علامة الفأر!
كان كل شيء هادئًا تمامًا في المقر السري، حتى الساعة الإلكترونية الموجودة كانت صامتة هي الأخرى، ولم يكن يصدر منها إلا تلك الإشارات الكهربية التي تُنبئ عن الوقت، ثم فجأة … فُتحت الأبواب الصخرية بلا صوت، واندفعت سيارات الشياطين إلى الدَّاخل، فأُغْلِقت الأبوابُ. وفي لحظة، كانوا جميعًا في طريقهم إلى حجراتهم الخاصة. كانت لا تزال هناك ساعةٌ يستطيع الشياطين خلالها أن يبدلوا ملابسهم، أو يستريحوا قليلًا، وما إن انتهَت الساعة، حتى أخذوا طريقهم إلى قاعة الاجتماعات في صمت. كانوا جميعًا ينتظرون بداية مغامراتهم الجديدة، استقرُّوا في أماكنهم، دون أن ينطق أحدهم بكلمة. ولم تمر لحظاتٌ حتى سمعوا صوت خطوات رَقْم «صفر» تقترب، جذب انتباههم صوت الخطوات التي ظلَّت تقترب حتى توقفت في النِّهاية. لحظة، ثم جاءهم صوت رقم «صفر»: أهلًا بكم في المقر السري. ثم صمت رقم «صفر» للحظة، كان خلالها صوت أوراقٍ تُقلب يتناهى إلى أسماع الشياطين. طالت اللحظة … حتى ظن الشياطين أنَّ وقتًا طويلًا قد انقضى. قال رقم «صفر» أخيرًا: إننا أمام ظاهرةٍ غريبةٍ هذه المرة، إن بعض الرجال النَّابهين يختفون في ظروفٍ غريبة. أمامي الآن عددٌ من التقارير من عملائنا في جميع أنحاء العالم … سكت رقم «صفر» قليلًا ثم قال: هذا تقرير من عميل لنا في «الخليج» يقول: اختفى مستر «كابري» خبير البترول فجأة، دون سببٍ معين. وكان يعمل في إحدى شركات البترول بمرتبٍ ضخم، ورغم التحريات الكثيرة عنه، إلا أنه لم يُعْرف سببٌ لاختفائه، كذلك لم تظهر جثته، إن كان قد قُتل.
نظر الأصدقاء إلى «رشيد»، ثم إلى بعضهم، بينما كان رقم «صفر» يُقلِّب بعضَ الأوراق … مرة أخرى جاءهم صوت رقم «صفر»: تقرير آخر من عميلٍ لنا في «الهند» يقول: اختفى مستر «جوك» الخبير الزِّراعي الذي أوفدته الأمم المُتَّحِدة، ولم يعثر له على أثر. اهتمَّت الحكومة الهندية بالحادث، وبرغم الحراسة المشددة التي فُرِضَت وقت اختفائه على جميع المطارات والموانئ والسكك الحديدية، إلا أنَّه لم يُعثر عليه، وحتى الآن، لم يُستدل على أي أثرٍ له … صمت رقم «صفر» قليلًا، وتناهى إلى أسماع الشياطين صوتُ الأوراق التي يُقلبها رقم «صفر». ثم قال بعد قليل: تقرير ثالث جاءنا من عميلنا في «الكونغو» يقول: اختفى الدكتور «فيلمنج» أستاذ الجراحة المعروف بسمعته العالمية، دون سببٍ معروف، بالرغم من أنه كان يُجري بعض التجارب الجراحية على استئصال جزءٍ من المعدة بدون ألم، ورغم أنَّ الشرطة هناك قد اهتمَّت اهتمامًا شديدًا، إلا أنها لم تَصِل إلى شيء.
كان الشياطين يُتابعون صوت رقم «صفر» وهو يقرأ التقارير التي وردت إلى المقر، غير أنَّ أحدًا منهم لم يُعلق بشيء، كانوا لا يزالون ينتظرون نهاية الموقف، حتى يمكن أن يُكوِّنوا فكرة كاملة. جاءهم صوت رقم «صفر» يقول: هكذا تكرَّرت أحداث اختفاء هؤلاء الرِّجال النَّابهين، اختفى خبير «ماس» في «تنجانيقا» وأستاذ في اللغات في جامعة «تنزانيا»، وصيدلي كبير من «اليابان»، هكذا يتكرَّر الاختفاء دون سببٍ معروف. توقَّف رقم «صفر» قليلًا … ثم قال: سأعود بعد دقائق …
كانت هناك إشارةٌ ضوئيةٌ صفراء قد لمعت … فعرف الشياطين أنَّ هناك رسالةً إلى المقر السري، نظروا إلى بعضهم، كانت علامات الاستفهام هي التعبير السائد على وجوههم. مرَّت دقائق، بدَتْ ثقيلة تمامًا … حتى سمعوا صوت أقدام رقم «صفر» تقترب، فشدَّت انتباههم، واتجهوا بأبصارهم إلى حيث يسمعون رقم «صفر». لحظة ثم قال: جاءتنا رسالةٌ عاجلةٌ من «أمريكا» تقول: إنَّ دبلوماسيًّا كبيرًا قد اختفى، ورغم سرعة تحرك المخابرات المركزية الأمريكية إلا أنَّ الدبلوماسي لم يظهر، ولم يترك خلفه أي أثر … صمت رقم «صفر» قليلًا، ثم قال: وهكذا ترَوْن أن الذين يختفون دائمًا من الرجال النَّابهين أو العُلماء؛ فمنهم المهندسون والأطباء، فهل عصابة «سادة العالم» تتحرَّك لعملٍ ما؟ أم أنَّ هناك عصابةً أخرى قد ظهرَت أمامنا الآن؟ نحن لا ندري، وما يزيد الأمر صعوبة … أنَّ هؤلاء الرِّجال قد اختفَوْا من مُختلف أنحاء العالم، وهذا يعني أنَّ المِسَاحة التي يتحرَّكون داخلها هي العالم كله … عندما سكت رقم «صفر» كان الهدوء يغطي كل شيء … حتى إن الشياطين كانوا يسمعون صوت أنفاسهم، طالت اللحظة التي سكتها رقم «صفر»، وبدأ القلق يزحف إلى نفوس الشياطين. غير أن رقم «صفر» قطع الهدوء والقلق بقوله: إنَّ الذي يجعلنا نتأمل هذه الظاهرة؛ هي أن هؤلاء الرجال المختفين يشتركون في صفةٍ واحدة، هي الامتياز. هناك شيء آخر هام، توصَّل إليه مركزنا للبحوث، هو أن هؤلاء الرجال لهم علامة مميزة في باطن الذراع اليمنى، علامة تشبه الفأر الصغير، وهذا يعني أن هؤلاء الرجال ينتمون إلى إحدى المنظمات، ولقد جرت دِرَاسة تاريخية للمنظمات الموجودة في العالم كله، إلا أنه لم يُستدل على أنَّ منظمةً ما كانت تأخذ الفأر الصغير شعارًا لها … وفجأة أضيئت الإشارة الصفراء، فسكت رقم «صفر» ثم أخذت أقدامه تبتعد، كانت هناك إشارة في الطريق إلى المقر … وكان الصمت يلف كل شيء … بينما كان الشياطين يتململون في أماكنهم؛ فلقد ظهرت بادرة جديدة، كأنَّها الضوء … بتلك الإشارة التي تُشْبه علامة الفأر الصغير وفي الذراع اليُمنى بالذَّات … عاد رقم «صفر» وقال: إشارة وردت إلينا من مركز البحوث، تقول إنَّ هؤلاء الرجال لهم صفات مشتركة؛ طوال القامة … عيونهم حادة كأنها الصقر، قليلو الابتسام، يظهر الجد الشديد على وجوههم … وربما الحزن أيضًا … يميلون إلى الألوان الدَّاكنة، ويحبُّون موسيقى «البلوز» تلك التي كان يُحبها الأمريكيون الأوائل … أو العبيد الذين خطفوهم من أفريقيا في العصور المظلمة … وباعوهم في أماكن متفرقة من العالم … يقول التقرير أيضًا: إنَّ هؤلاء الرِّجال لم يكن أحدٌ منهم يعرف الآخر.
سكت رقم «صفر» وظَلَّ الشياطين ينتظرون بقية المعلومات … طال الصمتُ فأخرج «أحمد» مفكرته الصغيرة وقلمه، ثم بدأ يُدَوِّن بعض المعلومات … كانت «زبيدة» تتأمل «أحمد» وهو غَارقٌ في تدوين ما يكتب … أمَّا بقية الشياطين فقد كانوا ينتظرون بقية حديث رقم «صفر» … بعد لحظات، تحدث رقم «صفر»: هذه كل المعلومات التي لدينا حتى الآن، فإذا جاءت معلومات جديدة، فسوف أخبركم بها … مرت لحظات، ثم أكمل حديثه: إنْ كانت لديكم أسئلة، فإنني في الانتظار … هدأت القاعة بعد صمت رقم «صفر». نَظَر الشَّياطين إلى بعضهم … ولم ينطق أحدهم بكلمة … قال رقم «صفر»: الآن، تستطيعون الانصراف … أدعو لكم بالتوفيق … وما كاد الشياطين يقفون في أماكنهم للانصراف … حتى ظهر الضوء الأصفر وجاء صوت رقم «صفر»: ينبغي أن تنتظروا قليلًا … ربما كان هناك شيء جديد …
جلس الشياطين … بينما كانت خطوات رقم «صفر» تبتعد كان الشياطين يفكرون؛ إنها مساحةٌ كبيرةٌ تلك التي يجب أن يتحرَّكوا داخلها، غير أنها مسألةٌ مُمْتِعة أن يقابلوا هذا التحدي، صحيح أن هذه المعلومات طيبة، لكنها أمام مساحة العالم، وأمام عدد العلماء والأطباء وكل الرجال النابهين؛ تُعتبر لا شيء، وهذا ما يجعل التحدِّي أمام الشياطين كبيرًا ورائعًا في نفس الوقت. عادت أقدام رقم «صفر» … حتى توقفت وتَعَلَّقت أنظار الشياطين بمكان الصوت. قال رقم «صفر» بطريقةٍ جعلت الشياطين يبتسمون: هذه أهم رسالة جاءتنا، أمام هذا اللغز المحير، الرسالة جاءتنا من عميلنا في «باريس» … يقول: إنَّ رجلًا زار مسيو «جان» خبير العطور … ثم اختفى الخبير في اليوم التالي، الزائر يحمل تقريبًا نفس الصفات؛ فهو طويل القامة … جاد الملامح، يميل إلى الحزن … أسمر اللون، ويتحدث الفرنسية بطلاقة، وإنَّ عملاءنا في المدن الفرنسية قد شاهدوا هذا الرَّجل في أيامٍ مُتباعدة، غير أنَّه لم يحدث اختفاء آخر بعد اختفاء مسيو «جان». وقد حدث اتصالٌ بالشرطة الدولية — الإنتربول — لمُراقبة ظهور هذا الرجل، لكنه لم يظهر مرة أخرى … ضحك رقم «صفر» وعلَّق قائلًا: وإلا كانت الشرطة قد قبضت عليه …
انتهى الاجتماع … عندما قال: الآن يمكنكم أن تنطلقوا … أتمنَّى لكم التوفيق … أخذت أصوات أقدام رقم «صفر» في الاختفاء عندما كان الشياطين يأخذون طريقهم إلى خارج القاعة؛ فقد بدأ التحدي.