سنن الله في الأمم
يسير العالم على نظم دقيقة في كل شيء، سواء في ذلك النبات والحيوان والإنسان، وكما أن للأفراد سننًا ثابتة، من صبا وشباب وكهولة وشيخوخة، ومن صحة ومرض وقوة وضعف، كذلك شأن الأمم، لها قوانين لحياتها وفنائها وصحتها ومرضها، وقد نبه القرآن الكريم على كثير من هذه القوانين، نتعرض لبعضها اليوم.
- (١) حفظها بالصالحين من أبنائها، ومعنى ذلك أنه لا بد لحياة الأمم من طائفة فيها يكون عملها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعبارة أخرى: الدعوة إلى الإصلاح، واستنكار الفساد، وهذه الطائفة تأخذ أشكالًا مختلفة، ففي العصور الإسلامية الأولى كان ذلك وظيفة من يسمون أهل الحل والعقد، وفي العصور الحديثة كان ذلك وظيفة البرلمانات ورجال الصحافة ورجال الإذاعة ونحو ذلك، على كل حال لا بد من قوم يتولون هذه الوظيفة بجد واجتهاد وأمانة وإخلاص، قد بلغوا من حسن النية مبلغًا كبيرًا، ووصلوا في الثقافة واستنارة الأذهان وطهارة الشعور ما يستطيعون به أن يوجهوا قومهم إلى ما ينفعهم، ويحذروهم مما يضرهم، سواء كانوا زعماء أو أعضاء مجالس نيابية أو صحفيين أو نحو ذلك، فإن هم قصروا عن ذلك تخبطت الأمة وسارت في ظلام، وكان عاقبتها الفناء، يقول الله في ذلك: فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ، ويقول: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وقد جاءت هذه الآية عقب حكاية أقوام أهلكهم الله؛ لظلمهم وفسادهم فيقول: إنه لو كان فيهم جماعة أو جماعات تنهاهم عن الفساد وتحثهم على الفضائل لما هلكوا. أي أن الصالحين المصلحين هم الذين يحفظون الأمة من التردي والهلاك، شأنهم في ذلك شأن الأطباء للأفراد، فالأفراد إذا مرضوا استدعينا لهم الأطباء، فشخصوا أمراضهم، ووصفوا لهم علاجهم، فإن ساروا عليه نجوا، وإلا هلكوا، والمريض إذا لم يستطب طبيًّا أو استطبه ولم يسمع بقوله كان مصيره الهلاك، وهذه الطائفة هي التي سماها الله في القرآن بالصالحين فقال: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، وقال في آية أخرى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، غاية الأمر أن الناس غيروا معنى الصالحين، ففهموا منهم الذين يكثرون الصلاة والصيام ويكثرون من تلاوة القرآن، ولو اكتفوا بذلك وقضوا فيها حياتهم، على حين أن المراد بالصالحين الذين يستخلفهم الله في الأرض هم الصالحون لإدارتها، القادرون على تدبير شؤونها، الذين يستطيعون تنظيم أحوالها، أما الذين يقتصرون على الصلاة والصيام وتلاوة القرآن من غير أن يكون لهم حسن تصرف في الإدارة، وعجزوا عن القيام بشئون الناس وتدبير أحوال الأرض، فليسوا هم الذين يقصدهم الله بالصالحين، فلكل شيء وجه يطلق عليه أن الرجل صالح له أو غير صالح، فالصالح في السياسة غير الصالح في تدبير الأموال غير الصالح فقط للصلاة والزكاة، ولكلٍّ موضعُه، ومن أجل هذا الخطأ ركن قوم إلى دفع العدو بقراءة الأوراد والبخاري وتلاوة القرآن، مع أن الذي يصلح لاتقاء العدو هو محاربته بمثل سلاحه، لا بمجرد الجلوس في المساجد وقراءة الدعوات والابتهالات من غير أن يعدوا لهم ما استطاعوا من قوة، والخلاصة من كل هذا أن من سنن الله في الأمم أنه ما لم يكن في الأمة قوم يفهمون أمتهم، ويعلمون علمًا تامًّا ببيئتهم، وما تقتضيه من أعمال، فينبهونها إلى واجبها، ويحذرونها من مفاسدها، لم يكن لها بقاء، هكذا يقول الله تعالى وهؤلاء هم الذين يسميهم الله الصالحين.
وبقدر جد هؤلاء الصالحين ونشاطهم وأعمالهم تكون حياة الأمم، وبقدر قلتهم يكون ضعف حياتها، وبقدر عدمهم يكون فناؤها.
- (٢) من سنن الله أيضًا في الأمم أن الأمة إذا طغى أمراؤها، وانغمسوا في الترف والنعيم، ولم يأبهوا لمصالح شعبهم، ولم يأخذ العقلاء فيها على أيديهم، كان مصيرها الفناء، يقول الله تعالى: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ، ويقول: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، أي أن أولي الأمر في الأمة لو جروا وراء شهواتهم، ولم ينظروا إلا إلى ترفهم ونعيمهم، بادت دولتهم؛ لأنهم إن فعلوا ذلك أنفقوا الأموال في ملاذهم، ولم يقيموا وزنًا لقوة الشعب الحربية ولا لقيمته العلمية والأدبية، فكيف تبقى الأمة مع ذلك، أما إن صلح أمراؤها، وساروا بالعدل مع شعوبهم ومع أنفسهم، وأعطوا لكل ذي حق حقه، وأعطوا لأنفسهم حقوقها، والتزموا بواجباتها، أبقاها الله ولم يفتتها، وهذا هو الشأن في كل عصر، ظلم الحكام يُرْدِيها ويهلكها، وعدل الحكام يعليها ويصلحها، يقول الله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ أي أن الله لا يهلكها إذا صلح أهلها، وتجنبوا الفساد والظلم، والمراد بكونهم مصلحين: أنهم مصلحون في أعمالهم الاجتماعية والعمرانية، فلا يبخسون الحقوق، ولا يرتكبون الإثم والعدوان والطغيان، إن شئت فانظر في ظل هذين المبدأين الكبيرين إلى الأمم التي حولك، واستعرض قويها وضعيفها، تَرَ أن الأمة إذا سارت على هذين المبدأين قويت وبقيت، وإذا أهملتهما فشلت وضعفت، وبقدر قوتهما وضعفهما تضعف الأمم وتقوى، إن خير الأمم الحالية من قوي برلمانها، واستطاع أن يشرف على حكومتها، ووجَّهَهَا الوجهةَ الصالحةَ، وحذرها من التردي في المهالك، ولم ينكص عن قول الحق والجهر به والدعاء إليه، لا يخاف من قوي لقوته، ولا من فاسد لفساده، ولا من غني لغناه، وإذا خالف رأيه رأي الحكومة قال ذلك في صراحة، وسمع في ذلك صوت ضميره ودينه، لا صوت شهواته ومغنمه.كذلك من ميزان حياة الأمم الآن مقدار نزاهة حكامها وأمرائها، وعدم وقوعهم في الطغيان والإسراف في الترف والنعيم، إننا نرى أن الحكومات الصالحة في الأمم المختلفة تسيطر حتى على الملوك والأمراء، فتمنعهم من أن يطغوا، وتمنعهم من أن يبذروا أموال الشعوب في ملاذهم وشهواتهم وشرهم، فإن هي فعلت ذلك سمح الله لها بالرقي والبقاء، ونحن نرى إلى الآن أنها إن لم تفعل حاق بها وبهم الهلاك، ونرى في القرآن إشارة كريمة في قوله تعالى: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ، أي أنه لا يصح لأولي الحل والعقد والممتازين من الأمة من علماء دين ورجال سياسة وأعضاء برلمان أن يركنوا إلى الملوك والأمراء الطغاة، ومعنى الركون إليهم تشجيعهم على ما هم فيه من فساد، أو تركهم يعبثون كما يشاءون، بل يجب الضرب على أيديهم، وإقناعهم بالعدول بالحسنى إن أمكن، وبغير الحسنى إن لم يمكن، فإن فعلوا نجا الأمراء والملوك ونجوا، وإلا هلك هؤلاء وهؤلاء.
هذان قانونان من قوانين التي سنها الله لحياة الأمم وفنائها، وهناك قوانين أخرى نتحدث عنها في فرصة أخرى إن شاء الله.