هل كل شيءٍ على ما يرام؟!
فُتحت أبواب المقر السري، الصخرية، فانطلقت سيارات الشياطين. كانوا قد حددوا لأنفسهم نقطة الانطلاق؛ «القاهرة»، فما دامت عملية الاختفاء تحدث في اتساع العالم كله، فإنَّ «القاهرة» تقع في منطقة وسط من العالم، وإذا كان هناك أحد العلماء قد اختفى من «الخليج»، فإنه يُمكن أن يختفي في أيٍّ من الدول العربية؛ في «السعودية» أو «الكويت» أو «الجزائر» أو غيرها ولهذا تُصبح «القاهرة» هي أنسب مكان للانطلاق.
وعندما ضَمَّهم المقر السري في «القاهرة» بدءوا يُحدِّدون خطواتهم.
قال «أحمد»: أَظُنُّ أنه ينبغي أن نتحرك في المنطقة كلها.
باسم: إنَّ تحرُّكنا يجب أن يشمل العالم كله.
هدى: لهذا أَعْتَقد أنَّه يجب أن ننقسم إلى مجموعات … كل مجموعة تتحرَّك داخل منطقة محددة …
صمت الجميع قليلًا … كان كلٌّ منهم يُفكر في كيفية تقسيم العالم إلى مناطق … قال «قيس»: أعتقد أنه يُمكن أن نقسم عالمنا العربي أولًا … وتخرج مجموعةٌ منَّا، يكون مجالها المنطقة التي نحدِّدها … وهكذا …
قام «أحمد» وأحضر خريطةً للعالم العربي، وأخرى للعالم … بسط خريطة العالم العربي … ثم قال: يُمكن أن نُقسِّم عالمنا العربي إلى قسمَيْن؛ شرق، وغرب … الشرق ما يقع على يمين «مصر» والغرب ما يقع على يسارها؛ ﻓ «الجزيرة» و«الخليج» و«الشام» و«العراق» تقع كلها على يمين «مصر» … وعلى يسارها «ليبيا»، و«تونس» و«الجزائر» و«المغرب» … أمَّا جنوب «مصر» فأفريقيا كلها … إذن نحن نحتاج إلى مجموعتَيْن هنا؛ مجموعة في محور اليمين … ومجموعة في محور اليسار، ما رأيكم؟
قال «رشيد»: فكرة طيبة … أضيف إليها أن أكون أنا و«قيس» و«إلهام» في محور اليمين … ويكون «مصباح» و«بو عمير» و«زبيدة» في محور اليسار …
قيس: هذا طيب … على أن تكون «القاهرة» هي مركز تجمُّعنا واتصالاتنا …
أحمد: أظن أن أسبوعًا يكفي لكل مجموعة … حتى تقدم تحرياتها عن منطقتها … في نفس الوقت … ينقسم الباقون ثلاثة في أفريقيا … وأربعة في أوروبا …
وهكذا اتفق الشياطين على تقسيم مجموعاتهم، وأصبح الجميع على استعداد للانطلاق، ثم بعد ذلك انفردت كل مجموعة ترسم خطة تحركها … وعندما حان وقت انصراف مجموعة محور اليمين … قال «رشيد»: إنَّ موعدنا يوم الثلاثاء القادم في «القاهرة» في تمام الساعة الخامسة.
حيَّا الجميع بعضهم، ثم انطلق محور اليمين … وبعد نصف ساعة أخذ المحور الآخر طريقه … وهكذا … كانت نصف ساعة تفصل بين تحرُّك كل محور وآخر.
كان «أحمد» و«خالد» و«هدى» و«باسم» قد اختاروا أوروبا مجالًا لتحرُّكهم … وعندما أقلعت الطائرة من مطار «القاهرة» كانت خطة المجموعة الاتصال بالرَّقم السري لعميل رقم «صفر» في «باريس» … وهكذا استغرق الأربعة في التفكير، غير أنَّ شيئًا ما لفت نظر «هدى»، فمالَت قليلًا في اتجاه «أحمد» الذي كان يجلس بجوارها ثم قالت: هل رأيت الرجل الذي مرَّ الآن؟
فتح «أحمد» عينَيْه … ودون أن يلتفت إليها قال: إنني أراقبه منذ إقلاع الطائرة … وكان الأربعة يجلسون في صفٍّ واحد … يفصل بينهم الممر الضيق … نظر «أحمد» إلى «باسم» ثم غمز له بعينه إشارة فهمها، كان هناك رجلٌ أسمر، طويل القامة، يمشي في الممر قاصدًا كرسيَّه في مُقدمة الطائرة، نظر «باسم» إلى الرجل، ثم بدأ يستعيد تلك الكلمات التي سمعها من رقم «صفر» حول هؤلاء الرجال النابهين الذين يختفون، مَرَّ الرجل في هدوء، فكر «أحمد» قليلًا ثم قام قاصدًا مقدمة الطائرة، وفي طريقه مر بالرجل الأسمر، ألقى نظرة خفية عليه، كانت تنطبق عليه أوصافٌ كثيرة من تلك الأوصاف التي ذكرها رقم «صفر»، كانت دلائل الحزن تغطي وجه الرجل، ويبدو عليه الشرود، كان يُرسل نظراتِه من نافذة الطائرة التي كانت تعلو السحب، ولم يكن هناك سوى تلك السحب البيضاء السابحة في الفضاء … وكأنها القطن.
وصل «أحمد» إلى طاقم الطائرة، فعرف من بينهم كابتن الطائرة، فكثيرًا ما سافر معه، وكان يلتقي به، حيَّاه في كلماتٍ هادئة، دَعَاه الكابتن إلى الدخول، جلس وهو يُحاول أن يجعل وجهه في اتجاه الرجل الأسمر، حتى يُعطي لنفسه فرصة تأمله فترة كافية، كان الكابتن يحكي إحدى ذكرياته عن الطيران، إلا أنَّ «أحمد» كان مُستغرقًا تمامًا في مُراقبة الرجل الأسمر الذي كان يبدو شاردًا … وعيناه لا تزالان مُعَلَّقتَيْن بقطع السحب البيضاء … سمع «أحمد» طاقم الطائرة يضحك، فضحك هو الآخر بالرغم من أنه لم يعرف لماذا يضحكون، فكر قليلًا فقد عاد الصمت إلى كابينة القيادة، فيما عدا صوت المحركات النفاثة، كان الكابتن قد انتهى من حكايته، وركن الجميع للصمت … وقف «أحمد» مستأذنًا، وهو يحيي الكابتن، ثم خرج في اتجاه مقعده، كانت عيناه مُعلقتَيْن على الرجل الأسمر، دون أن يُلاحظ الرجل ذلك … مر بجواره، كان لا يزال في نفس جلسته، تجاوزه إلى المقعد، ثم ألقى نفسه فيه، سألته «هدى»: ما رأيك؟! رَدَّ «أحمد»: إنني أضع اقتراحًا فقط … لكنني لا أستطيع أن أجزم بشيءٍ … صمتت «هدى» واستغرقَت في التفكير … قفز في رأس «أحمد» سؤال: هل الطائرة قادمة من مكانٍ ما … ونزلت في مطار «القاهرة» ترانزيت؟ ثم هل هي الآن تُكمل رحلتها إلى «باريس»، أم أن بداية طيرانها من «القاهرة»؟ … لمح إحدى المُضيفات تقترب وعندما أصبحت بجواره تمامًا … سألها «أحمد»: معذرةً … هل «القاهرة» هي بداية الرحلة أم أن «القاهرة» كانت فقط محطة؟
ابتسمَت المضيفة وقالت: «القاهرة» هي بداية الرِّحلة. شكرها «أحمد» ثم أخذ طريقه إلى مؤخرة الطائرة، حيث كانت هناك بعض المقاعد الخالية، أخرج جهاز الإرسال الصغير الذي يحمله، ثم أرسل رسالة إلى رقم «صفر»: من «ش. ك. س» إلى رقم «صفر»: هل هناك أخبار؟
مرَّت لحظةٌ بطيئة، ثم جاءه الرد: من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س» اختفَت نجمة من «القاهرة» لا يزال البحث جاريًا …
فهم «أحمد» معنى كلمة نجمة … إنَّ معناها شيءٌ لامعٌ وهذا يعني أن خبيرًا أو رجلًا هامًّا قد اختفى، فأسرع إلى حيث يوجد الشياطين، وأخبرهم بالرسالة، وسار بسرعةٍ إلى حيث يوجد الرجل الأسمر، وبالكاميرا السرية التقط له عددًا من الصور، كان يحتاج إلى تحميض هذه الصور وطَبْعها، ثم إرسالها إلى رقم «صفر»، لكن كيف يمكن ذلك الآن؟ … وعندما عاد إلى مكانه، كان صوت مضيفة الطائرة تطلب ربط الأحزمة؛ فالطائرة سوف تنزل في مطار «روما» … قالت «هدى»: إن هذه فرصةٌ طيبة … يمكن استغلالها …
هَزَّ «أحمد» رأسه، ثم أخذ طريقه إلى مؤخرة الطائرة، وكان لا بُدَّ من إرسال رسالة سريعة إلى رقم «صفر» … فأخرج جهازه السري، ثم أرسل الرِّسالة: من «ش. ك. س» إلى رقم «صفر» نحتاج إلى رجلنا في «روما» … جاءه الرد بسرعة: من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س» سوف ننتظركم في المطار … عاد «أحمد» إلى مقعده، ثم همس ﻟ «باسم» الذي كان يتحدث إلى «هدى»: كل شيء على ما يُرام.
كانت مُضيفة الطائرة، تمر على الجالسين حتى تطمئن إلى أنهم جميعًا قد ربطوا أحزمتهم، وبعد دقائق كانت الطائرة تأخذ طريقها إلى أرض المطار … كانت عيون الشياطين تحوط الرجل الأسمر الذي كان يجلس في هدوء … وعندما لمست عجلات الطائرة أرض مطار «روما»، كان الرجل يرسل نظرةً من النافذة في اتجاه باب المطار … وكان الشياطين ينتظرون سماع كلمة واحدة، هي كلمة السر، وكانت الكلمة «نجوم» … استقرَّت الطائرة على أرض المطار، وقالت مذيعة الطائرة: لن ننتظر كثيرًا … أمامنا فقط نصف ساعة.
شعر الشياطين بالقلق … نظر «أحمد» في ساعة يده، كانت تشير إلى الرابعة والنصف، إن هذا معناه أن تطير الطائرة في الخامسة … ظلَّتْ عينا «أحمد» مُعَلَّقة بعقرب الثواني الذي كان يقفز بسرعة؛ فالثواني تتجمع حتى تصبح دقيقة، والدقائق تمر، ولم يسمع أحدٌ منهم كلمة «نجوم»، مرَّت عشر دقائق … كان الرجل الأسمر لا يزال في مكانه لا يتحرك … كان يرقب أضواء المطار التي تظهر من بعيد، بينما كانت أصوات من الخارج تصل إلى الشياطين، فهموا منها أنَّ هناك ركابًا جددًا، ومرَّت دقائق أخرى … سبع دقائق … ثمانية … تسعة … استولى القلق تمامًا على الشياطين، ولكن فجأة، سمعوا صوتًا يقول: نعم … نعم … هناك أربعة من الأصدقاء في الطائرة. تعلَّقت أعينهم بباب الطائرة … ظهرت المُضيفة أولًا، كانت تبتسم ابتسامة هادئة، وهي تنظر في اتجاه الشياطين، ثم سمعوا صوتها يقول: هناك … عند المقدمة …
التفت الرجل الأسمر … أسرع «أحمد» من مكانه في اتجاه المضيفة … لم يكن أحدٌ قد ظهر خلفها … وعندما أصبح في منتصف المسافة، شاهد رجلًا أنيقًا تملأ وجهَه ابتسامةٌ رقيقة … اقترب «أحمد» منه بسرعة … أخذت المضيفة طريقها إلى الخارج … فقال الرجل: نجوم … ابتسم «أحمد» ثم مد يده مشيرًا إلى يد الرجل بجواره … وبسرعةٍ أخرج من جيبه الكاميرا السرية … ثم أخرج الفيلم الذي بداخلها وهمس: يجب طبع هذه الصور وإرسالها إلى رقم «صفر» قبل أن نصل إلى «باريس» … فقد تكون هذه فرصتنا …
حيَّاه الرجل … ثم انصرف مُسرعًا … شعر «أحمد» بالارتياح وأخذ طريقه إلى مقعده … لمح الرجل الأسمر … وقد عاد إلى جلسته … نظر الشياطين إلى «أحمد» كانوا ينتظرون منه كلمة … نظر إليهم مُبتسمًا … ثم ألقى نفسه في مقعده وهو يقول: كل شيءٍ على ما يرام …