لأنهما ضربان مؤذيان، وكان محمد ﷺ خيِّرًا؛ يصل الرحم، ويحمل الكَلَّ، ويعين على نوائب الدهر، إذًا فالله لا يخزيه بالجنون أو بمس الجن، كما قالت خديجة: «كلا، لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ وتعين على نوائب الدهر» فهو حقيق إذًا بالإكرام لا بالامتهان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان! ثم كان أن سأل أسئلة عن طريقة الوحي، وسمع الإجابة عنها، فكان أن علم أن هذا الوحي من جنس الوحي الذي نزل على الأنبياء قبلًا، وإلى ذلك أشار بقوله: «ذلك الناموس الذي نزل على موسى»، وبذلك طمأن النبي، وبشره بالنبوة، وشد قلبه ليتابع هذا الوحي باطمئنان، فأدى ورقة بذلك خدمة جليلة للإسلام.
وفي الأخبار أنه ابن عمّ لخديجة، كان قد تعلم العبرانية وقرأ كتبها، ورضي بالمسيحية مجردة من الخرافات والأوهام، وكان رجلًا كبير السن هامة اليوم أو الغد، محترمًا في قومه مصدقًا في قوله، قد أنست به خديجة؛ لأنه في حكم قرابتها كأبيها، فإن غش أحدًا لا يغشها، وكان معروفًا بين قومه بالدعوة إلى الخير والتعاون وعدم التشاحن؛ لذلك لجأت إليه خديجة، وكان شهمًا رأى بالفراسة وبعلمه عن الأنبياء الأولين، وأن فريقًا منهم كذب، وفريقًا قتل، أن محمدًا سيوحى إليه، وسيكون نبيًّا، وسيؤذيه قومه وسيخرجونه من بلده، ولذلك ودَّ ورقة أن يعيش حتى يرى محمدًا نبيًّا فيؤازره ويكون معه؛ إذ يخرجه قومه، فقال له محمد ﷺ: «أومخرجيَّ هم؟!»، قال له ورقة: «ما أتى أحد بمثل ما أُتيت به إلا أوذي»، وقد علم ورقة مما قرأ وعلم أن هذا الهيكل البشري لا بد أن تكون قد اتصلت به روح غريبة من جنس ما كانت تأتي للأنبياء من قبله، نعم إن أرواحًا كاذبة كانت تتصل ببعض الخلق كالتي جاءت للكهان، والتي جاءت لسليمة ولطليحة ولسجاح ونحوهم، ولكنها ليست من جنس التي تأتي للأنبياء، وهناك أرواح طيبة دون الأرواح الأولى تنزل على بعض الأشخاص كالتي نزلت على ابن الصياد، وكان منظرًا لطيفًا أن رآه محمد ﷺ واجتمع النبي مع المتصوف وقد خبأ له دخانًا مما تخرجه النار على حد الأقوال، أو ذكر آية الدخان في سورة الدخان: يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ، ثم سأله ماذا خبأت؟ فقال له: الدخان، فسأله محمد ﷺ عن هذا الوحي الذي يأتيه، فقال: إنه مرة يصدق وحينًا يكذب، فعلم النبي من ذلك أنه ليس نبيًّا؛ لأن النبي لا يكذب، ولا يخيب أبدًا، وإنه على حد تعبيرنا اليوم يستطيع أن ينوِّم نفسه تنويمًا مغناطيسيًّا، فهو يجيب إجابة صادقة عن الأشياء التي يعرفها السائل ويسأل عنها ليختبر المسئول، أما ما لا يعرفه السائل من الأمور المستقبلة، فهي بين الصدق والكذب؛ وذلك شأن المنوّمين تنويمًا مغناطيسيًّا اليوم، على كل حال كان ورقة بن نوفل عالمًا بكل هذه الضروب، أيها لنبي، وأيها لولي، وأيها لكاهن، وأيها لكاذب.
وقد كان ورقة بن نوفل من هؤلاء العدد القليل الذي كان يكره الشرك ولا يرى خيرًا في اليهودية والنصرانية ويختار لنفسه دينًا يرتضيه، ويعلم علمًا واسعًا عن النصرانية واليهودية، وكان من هؤلاء الناس الذين يسمون «الحنفاء»، والفرق بينهم وبين الأنبياء كالفرق بين الأنبياء والأولياء، كلٌّ يريد دينًا حقًّا يتدين به، ولا يهمه شيء من ضلال الناس، أما النبي الرسول فيود دينًا صحيحًا لنفسه ولغيره؛ يمثل هذا ما قاله الصوفيُّ الهندي الأستاذ عبد القدوس؛ إذ قال لما سمع قصة المعراج: إنه لو عرج إلى السماء ووصل إلى أن كان قاب قوسين أو أدنى وبلغ سدرة المنتهى ما عاد إلى الدنيا، ولكن النبي رأى كل هذا وعاد؛ لأنه يهمه الناس كما تهمه نفسه، وكان غيورًا أشدَّ الغيرة على هداية الناس، حتى قال له الله تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَـٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا.
وكلمة الحنفاء من الكلمات الغامضة جدًّا، فهي تدل على الميل عن دين التقاليد؛ أخذًا من «الحنف» بمعنى الميل، ومنه سمي الأحنف بن قيس لميل كان في رجله، فلخروج هؤلاء الحنفاء عن تقاليد قومهم سموا حنفاء، وهي لفظة في الأصل آرامية تدل على المروق من الدين المعتاد بين الناس، ولكنها كانت في الآرامية لفظة ممقوتة تدل على المروق من الدين، أما في الإسلام فكلمة محبوبة، كان إبراهيم حنيفًا، أي خارجًا عن دين قومه الذي يقول بعبادة النجوم، وكان ورقة بن نوفل حنيفًا؛ لأنه لم يشارك قومه في عبادة الأصنام، وسمى المسلمون جميعًا حنفاء؛ لأنهم اتبعوا ملة إبراهيم، وقال الله تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَـٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وفي القرآن آيات كثيرة في وصف الحنفاء بهذه المعاني.
على كل حال ورقة بن نوفل عالمًا متبحرًا في الأديان السابقة واللاحقة، وكان أيضًا متفرسًا صادق الفراسة، يقيس الحاضر على الماضي، وكان قد قارب الوفاة وودَّ لو رأى النبي محمدًا بعد أن تتقدم به النبوة فيتبعه ويؤازره، رحمه الله.
ونختم قولنا بحديث البخاري في هذا الموضوع، عن عائشة — رضي الله عنها — قالت: أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه — وهو التعبد — الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أما بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف فؤاده، فدخل إلى خديجة بنت خويلد، فقال: زملوني، زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وقد أخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت له خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكلَّ وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزَّى ابن عم خديجة، وكان امرأً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن العم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل على موسى يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًّا؛ إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله ﷺ: أومخرجيَّ هم؟! قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلى عُودِي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم ينشب ورقة أن توفيَ وفتر الوحي.