مرحى، مرحى
كنت قد حكيت لتوي لجدي وجدتي عن الرسالة الغامضة حين خرج جدي من الطريق السريع. قال إنه تعب من القيادة طويلًا، وإن الخطوط البيضاء في منتصف الطريق السريع بدأت تتلوَّى أمام عينيه. فيما كان يدلف إلى مدينة ماديسون بولاية ويسكنسن، قالت جدتي: «أشعر ببعض الأسى على حال السيدة وينتربوتوم. فهي لا تبدو لي سعيدة جدًّا.»
قال جدي: «إن أردتِ رأيي، أظنهم جميعًا مخابيل.»
تابعت جدتي: «الأمومة تشبه ورطة لا خلاص منها. لو كان لديك ثلاثة أطفال أو أربعة — أو أكثر — فالأمر يشبه الرقص على صفيح ساخن طَوال الوقت. لا وقت لديك للتفكير في أي شيء آخر. ولو لديك واحد أو اثنان فقط، فالأمر يكاد يكون أصعب. إذ يكون لديك أوقات فراغ؛ مساحات خاوية تعتقد أنه يتعين عليك أن تملأها.»
قال جدي: «الأبوة هي الأخرى ليست هينة.»
ربَّتت جدتي على ذراعه. قالت: «هراء.»
ظللنا نجول بالسيارة حتى لمح جدي مساحة ركن. رصدها أيضًا قائد سيارة أخرى، لكن جدي سبقه إليها، وحين لوَّح سائق السيارة الأخرى بقبضته، قال جدي: «أنا من المحاربين القدامى. أترى ساقي هذه؟ ما زالت تحمل شظايا من بنادق الألمان. لقد أنقذتُ وطننا!»
لم يكن معنا العملات المعدِنية المطلوبة لعداد الانتظار؛ لذا خط جدي ملاحظة طويلة تفيد بأنه زائر من بايبانكس، كنتاكي، وأنه من المشاركين في الحرب العالمية الثانية تحمل ساقه شظية من بنادق الألمان، وأنه يقدر لسكان مدينة ماديسون الجميلة السماح له بالانتظار في مساحة الركن تلك وإن لم يكن معه عملات معدنية مناسبة للعداد. وضع تلك الملاحظة على الزجاج الأمامي.
سألته: «هل فعلًا في ساقك شظية ألمانية؟»
رفع جدي بصره إلى السماء. قال: «ما أجمل هذا اليوم!»
كانت الشظية خيالية. أحيانًا يكون استيعابي لمثل تلك الأمور بطيئًا. قال لي أبي ذات مرة إني ساذجة كسمكة. حسبت أنه يقول «سائغة». ظننت أنه يعني أن مذاقي طيب.
تمتد مدينة ماديسون بين بحيرتين، بحيرة ميندوتا وبحيرة مونونا، وتتفرع من هاتين البحيرتين بحيرات صغيرة أخرى. بدا لي أن المدينة كلها في عطلة؛ إذ كان الناس يتجولون بدرجاتهم ويتمشَّون بجانب البحيرات ويطعمون البط ويأكلون ويجدفون ويركبون القوارب الشراعية. كان منظرًا لم أرَ مثله من قبل. ظلت جَدتي تردد: «مرحى، مرحى!»
في المدينة جزء لا يُسمَح بدخول السيارات فيه، وكان الآلاف من الناس يتمشون فيه وهم يأكلون المثلجات. دخلنا إلى مطعم «إيلا» لأطعمة الكوشر (كوشر أو كشروت هو الطعام الحلال حسب الأحكام اليهودية) والمثلجات وتناولنا شطائر البسطرمة والخيار المخلل، ثم أتبعناه بالمثلجات بنكهة التوت البري. بعد أن تجولنا قليلًا على الأقدام، هاجمنا الجوع مرة أخرى، فشربنا شايًا بالليمون وأكلنا كعكًا بالتوت الأزرق في مقهى «ستيب آند برو».
طَوال الوقت، كنت أسمع الهمسات: «هيا، هلُمِّي، هيا.» كان جدي وجدتي يتحركان ببطء شديد. ظللت أسألهما: «ألم يحن الوقت للرحيل؟» لكن جدتي كانت ترد: «مرحى، مرحى!» بينما يقول جدي: «ننطلق قريبًا، يا صغيرتي، قريبًا.»
سألتني جدتي: «ألا تريدين إرسال أي بطاقات بريدية؟»
«كلا، لا أريد.»
«ولا حتى لأبيك؟»
«كلا.» وقد كان لديَّ سبب وجيه لذلك. على مدى رحلتها، كانت أمي ترسل لي بطاقات بريدية. كتبت تقول: «ها أنا ذا في متنزه بادلاندز، أفتقدكِ بشدة،» و«ها هو جبل راشمور، لكني لا أرى أي وجوه لرؤساء، لا أرى إلا وجهكِ.»
وصلت البطاقة البريدية الأخيرة بعد يومين من اكتشافنا أنها لم تكن تنوي العودة. كانت مُرسلة من مدينة كور ديلين بولاية أيداهو. كان على وجه البطاقة صورة لبحيرة زرقاء بديعة يحيط بها أشجار باسقة دائمة الخضرة. وكانت قد كتبت على ظهرها: «غدًا أصل إلى مدينة لويستون. أحبك يا سالامنكا تري يا صغيرتي.»
أخيرًا قال جدي: «أكره أن أعود إلى القيادة على الطريق، لكن الوقت يضيع!»
قلت في نفسي: أجل، أجل، أجل!
استرخت جدتي في مقعدها لتأخذ قيلولة، فيما تلوتُ بضعة آلاف من الصلوات الإضافية. ولم أدرِ أين نحن حتى خرج جدي من الطريق السريع مرة أخرى. قال: «انظرا. إنها بلدة ويسكنسن ديلز.» دخل بالسيارة إلى موقف سيارات شاسع، وقال: «لمَ لا تستكشفان المكان؟ سآخذ قيلولة قصيرة.»
دخلت أنا وجدتي متطفلين إلى قلعة قديمة، ثم جلسنا على العشب نراقب مجموعة من السكان الأصليين يرقصون ويقرعون الطبول. لم تحب أمي لفظة «السكان الأصليين». كانت تراها تحمل دلالة على البُدائية والجمود. قالت: «جدة جدتي كانت من قبيلة سينيكا، من قبائل الهنود الحمر، وأنا أفخر بذلك. لم تكن من قبيلة سينيكا التابعة للسكان الأصليين. كلمة «الهنود الحمر» تحمل معنى الشجاعة والرقي.» في المدرسة، كان معلمونا يطلبون منا استخدام لفظة السكان الأصليين، لكني كنت أتفق مع أمي. فوقعُ لفظة الهنود الحمر أجمل بكثير. أحببت أنا وأمي تلك المسحة الهندية في سلالتنا. قالت إنها جعلتنا نُقدِّر عطايا الطبيعة؛ جعلتنا أوثق صلةً بالأرض.
استلقيت على ظهري وأغمضت عيني، أصغي إلى قرع الطبول يقول: «هيا، هيا، هيا»، والراقصون ينبسون: «هلُمِّي، هلُمِّي، هلُمِّي.» كان أحدٌ ما يقرع الأجراس أيضًا، ولوهلة تذكرت عيد الميلاد المجيد وأجراس مزلجته. ولما فتحت عينيَّ مجددًا، لم أجد جدتي.
تلفتُّ حولي أحاول تذكُّر أين ركنَّا السيارة. نظرت خلال الحشد، وإلى الأشجار ورائي، وإلى كشك الأكلات السريعة. قلت في نفسي: «لقد رحلا. تركاني ورحلا.» شققت طريقي بين الناس.
كان الحشد يصفق، والطبول تُقرع. التبست عليَّ الاتجاهات ولم أستطع أن أتذكر من أي طريق أتينا. كانت توجد ثلاث لافتات، تشير إلى ثلاثة مواقف سيارات مختلفة. هدرت الطبول. توغلتُ أكثر بين الحشد الذي علا تصفيقه متماشيًا مع الطبول.
شكَّل الهنود دائرتَين؛ دائرة وبداخلها أخرى، وكانوا يقفزون. كان الرجال يرقصون في الدائرة الخارجية مرتدين أغطية رأس من الريش ومآزر قصيرة من الجلد. وكانوا ينتعلون خفافًا في أقدامهم، وتذكرت مجددًا رسالة فيبي: «لا تحكم على أحد قبل أن تسير في دربه مسيرة قمرين.»
داخل الدائرة التي شكلها الرجال، كانت النساء اللاتي ارتدين أثوابًا طويلة وسلاسل من الخرز قد شابكن أذرعهن وكنَّ يرقصن حول امرأة عجوز ترتدي ثوبًا قطنيًّا عاديًّا. على رأسها كان غطاء رأس ضخم انزلق إلى جبهتها.
أمعنت النظر. كانت المرأة التي تقف في المنتصف تقفز. وكانت تنتعل حذاءً أبيض مستوي الكعب. بين قرع الطبول، سمعتها تقول: «مرحى، مرحى.»