أسس الأخلاق في الإسلام
في القرآن الكريم آية تعد من أهم الآيات التي تبين أسس الأخلاق الإسلامية؛ ولذلك يرددها أئمة المساجد كل يوم جمعة على آذان المصلين وكان عبد الله بن مسعود يقول فيها: «إنها أجمع آية في القرآن للخير والشر»، وكانت سببًا في إسلام عثمان بن مظعون لما سمعها فرأى أنها جامعة لخصال الخير والشر، ورأى أن دينًا يأتي بهذا جدير أن يتبع، تلك هي قوله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
لقد أمر الله فيها بخصال ثلاث من أهم خصال الخير، ونهى عن خصال ثلاث من أهم خصال الشر، فأما خصال الخير فأولها العدل، وهو أن يعطي الإنسان كل ذي حق حقه، فالمدين يجب أن يؤدي دينه، وهذا هو العدل، والغاصب والسارق ظالم؛ لأن كلًّا منهما أخذ ما ليس من حقه، والبائع الذي يكيل للمشتري أو يزنه أقل مما اتفقا عليه ظالم؛ لأنه لم يعطه حقه، والقاضي المتحيز ظالم؛ لأنه أخذ من أحد الخصمين بعض حقه وأعطى للآخر أكثر من حقه، فإن ارتشى بأي نوع من الرشوة فقد أخذ ما ليس من حقه أن يأخذ، وهكذا لو دققنا في معنى العدل وجدناه أساسًا لكثير من الفضائل.
وهناك نوع آخر من العدل، وهو عدل الحكومة مع شعبها، فعليها أن تؤدي للشعب حقه عليها، فتجلب له السعادة وتبعد عنه أسباب الشقاء، وتوفر لكل طائفة من الشعب وسائل رقيها، من صناع وتجار وزراع وطلبة وموظفين، وتشرف على موظفيها حتى يرعوا مصالح الناس ويؤدوها وجه من غير تأخير أو إهمال وهكذا.
والقرآن يطالب بهذا العدل في مواضعَ منه كثيرة، وله في ذلك نظرة هي غاية السمو والنبل، فيأمرك بالعدل مع من تحب ومن تكره، ومن هو على دينك أو غير دينك، يقول في آية أخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ، أي لا يحملنَّكم بغضكم لقوم على أن تظلموهم، ولا تلتزموا العدل معهم، بل العدل واجب إنساني مع من أحببت أو كرهت ومع من وافقك في الدين أو خالفك، ومن أجل تقديره لهذا العدل أمر بالوفاء بالعهود مع كل من تعاقد معهم المسلمون من أي ملة أو دين، وهذا أسمى ما تصل إليه البشرية.
أما الخصلة الثانية بعد العدل فهي الإحسان؛ فإن كان العدل إعطاء كل ذي حق حقه، فالإحسان إعطاؤه ما فوق حقه، فمن الحق أن تأخذ دينك من المدين فإن رأيته معسرًا فعفوت له عن دينك فهذا إحسان — وعلى الجملة فالإحسان يتطلب الشعور بالعطف على الناس وتقديم الخير ممن يقدر لمن لا يقدر، فالغني مأمور بإعطاء جزء من ماله للفقير، والعالم مأمور بتقديم زكاة علمه للجاهل، والقوي مأمور باستخدام قوته لمعونة الضعيف، وهذا هو ما عبر عنه القرآن بالإحسان، وليس مقصورًا على ما يتصوره العامة من وضع يدك في جيبك واستخراج قليل من المال تضعه في يد الفقير، بل الإحسان أعم من ذلك وأشمل، هو عطف شامل من أفراد الأمة بعضهم على بعض، بل هو كذلك عطف الحكومات على أرباب الحاجات.
وخصص الله في الخصلة الثالثة الأقرباء بالإحسان، فالإحسان للناس عامة واجب، وهو لذوي القربى أوجب، فواجب أن يترابط أفراد الأسر، ومن ارتباط الأسر ترتبط الأمة.
هذه هي الخصال الثلاث التي شددت الآية في التزامها والعمل بها، أما المنهيات الثلاثة التي وردت في الآية فبالتأمل فيها نراها شاملة أيضًا شمولًا عجيبًا؛ ذلك أن علماء الاجتماع والقانون يقسمون الرذائل أو الجرائم إلى أنواع ثلاثة، جرائم يأتيها الأفراد نحو أنفسهم وهي الجرائم الخلقية التي لا تدخل في نطاق القانون، كالكذب والحسد والنفاق والرياء ونحو ذلك، وجرائم تقع على أفراد الأمة ويعاقب عليها القانون، كالسرقة والقتل وكل ما فيه تعدٍّ على أنفس الناس وأموالهم، وجرائم تقع على السلطات الحاكمة، كالسعي في هدم الحكومات، وهذه الأنواع الثلاثة تقابل الرذائل الثلاث في الآية، فالفحشاء الأعمال القبيحة تصدر من الشخص وتؤذيه، ولذلك سمي البخيل فاحشًا، وقيل للشخص إذ أجاب إجابة سيئة: أفحش في الجواب، وهكذا، والمنكر ما يصدر عن الناس من جرائم تضر بهم ويستنكرونها إذا حدثت، وقد اعتاد القرآن أن يسمي الفضائل الاجتماعية معروفًا، والرذائل الاجتماعية منكرًا، وجعل من أصول الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ، ويرمي بذلك إلى أن تكون الأمة يقظة واعية لكيانها، فإذا رأت نقصًا فيها ارتفعت أصوات عقلائها باستكماله، وإذا رأت خللًا في بنائها من أي ناحية كانت طالبت بإصلاحه وهذا ما تقوم به الآن البرلمانات الراقية والجرائد المنصفة.
وأما البغي فمعناه الخروج على السلطة الحاكمة بوسائل العنف، ومن ذلك قولهم: «الفئة الباغية» أي التي تخرج على الإمام العادل؛ ذلك لأن الإسلام يريد استقرار الأمور واستقرار السلطة الحاكمة مع صلاحيتها؛ لأنها المشرفة على النظام العام، فإن حادت عن العدل أو الحق وجهها أولو الأمر — أو كما نقول نحن: الرأي العام — إلى الجهة الصالحة، فالوسيلة للإصلاح هي النقد الصريح الجريء وهذا يدخل — أيضًا — ضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبعد؛ فإن الأمة التي تتبع هذه الأصول الثلاثة، وتتجنب هذه الأشياء الثلاثة أمة مثالية، فلنتصور جماعة من الناس، أو أمة من الأمم، عدل أفرادها فأدلوا لكل ذي حق حقه، وعدلت حكومتها فأدت واجبها، ثم تعاطفوا فيما بينهم، فساد بينهم الإحسان وخاصة على ذوي قرباهم، ثم تجنبت هذه الجماعة الجرائم الفردية الشخصية، والجرائم الاجتماعية، والثورات الانقلابية، فأي جماعة أسعد من هذه الجماعة، وأي أمة أرقى من هذه الأمة.
لقد وضع الإسلام خير نظام للأمة بهذه الآية: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وفهم خاصة المسلمين أنها من أجمع الآيات في بيان الخير والشر، فكرروها على أسماع الناس في كل مناسبة.
إن أسلوب القرآن في الدعوة إلى الأخلاق أسلوب عملي يلمس الواقع ويدعو إلى تنظيمه، ليس أسلوب الفلاسفة في بحث النظريات، وإقامة البراهين المنطقية الجدلية ونحو ذلك، إنما هو أسلوب يعمد إلى أصول الفضائل فيبينها، ويدعو إليها، ويوقظ المشاعر للعمل بها، هو أسلوب يوافق العامة والخاصة، والفلاسفة والجماهير، كل يستقي بمقدار استعداده.
ليس ينقص المسلمين دستورهم الذي ارتضاه الله لهم، وإنما ينقصهم فهمه حق الفهم، والعمل به في دقة وإحكام والتزام، فما قيمة القوانين الراقية وُضِعَتْ على الرف؟! وما قيمة النصائح الغالية صُمَّتْ عنها الآذان؟! إن القرآن — دائمًا — يقرن الإيمان بالعمل، ويطالب بهما جميعًا ويجعلهما ركني السعادة؛ فهو يعبر بالذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يَعْتَدُّ بإيمان من غير عمل، كما لا يَعْتَدُّ بعمل من غير إيمان — وفقكم الله للإيمان الصحيح والعمل الصحيح.