حديث مع رجل أسمر!
لم تمر دقائق كثيرة، حتى ارتفعت أصوات محركات الطائرة … ثم جاء صوت المُضيفة من الإذاعة الداخلية للطائرة يطلب ربط الأحزمة …
ربط الشياطين الأحزمة … ثم بدأت الطائرة تجري على أرض المطار … وأخذت طريقها إلى الفضاء … كانت أضواء المطار تتباعد، وأضواء «روما» تختفي قليلًا قليلًا، حتى استوَتِ الطائرة في طريقها … فلم يعد يظهر شيء … لم يكن هناك سوى صوت الطائرة … وكان «أحمد» لا يزال مُستغرقًا في تفكيره … بينما كان بقية الشياطين ينظرون في اتجاه الرجل الأسمر … رفع «أحمد» يده، ونظر في ساعته … ثم هز رأسه، هناك ساعتان حتى تصل الطائرة إلى مطار «أورلي» في «باريس» … وخلال الساعتَيْن تكون أشياء كثيرة قد حدثت … ثم أغمض «أحمد» عينَيْه … بينما كانت «هدى» تُحَاول أن تنظر من نافذة الطائرة إلى الليل، كانت النجوم تملأ السماء، ابتسمت وهي تُفكِّر: من يستطيع أن يعدَّ كل هذه النجوم … ثم بدأَت تعدها فعلًا.
كان «خالد» و«باسم» يتحادثان … قال «خالد»: أعتقد أنه ينبغي أن يقوم «أحمد» بتصوير الرجل مرة أخرى … يجب أن نحتفظ نحن أيضًا ببعض صوره …
باسم: لا أظن أن هذه مسألة ضرورية … تكفي الصور التي أُرسِلَت إلى رقم «صفر»…
لم يُعَلِّق «خالد» … نظر في اتجاه الرجل الذي كان مُستغرقًا لحظتها في قراءة كتاب … أخرج الكاميرا السرية، ثم التقط للرجل عدة لقطات … في نفس اللحظة … فتح «أحمد» عينيه، ثم نظر إلى «خالد» وابتسم … أعاد «خالد» الكاميرا السرية إلى حقيبته الصغيرة التي يحملها … ثم قال ﻟ «باسم»: إنَّ واحدًا في المائة خطأ، يمكن أن يُفْسِد كل شيء … هذه يجب أن تحسب حسابها.
هز «باسم» رأسه … وابتسم دون أن ينطق بكلمة … وقف «أحمد» واتجه إلى «خالد»، حتى اقترب منه تمامًا … قال: دعني آخذ مكانك حتى أراه أكثر …
وقف «خالد» وترك مكانه ﻟ «أحمد»، ثم أخذ طريقه إلى حيث «هدى» التي كانت تُراقبهم … جلس «أحمد» وأصبحت زاوية الرؤية له واضحة أكثر … إنه الآن يستطيع أن يرى الرَّجل الأسمر … كانت كلمات الكتاب غير واضحةٍ في حين أنه حاول أن يقرأ شيئًا، برغم بُعد المسافة … أخرج مِنْظارًا مُكبرًا، وبدأ يقرِّبه من عينَيْه ليحاول أن يقرأ بعض كلمات الكتاب … في نفس اللحظة أغلق الرجل الأسمر كتابه … فوقعت عينا «أحمد» على عنوانه … كان عنوان الكتاب: «التاريخ القديم للعالم» … أنزل منظاره، ثم استغرق في التفكير … وقفز إلى ذهنه سؤال: من يكون هذا الرجل؟ وماذا يعمل؟ هل هو أستاذ في التاريخ؟
إنَّ عنوان الكتاب مثيرٌ «التاريخ القديم للعالم» … نظر إلى «باسم» وقال: لا بد أنه كتاب رائع … فالتاريخ القديم يتحدث عن أشياء قد انقرضت من عالمنا الحديث … كم أحب قراءة هذا الكتاب …
وفجأة شعر «أحمد» بدفء حيث يختفي جهاز الإرسال، فعرف أنَّ هناك رسالةً من رقم «صفر» قام بسرعة، واتجه إلى مؤخرة الطائرة ثم أخرج الجهاز، وبدأ يتلقَّى الرسالة: من رقم «صفر» إلى «ش. ك. س» الأفلام فاسدة … من الضروري إرسال صورٍ أخرى … ملأت الدهشة وجه «أحمد» … رد على رسالة رقم «صفر»: من «ش. ك. س» إلى رقم «صفر»: كيف نُرسل الصور؟ … جاء رد رقم «صفر»: عميلنا في «باريس» سوف يكون في انتظاركم … رد «أحمد»: من «ش. ك. س» إلى رقم «صفر»: عُلِم … عاد «أحمد» بسرعة إلى حيث الشياطين … كان لا يزال مندهشًا … نظر إليه «خالد» مُسْتفهمًا، جلس «أحمد» وقال: الصور فاسدة … ابتسم «خالد» ونظر إلى «باسم» … ابتسم «أحمد»؛ فقد تذكر أنَّ «خالد» قد قام بتصوير الرجل … لكن ذلك لم يطمئنه كثيرًا … أخرج الكاميرا السرية الخاصة به، ثم قام بتصوير الرجل الذي التفت في نفس اللحظة … حول «أحمد» الكاميرا بعيدًا عنه حتى لا يشك في شيء … ابتسم الرجل في هدوء، ثم أشار إليه … حاول «أحمد» أن يتماسك؛ فقد اضطرب عند إشارة الرجل … اتجه إليه، ثم ألقى عليه تحية المساء … ابتسم الرجل وهو يرد: مساء الخير … تفضل.
جلس «أحمد» … لم يكن يصدِّق بينه وبين نفسه أن هذا يحدث هكذا ببساطة … قال الرجل: هل أنتم أصدقاء؟
أحمد: نعم.
الرجل: هل تقومون برحلة؟
أحمد: نعم.
الرجل: إلى أين؟
أحمد: إلى «باريس» … ثم «إيطاليا» … ونعود بالباخرة إلى «القاهرة».
الرجل: هذه رحلة طيبة … هل تقومون بها كثيرًا؟
أحمد: نعم … إننا من هواة الرحلات.
الرجل: هذه فرصة طيبة … هل تسمحون لي بأن آخذ صورة معكم؟
شعر «أحمد» بالسعادة … فها هي الفرصة سانحة تمامًا … أشار «أحمد» إلى الشياطين، فأسرعوا إليه … وجلسوا جميعًا حول الرجل وثبت «أحمد» الكاميرا في مكان مُقابل، فالتقطت لهم صورة … شكر الشياطين الرجل الذي رد شكرهم بابتسامة … ثم قال: اسمحوا لي أن أقدِّم لكم صورةً لي … ذكرى لهذا اللقاء … فقد نلتقي مرةً أخرى … إنني مثلكم أهوى الرحلات.
أخرج صورة من جيبه … ثم كتب عليها إهداء: إلى أصدقاء الرحلة … للذكرى. ثم وقع باسم «باركر».
شكره الشياطين، ثم انصرفوا … إلا «أحمد» الذي بدأ معه حوارًا.
أحمد: لقد شاهدت كتابًا مع حضرتك … يبدو أنه كتاب نادر.
الرجل: نعم … إنه نادر فعلًا … ولو كنت قد انتهيت من قراءته، لقدمته لك للذكرى؛ فهو كتاب قيم … لكني أعدك أن أهديه إليك يومًا … إذا شاءت الصدفة أن نلتقي.
أحمد: هل أستطيع أن أعرف عمَّ يتحدث؟
ابتسم الرجل … دون أن ينطق بكلمة واحدة، ثم قال: إنه كتاب قديم يتحدث عن عالم قديم … عالم قد انقرض بكل ما فيه … وهناك محاولات للبحث عن آثاره.
نظر إلى «أحمد» قليلًا ثم قال: أظن أنك مصري.
أحمد: عربي.
الرجل: والأصدقاء؟
أحمد: إننا جميعًا عرب …
هز الرجل رأسه … ثم قال: إذن أنتم تقومون برحلات عربية … ثم ضحك …
ابتسم «أحمد» وهو يقول: نعم … إننا مجموعة من البلاد العربية تربطنا الصداقة …
الرجل: هذا شيء طيب …
ظل الاثنان في حوار … حكى الرجل خلاله بعض ذكريات طفولته، وكيف كان يهوى الرحلات مثلهم، وكيف كان يشعر أنَّ هناك أشياء تشده إلى الجبال والصحاري والغابات … ولذلك فإنَّه عندما كبر، كانت إحدى هواياته رحلات الصيد … ثم أخذ يحدثه عن رحلاته إلى «مصر»، عندما كان يذهب إلى بركة «قارون» لصيد البط، أو إلى البحر الأحمر لصيد السمك.
قطع صوت مذيعة الطائرة، استرسال الرَّجل في حديثه، ابتسم وهو يقول ﻟ «أحمد»: معذرة … وأشكرك لتلك اللحظات السَّعيدة التي جعلتني فيها أتذكر الماضي … أرجو أن أراك بخير … وداعًا …
شدَّ «أحمد» على يده وهو يقول: إنني سعيد تمامًا، وأتمنى أن يكون لنا لقاء آخر.
ضحك ثم قال: حتى آخذ الكتاب …
ضحك الرَّجل ضحكة عذبة … وهَزَّ رأسه قائلًا: إذا التقينا …
انصرف «أحمد» بينما كان الرَّجل يتبعه بعينَيْه … وعندما وصل إلى الشياطين … كانوا جميعًا قد ربطوا أحزمتهم …
جلس «أحمد» وربط حزامه … واستغرق في التفكير.
جاء صوت مذيعة الطائرة: مرحبًا بكم في «باريس» … يرجو لكم كابتن الطائرة وطاقم الطائرة أن تكونوا قد استمتعتم بالرِّحلة … إننا الآن فوق «باريس» … وبعد قليلٍ … سوف نصل إلى مطار «أورلي». ابتسمت المُضيفة ثم قالت: نرجو ألَّا يكون أحدكم قد نسي الحزام …
ابتسم الشياطين، إلا «أحمد» الذي كان لا يزال مُستغرقًا في تفكيره، كان يستعيد تلك الكلمات التي قالها الرَّجل عن ذكرياته في «القاهرة».
بعد قليل … كانت الطائرة تجري على الممر الأرضي فوق أرض المطار … ثم تدور دورةً واسعة، حتى تقف في النِّهاية … دقائق، ثم فُتح باب الطائرة، وبدأ الرُّكاب يأخذون طريقهم إلى الخارج … انحنى «أحمد» ونظر من نافذة الطائرة فرأى أضواء المطار … كان بعض الركاب قد وصلوا إلى الأرض، وأخذوا طريقهم إلى أبواب الخروج … لم يستطع أن يميز جيدًا، إن كان الرجل الأسمر بينهم أم لا.
نظر خلفه … كان الشياطين قد تقدَّموا إلى الباب … أسرع خلفهم، ثم أخذ طريقه إلى السُّلم … كان الشياطين ينزلون في هدوء … تَعَلَّقت عينا «أحمد» بالباب الخارجي، كان يُريد أن يتأكَّد إن كان هناك أحدٌ لمح الرجل الأسمر يجتاز الباب … ثم يختفي بين الزحام … نزل جريًا، وأسرع إلى الباب … تقدَّم منه أحد الرجال مُبتسمًا وهو يقول: كوكب. ابتسم «أحمد» ثم مد يده مُسلِّمًا … قال بسرعة: هناك الرجل المقصود …
الرجل: أين؟
أحمد: خرج لتوه … واختفى في الزِّحام …
ابتسم الرجل وقال: لا بأس … هيا بنا.
أسرع الجميع إلى الباب، حتى اجتازوه … نظر «أحمد» بين النَّاس … كان يريد أن يرى الرجل، لكن الزِّحام في المطار كان شديدًا … ظل يدُور بعينَيْه، لكنه لم يستطع أن يعثر للرجل على أثرٍ … قال: معنا صورته التي أهداها إلينا …
الرجل: هل أهداكم صورته؟
ثم ابتسم قائلًا: نسيتُ أن أُقدِّم نفسي لكم «شارل» وينادونني «شيرن».
حيَّوه جميعًا، ثم نظروا لبعضهم … قال «أحمد» بسُرعة: ينبغي أن نُسرع إلى صالة المطار … رُبَّما رأيناه هناك.
أسرعوا جميعًا إلى حيث صالة المطار … كان الازدحام يعوقهم من التقدُّم بسرعة … كانت الصالة الخارجية مُزدحمة بالمسافرين، والمودِّعين … أسرع «شارل» إلى مكتب شركة الطيران … ثم سأل إنْ كانت سيارة الشركة قد انصرفت … ابتسم الموظف وهو يقول: ليس بعد … إن كل الركاب لم يركبوا …
أسرعوا إلى حيث تقف سيارة الشركة عند الرَّصيف الخارجي، ومن بعيدٍ شاهدوها تتحرَّك … قال «شارل»: ينبغي أن نلحق بها.
حاول أن ينادي … لكن صوته اختفى في ضجيج السيارات والزحام … قال: نستطيع أن نلحق بها … فمعي سيارتي …
أسرعوا إلى السيارة … كانت تقف في مكان بعيد، قطعوا المسافة جريًا حتى وصلوا إلى هناك، وأخذ كلٌّ منهم مكانه، ثم انطلق «شارل» بسيارته … كانت سيارة الشركة قد اختفَتْ تمامًا … قال «شارل»: لا بأس … إنَّ مقرها الأخير عند مقر الشركة في شارع «سان ميشيل».
كانت سيَّارة «شارل» تنطلق بسرعة رهيبة … فقد كان يريد أن يصل إلى حيث مقر الشركة، قبل أن تصل السيارة وينصرف مَن فيها.
قال «شارل»: هل أستطيع أن أرى الصورة التي أهداها لكم؟
قال «باسم»: إنها مع «هدى» …
أخرجت «هدى» الصورة … وبدَتْ عليها الدَّهشة وهي تُقدمها إلى «أحمد» الذي كان يجلس بجوار «شارل» … أخذ «أحمد» الصورة، ولم يتمالك نفسه فقد اتسعت عيناه من فرط الدهشة هو الآخر.