فراش الزوجية
حين بدأت أروي قصة فيبي، كان جدي وجدتي يستمعان إليَّ في صمت. كان جدي منشغلًا بالطريق وجدتي تحدق من النافذة. أحيانًا، كانا يعلقان متعجبَين: «يا للهول!» أو «حقًّا؟» لكن بتقدم أحداث القصة، بدأت مقاطعاتهما لي تزداد تدريجيًّا.
حين أخبرتهما عن الرسالة التي تقول «لكلٍّ أجندتُه الخاصة»، طرقت جدتي على لوحة العدادات وقالت: «أليست تلك هي الحقيقة! رباه! أليس هذا هو مربط الفرس؟»
سألتها: «ماذا تعنين؟»
«كلٌّ منا يمضي في الحياة لا يكترث إلا بمشاكله وحياته ومخاوفه. وكلنا ننتظر من الآخرين أن يشاركونا أجندتنا. ولسان حالنا يقول «تلك هي مخاوفي. قاسموني إياها. شاركوني حياتي. اكترثوا لمشكلاتي. اهتموا بي».» تنهَّدت جدتي.
حك جدي رأسه. «هل ستتحولين إلى فيلسوفة؟»
قالت: «فلتركز في أجندتك.»
حين ذكرتُ أن بن سألني عن أمي وقلت إنها في لويستون، لكني لم أرغب في أن أوضح أكثر، تبادل جدي وجدتي النظرات. قال جدي: «ذات مرة، رحل أبي لستة أشهر دون أن يخبر أحدًا بمكانه. حين سألني صديقي المقرب عن مكانه، ثرت ولكمته في فكه. وهو صديقي المفضل. لكمته في فكه لا أقل.»
قالت جدتي: «لم تخبرني بذلك من قبل. أتمنى أن يكون قد رد لك الضربة.»
أشار جدي إلى فلجة في أسنانه. «أترين ذلك؟ لقد كسر لي سني.»
وحين أخبرتهما عن إجفالي عندما لمسني بن وعن عثوري على أبي في المرأب عند عودتي إلى البيت، فكت جدتي حزام أمان مقعدها واستدارت بكامل جسدها إلى الخلف وانحنت فوق ظهر المقعد. وأمسكت يدي وقبلتها. قال جدي: «أعطها قبلةً أخرى نيابةً عني.» فقبَّلَت يدي مرةً أخرى.
وفي مرات عديدة، بينما كنت أصف عالم فيبي الذي يعج بالمجانين والسفاحين، علقت جدتي قائلة: «مثل جلوريا، مثل جلوريا تمامًا.» في إحدى تلك المرات، بعد أن قالت ذلك، ارتسمت على وجه جدي نظرة حالمة، فقالت جدتي: «كف عن التفكير في جلوريا. أعرف ما يدور في ذهنك.»
قال جدي: «أتسمعين يا صغيرتي؟ هذه الماكرة تعرف كل ما يدور في ذهني. أليست رائعة؟»
قبل أن نبلغ حدود ولاية ساوث داكوتا، سلك جدي طريقًا فرعيًّا يتجه شمالًا لأنه رأى لافتةً إعلانيةً عن نصب بايبستون التذكاري الوطني، في مدينة بايبستون، بولاية مينيسوتا. كانت اللافتة تحمل صورة لأحد الهنود الحمر يدخن غليونًا.
سألته جدتي: «لماذا تريد الذَّهاب لرؤية هندي عجوز يدخن غليونًا؟» كانت كأمي لا تحب لفظة «السكان الأصليين».
قال جدي: «أود ذلك دون سبب وجيه. قد لا تتسنى لنا الفرصة لرؤية ذلك مرة أخرى.»
سألت جدتي: «رؤية هندي يدخن غليونًا؟»
«هل سيستغرق ذلك وقتًا طويلًا؟» سألتُ بينما كان الهواء يصيح: «هيا، هيا، هيا.»
«لن يستغرق طويلًا يا صغيرتي. يجب أن ندع «كاربراتير» السيارة يبرد. تلك الطرق تستنزف طاقتي.»
كان الطريق الفرعي الذي سلكناه إلى بايبستون يتعرج خلال غابة باردة مظلمة، لو أغمضت عينيك فيها وشممت الهواء، فسيُخيَّل لك أنه يحمل رائحة هواء بايبانكس، كنتاكي. بايبستون بلدة صغيرة. أينما ذهبنا، كان الناس يتبادلون الحديث واقفين، أو جالسين على مقعد، أو سائرين في الشارع. أثناء مرورنا بهم، كانوا يرفعون بصرهم إلينا ويطالعون وجوهنا مباشرة ويقولون «أهلًا» أو «مرحبًا»، ومع أن قول ذلك قد يبدو مبتذلًا، لكننا شعرنا بالألفة هناك. كانت تشبه بايبانكس، حيث يتوقف كل من تقابله ليقول لك شيئًا، لأن الجميع يعرفك ولطالما عرفك طوال حياته.
ذهبنا إلى نُصب بايبستون التَّذكاري ورأينا الهنود الحمر يصيحون عند الصخرة في مقلع الحجارة هناك. سألت أحدهم إن كان ينتمي إلى السكان الأصليين، لكنه أجابني: «كلا، أنا شخص عادي.» فقلت: «لكن هل أنت شخص عادي تنتمي إلى السكان الأصليين؟» قال: «كلا أنا شخص عادي من الهنود الحمر.» فقلت: «وأنا كذلك. أنحدر من سلالتهم.»
شاهدنا أشخاصًا آخرين من الهنود الحمر يصنعون غلايين من الحجارة. في متحف الغلايين، عرفنا عن الغلايين أكثر مما ينبغي لأي إنسان أن يعرف. في الفسحة خارج المتحف، جلس شخص من الهنود الحمر على جذع شجرة يدخن غليونًا تقليديًّا هنديًّا طويلًا. وقفنا نراقبه خمس دقائق، ثم سأله جدي إن كان بوسعه أن يجربه.
ناول الرجل الغليون لجدي الذي جلس على العشب ونفث منه نفثتين ثم ناوله لجدتي. لم تتردد ولو لحظة حتى. نفثت منه نفثتين ثم ناولته لي. كانت ثمة نكهة حلوة على طرف الغليون. وضعت طرفه في فمي، وقبلته قبلتين خفيفتين، كما بدا لي أن جدَّيَّ فعلا. خرج الدخان في فمي، وحبسته بالداخل فيما أعدت الغليون لجدي وجدتي.
حبست الدخان في فمي برهةً فيما واصل جدي وجدتي تدخينه. باعدت بين شفتيَّ قليلًا فتدفَّق خيط خفيف من الدخان وتلوى في الهواء، لسبب ما ذكَّرني حين رأيته بأمي. لم يكن ذلك منطقيًّا على الإطلاق، لكن بينما كنت أراقب الدخان يتبدد في الهواء، كان عقلي يقول لي: «ها هي أمك تتلاشى.»
في المتجر الملحق بمتحف الغلايين، ابتاع جدي غليونَين تقليديَّين. أخذ واحدًا وأعطاني الآخر. قال: «ليس لتدخنيه. بل لتحتفظي به للذكرى.»
بتنا تلك الليلة في نُزُل «إينجون جوز بيس بالاس» الهندي. في لافتة معلقة في رَدْهته، شطب أحد ما كلمة «إينجون» (الهندي) وكتب «السكان الأصليون»، فصارت العبارة المكتوبة عليها: «نُزُل «جوز بيس بالاس» الذي يديره السكان الأصليون.» في غرفتنا، غُيِّرَت كلمة «الهندي» المطرزة على المناشف إلى «الهندي الأحمر». تمنيت أن يستقر الجميع على رأي واحد.
بحلول ذلك الوقت صرت معتادةً على المبيت في غرفة برفقة جدي وجدتي. كل ليلة حين يدخلان إلى السرير، كانا يستلقيان جنبًا إلى جنب على ظهرَيهما، وكان جدي يقول كل ليلة: «هذا ليس فراش الزوجية، لكنه سيفي بالغرض.»
في الأغلب، كان أعز شيء في العالم عند جدي — بجانب جدتي — هو فراش زوجيتهما. كان ما يدعوانه فراشهما في ديارنا في بايبانكس، كنتاكي. يذكر جدي في إحدى الحكايات التي يحب أن يرويَها أنه ولد هو وإخوته على ذلك الفراش، وأن أولاده من جدتي ولدوا عليه أيضًا.
حين يحكي جدي هذه القصة، يبدؤها منذ أن كان في السابعة عشرة ويعيش مع والديه في بايبانكس. قابل جدتي في تلك الفترة. كانت تزور خالتها التي كانت تسكن على الجانب المقابل من المرج الذي أمام بيت جدي. قال جدي: «كنت شابًّا جامحًا آنذاك، ولم تلفت نظري أي فتاة، أؤكد لكِ ذلك.» كانت الفتيات هن من يطاردنه. لكن حين وقعت عيناه على جدتي وهي تركض في المرج، بشعرها الطويل الحريري كشعر مُهرة، كان هو من بادر بالمطاردة. «على ذكر الأشياء الجامحة! كانت جدتك المخلوقة الأكثر جموحًا وتمردًا وعندًا وحسنًا على وجه الأرض.»
قال جدي إنه طَوال اثنين وعشرين يومًا ظلَّ يتبعها مثل كلب عجوز أوهنه المرض، وفي اليوم الثالث والعشرين، قصد والدها وطلب يدها للزواج. قال له والدها: «لو استطعت جعلها تقف ساكنة لما يكفي، ولو قَبلَت بك فأظن أن لك ذلك.»
حين طلب جدي يدها للزواج، ردت: «هل تملك كلبًا؟» أجابها جدي بالإيجاب، إذ كان يملك في الواقع كلبة بيجل عجوزًا سمينة تدعى سايدي. قالت جدتي: «وأين تنام الكلبة؟»
تلعثم جدي قليلًا ثم قال: «في الحقيقة، تنام بجواري، لكن إن تزوجنا فسوف …»
سألت جدتي: «وحين تدخل من الباب ليلًا، ماذا تفعل الكلبة؟»
لم يفهم جدي إلامَ ترمي؛ لذا أخبرها الحقيقة. «تقفز إليَّ وتلعقني وتعوي.»
قالت جدتي: «عندئذٍ ماذا تفعل أنت؟»
قال جدي: «رباه …» لم يودَّ أن يُقرَّ بذلك، لكنه قال: «أُجلِسُها في حجري وأربِّت عليها حتى تسكن، وأحيانًا أغني لها أغنيةً. أنت تشعرينني بحُمقي.»
قالت: «لا أقصد ذلك. لقد أخبرتني بكل ما أحتاج لمعرفته. أعتقد أنك إن كنت تُحسن معاملةَ كلبة، فستعاملني أفضل. وأعتقد أنه لو أن الكلبة العجوز سايدي تحبك كثيرًا، فعلى الأرجح سأحبك أكثر. أجل، أقبل الزواج بك.»
تزوَّجا بعد ذلك بثلاثة أشهر. وفي الفترة التي تخللت طلب يدها ويوم زفافهما، بنى جدي وأبوه وإخوته بيتًا صغيرًا في الأرض التي تقع خلف المرج الأول. قال جدي: «لم يكن لدينا الوقت لإتمامه، ولم نكن قد وضعنا به قطعة أثاث واحدة، لكن لا يهم. كنا ننوي أن نبيت فيه ليلةَ زفافنا رغم ذلك.»
عقدا قرانهما في أيكة من أشجار الحور الرجراجي، في يوم مشرق من أيام شهر يوليو، وأقاما بعده وليمة زفاف على ضفاف النهر ووجها إلى أصدقائهما وأقاربهما الدعوةَ لحضورها. في أثناء العشاء، لاحظ جدي غياب أبيه واثنين من إخوته. ظن أنهم ربما يخططون لاحتفالية نبيذ، حيث يخطف الرجال العريس لساعة أو نحوها ويخرجون إلى الغابة ليتشاركوا احتساء قنينة نبيذ. قبل انتهاء العشاء، عاد أبوه وأخواه، لكنهم لم يخطفوه لأجل احتفالية نبيذ. سُر جَدي لذلك، إذ كان يريد أن يحتفظ بصفاء ذهنه تلك الليلة.
في نهاية العشاء، حمل جدي جدتي بين ذراعيه وعبر بها المرج. وخلفهما كان الجميع يغنون: «لاقيني بين أزهار التيوليب حين تتفتح أزهار التيوليب …» وهي أغنية تُغنى عادة في حفلات الزفاف أثناء مغادرة العروسين. كان يفترض بها أن تكون دعابة، وكأنما سيرحل جدي وجدتي وحدهما ولن يظهرا إلا في الربيع القادم حين تتفتح أزهار التيوليب.
حمل جدي جدتي عبر المرج وخلال الأشجار إلى الأرض التي يستقر بها بيتهما الصغير. ثم دخل بها عبر الباب، ولما ألقى نظرة حوله بدأ يبكي.
كان ما دفع جدي للبكاء حين دخل البيت حاملًا جدتي هو أنه وجد في منتصف غرفة النوم سرير والديه، السرير الذي وُلِد عليه جدي وإخوته جميعًا، والذي طالما نام فيه أبواه. وكان هذا سبب اختفاء أبيه وأخويه أثناء وليمة الزفاف. كانوا يَنقُلون السرير إلى بيت جدي وجدتي الجديد. على طرَف السرير، جلست سايدي، كلبة جدي العجوز، تهز ذيلها وتصدر صوتًا فرِحًا.
دائمًا ما يختم جَدي تلك القصة بقوله: «ذلك السرير موجود منذ ولدت، وسوف أموت فيه، وبهذا لن يخفى عليه شيء من أمري.»
لذا كل ليلة من الليالي التي قضيناها في رحلتنا إلى أيداهو، كان جدي يربت على السرير الموجود في النزل ويقول: «هذا ليس فراش الزوجية لكنه سيفي بالغرض»، بينما أنا مستلقية في السرير المجاور أتساءل إن كنت سأحظى يومًا بفراش زوجية كفراشهما.