اللقاء في باريس!
أسرع «أحمد» بمغادرة الفراش، واتصل تليفونيًّا ببقية الشياطين، الذين كانوا قد استيقظوا منذ فترة … حضروا جميعًا إلى حجرته، أخبرهم بمكالمة «شارل» التليفونية، وبدأت الأسئلة تدور بينهم …
هدى: ترى ما هي هذه المفاجأة؟
باسم: لعله قد اهتدى إلى مكان «باركر».
أحمد: لا أظُنُّ لأنَّه من البداية كان واضحًا أنَّه غير مقتنع بأنني رأيته.
خالد: هل هي مفاجأة عن طريق رقم «صفر»؟ … لم يكد «خالد» ينتهي من سؤاله، حتى كان «شارل» يفتح الباب قائلًا: نعم، إنها مفاجأة عن طريق رقم «صفر».
تعلَّقت أعين الشياطين ﺑ «شارل»، كانوا يريدون معرفة المفاجأة؛ فقد كثرت المُفاجآت، تنهَّد «شارل» ثم قال: اسمحوا لي أن أجلس أولًا، واجلسوا أنتم أيضًا حتى لا تقعوا من هول المفاجأة …
اتسعت أعين الشياطين، إنها إذن مفاجأة مذهلة … ولكن إلى أي اتجاه … مفاجأة للفشل، أو أنها مفاجأة للنجاح.
أخرج «شارل» من جيبه فيلمًا من أفلام الكاميرا السرية ثم مرَّره أمام ضوء النهار، وأمام عينَيْ «أحمد». نظر «أحمد» إلى الفيلم وصاح: إنها مُذهلة فعلًا! اقترب الشياطين من الفيلم، وكلما شاهده واحدٌ صاح نفس الصيحة، في النهاية قال «شارل»: تصوَّروا، أنتم فقط في الصورة، أمَّا هو فمكانه أبيض، وبقية الفيلم بيضاء كذلك!
صمت قليلًا، ثم أكمل: لقد خفنا أن نقوم بتحميض الفيلم هنا، فأرسلناه إلى رقم «صفر»، ثم كانت هذه النتيجة!
شرد الشياطين جميعًا، ولم ينطق أحدهم بكلمة … نظر لهم «شارل» قليلًا، ثم ضحك قائلًا: هذه ليست لغزًا، إنها مسألة عادية، وهي من مصلحتنا تمامًا، إنَّ ما حدث يعني أننا أمسكنا بأول الخيط، فها نحن نعرف أحد هؤلاء الرجال النابهين الذين يختفون، هذه واحدة، والأخرى أننا عرفنا أنهم يختفون برغبتهم، وليست هناك قوى خارجية تُرْغِمهم على الاختفاء …
نظر «أحمد» إلى «خالد» وقال له: لقد كنت محقًّا في استنتاجك يا «خالد».
نظر «شارل» إليهما ثم قال مُبتسمًا: كأنني لا أضيف جديدًا … قال «خالد» ضاحكًا: بل أنت تؤكد وجهة نظري …
شارل: إنني الآن في خدمتكم، أي شيء تريدونه أنفذه … لم ينطق أحدٌ من الشياطين، كانت المفاجأة لا تزال تُسيطر عليهم، غير أنَّ «خالد» قفز من مكانه قائلًا: إن لديَّ فيلمًا في الكاميرا الخاصَّة بي صورته ﻟ «باركر» … صاح «باسم»: هذا صحيح … إنه فرصتنا الأخيرة … أسرع «خالد» بإحضار الكاميرا السرية الخاصة به، ثم قدمها إلى «شارل» الذي قال: ينبغي أن نصل إلى المعمل فورًا، إننا في حاجةٍ إلى صورة للرجل.
أخذوا طريقهم بسرعةٍ إلى خارج الفندق، وبالرَّغم من أنهم لم يتناولوا طعام الإفطار بعد، إلا أن ما حدث قد أنساهم كل شيء، فاستقرُّوا في سيارة «شارل» الذي انطلق بسُرعةٍ في الطريق إلى بيته الذي يقع في إحدى ضواحي «باريس».
وأمام فيلا أنيقة تحوطها حديقةٌ بديعةٌ وقف «شارل»، وما إن اجتازوا الباب، حتى توقفوا، لقد كان هناك كلبٌ ضخمٌ ينبح، ابتسم «شارل» لهم وأخذ يُخاطب الكلب: «بلانش» ما هذا الذي تفعله إنهم ضيوفنا … ثم نظر إليهم قائلًا: إنه فقط يُحييكم بوصفكم ضيوفًا لدينا لأول مرة …
تقدم ناحية الكلب ثم ربطه في سلسلةٍ مُثبتةٍ في الحائط نظر إليهم مبتسمًا وقال: إنه لا يؤذي إلا في الليل، وأظن أننا بالنهار …
ضحك الشياطين ثم تقدَّموا، استلقى «بلانش» وراح في نومٍ عميق. تبع الشياطين «شارل» إلى داخل الفيلا حيث قادهم إلى صالون رائع وقال: لحظة واحدة أدخل المعمل، ثم آتيكم …
اختفى «شارل» ولم تمضِ دقيقة، حتى ظهرت سيدة عجوز، أدارَت عينَيْها بينهم ثم ابتسمت قائلة: صباح الخير يا أبنائي، هل تأخذون الشاي في الحديقة أو هنا؟!
قالت «هدى»: صباح الخير يا سيدتي، أظن أننا لو أخذناه هنا يكون أفضل …
هزَّت السيدة رأسها ثم انصرفت. نظرت «هدى» إليهم وقالت: إننا لم نفطر بعد.
علت الدَّهشة وجوه الآخرين، ثم نظروا إلى بعضهم وابتسموا، لقد اكتشفوا في هذه اللحظة فقط أنهم لم يفطروا فعلًا.
قال «خالد» مُداعبًا: لعن الله «باركر» إنه السبب …
ابتسم «باسم» وقال: لعلها الكاميرا السرية …
عاد «شارل» مُسرعًا، كان يبدو مشغولًا، قال: دقائق، لقد وضعت الفيلم في التحميض لعلنا نظفر بشيء …
عادت السيدة العجوز تحمل صينية عليها بعض «البيتي فور» بجوار فناجين الشاي. نظر الشياطين إلى بعضهم وابتسموا، ها هم يفطرون الآن.
وضعت السيدة العجوز الصينية أمامهم ثم انصرفت، قامتْ «هدى» وهي تنظر إلى «شارل» مُبتسمة: معذرةً إنها عادة بيننا أن أكون أنا بينهم كسيدة بيت.
ابتسم «شارل» وقال: هذه تقاليد رائعة، لقد فقدناها من زمن، إنكم في الشرق ما زلتم تحتفظون بها، وهذا شيء عظيم …
أخذت «هدى» تُوزع فناجين الشاي ومعها قطع «البيتي فور». شرب الشياطين وشرب معهم «شارل» غير أنَّه لم يكمل فنجانه؛ فقد انصرف في اتجاه المعمل … جلس الشياطين في هدوء، كانوا ينظرون إلى بعضهم بين الحين والحين، كانت حالة القلق تسيطر عليهم، إنَّ هذه فرصتهم الأخيرة، فهل تأتي كما يريدون؟
تأخر «شارل» وبدأت حالة عصبية تتملك «أحمد» تترجمها هزة حذائه التي لا تتوقف، لاحظت «هدى» ذلك، فابتسمت قائلة: يجب ألَّا تكون عصبيًّا إلى هذا الحد … إنَّ المسألة سوف تنتهي بعد قليل. ظهر «شارل» يحمل الفيلم، وتعَلَّقت أعين الشياطين بتعبيرات وجهه، كانت تعبيرات وجهه تنطق بمعنى واحد؛ الفشل … ذهب إلى النَّافذة، حيث يصبح الضوء أقوى … تبعه الشياطين في هدوء … مَرَّر الفيلم أمامهم، كان أبيض تمامًا تراجع الشياطين إلى مقاعدهم وظل «شارل» في مكانه أمام النَّافذة، كان لا يزال ينظر إلى الفيلم بإمعان وأخيرًا التفت إليهم قائلًا: إنَّ الفيلم يصبح أبيض تمامًا، عندما يتعرض لضوء، وإذا كان هناك مصدر ضوء في عين العدسة فإن الفيلم لا يظهر سوى بهذا اللون الأبيض، إننا عندما نصوِّر هدفًا، يكون كتلة غير مُشِعَّة، بمعنى … أنَّ الضوء يكون حوله، ويكون هو كتلة سوداء، ولهذا يظهر على شريط الفيلم بلون أبيض، وعندما نطبعه على الكارت الحسَّاس يأتي في لونه الطبيعي، يحدث العكس عندما نصور مصدر ضوء، إنه يظهر في الشريط أسود، وعندما نطبعه يظهر بلون أبيض؛ لأنَّ الشريط هو السالب، والصورة هي الموجب، وهو ما نسميه النيجاتيف، والصورة.
اقترب من الشياطين الذين كانوا يُتابعون كلامه، وعندما جلس بينهم، أكمل حديثه: في الفيلم الثاني … عندما جلستم معه لالتقاط صورة للذكرى ظهرتم أنتم ولم يظهر هو، وهذا يعني شيئًا واحدًا، إنه كان ثمة ضوء أو إشعاع يجعل مكانه خاليًا، فيظهر في النيجاتيف أسود، ويظهر في الصورة، أبيض، فماذا يمكن أن نستنتج من هذا؟
قال «أحمد» على الفور: إما أن «باركر» يملك خاصية الإشعاع أو أنه يحمل شيئًا مُشِعًّا يجعل تصويره مستحيلًا.
ابتسم «شارل» وقال: هذا استنتاج صحيح، وهذا يؤكد تفوق هؤلاء الرجال الذين يختفون، ويؤكد في نفس الوقت أنَّ «باركر» هذا واحد منهم.
قالت «هدى»: إذن فعلينا أن ننطلق الآن.
وقف الشياطين وبدءوا يأخذون طريقهم إلى الخارج، وتبعهم «شارل»، ثم استقلوا السيارة، وأخذوا طريقهم مرة أخرى إلى «باريس»؛ فقد كان عليهم أن يتوجهوا إلى ذلك الشارع الذي ذكره سائق التاكسي، ولم يكن «شارل» مُتعجِّلًا؛ ولذلك فقد انطلق بهدوء، ممَّا أعطى فرصة للشياطين لأن يستمتعوا بالريف الفرنسي الجميل، وعندما بدأت ضوضاء المدينة تظهر، نظر إليهم «شارل» وسأل: ما هو برنامجكم الآن؟
نظر الشياطين إلى بعضهم، ثم قال «أحمد»: أعتقد أننا يجب أن نعود إلى «سان ميشيل»، إنه بداية طيبة للانطلاق إلى أي مكان …
أخذ «شارل» طريقه إلى «سان ميشيل» نفس الشارع الذي شاهد فيه «أحمد» أو تخيل أنَّ «باركر» داخل التاكسي، وعندما وصلوا إلى الشارع شكر الشياطين «شارل» الذي انطلق بسيارته، ووقفوا هم صامتين لحظة، قال «خالد»: أظن أنَّا جُعنا تمامًا، ويجب أن نأكل.
أخذوا طريقهم إلى أحد المطاعم القريبة، فتوقف «خالد» أمام أحد محلات التصوير، سأله «أحمد»: ماذا تريد؟
ابتسم «خالد» وقال: لا شيء، اسبقوني فقط إلى المطعم، واطلبوا لي مما سوف تأكلون.
أخذ الشياطين طريقهم إلى المطعم، وجلسوا حول منضدة قريبة من النَّافذة. اقترب منهم الجرسون فطلبوا الطعام لهم وﻟ «خالد» أيضًا غير أنَّ الجرسون ابتسم وهو ينظر لهم، ففهم «أحمد» ابتسامته، وقال: معنا زميل لنا، سوف يحضر الآن. فابتسم الجرسون وانصرف.
كانت أعين الشياطين مشغولة بالبَحْث بين الموجودين، علَّهم يرَوْن «باركر» جاء لتناول الطعام مثلهم … فانهمكوا في الأكل غير أنَّ «هدى» قالَت: لقد تأخَّر «خالد». ولم تكد تتم جملتها حتى ظهر «خالد» يحمل كاميرا كبيرة من نوع «البلورويد»، ذلك النوع الذي يُعطي الصورة في دقيقةٍ واحدة. وعندما جلس بينهم قال «أحمد» ضاحكًا: إنك تذكِّرني بهؤلاء المصورين الذين نراهم في الشوارع …
ضحك الشياطين، وانهمك «خالد» في الأكل هو الآخر وبعد قليل رفع «باسم» رأسه عن الطعام ثم كتم صيحة جعلت الشياطين ينظرون في نفس اتجاه نظرته، وعلت وجوههم الدهشة … ثم رفع «خالد» الكاميرا والتقط صورة، ثم نزع الكارت، وأمسك ساعة يده فبعد دقيقةٍ واحدةٍ ستظهر الصورة، وكان الشياطين جميعًا ينظرون إليها، وأجزاؤها تتضح شيئًا فشيئًا، ثم صرخ «باسم»: إنه واحد منهم!
وعندما رفعوا أعينهم في اتجاه الرَّجل، كان قد اختفى، وظلت أعينهم معلقة بالصورة؛ فقد كانت المساحة التي يشغلها الرجل من الصورة بيضاء تمامًا.