الرجل الطيب
ينبغي أن أذكر والدي.
وأنا أحكي قصة فيبي لجدي وجدتي، لم أذكر الكثير عن أبي. فهو ابنهما، وبجانب أنهما يعرفانه أفضل مما أعرفه، ولكن كما كانت جدتي تقول كثيرًا، كانا يعتبرانه قرة أعينهما. كان لهما من الأبناء ثلاثة غيره في وقتٍ ما من حياتهما، لكن أحدهم تُوفي حين انقلب جرار فوقه، ومات آخر إثر اصطدامه بشجرة أثناء التزلج، ومات الثالث حين قفز في ماء نهر أوهايو المتجمد لإنقاذ أقرب أصدقائه (نجا الصديق ولم ينجُ عمي).
كان أبي هو ولدهما الوحيد المتبقي على قيد الحياة، وحتى لو ظل أبناؤهما على قيد الحياة، لظل أبي قرة أعينهما، لأنه كان رجلًا طيبًا صادقًا بسيطًا صالحًا. لا أعني ببسيط أنه ساذَج؛ بل أعني أنه يحب الأمور الواضحة البسيطة. كان يفضل من الثياب القمصان المصنوعة من قماش الفلانيلا وسروال جينز أزرق عمره عشرين عامًا. كره بشدة شراء قمصان بيضاء وبذلة لأجل وظيفته الجديدة في يوكليد.
كان يحب المزرعة لأنه فيها يكون في الهواء الطلق الحقيقي، وكان لا يرتدي قفازات العمل لأنه يحب أن تلمس يداه التربة والخشب والحيوانات. كان الانتقال إلى عمل مكتبي حين انتقلنا أمرًا مؤلمًا له. لم يحب أن يقبع في مكان مغلق لا تمس فيه يداه أيَّ شيء طبيعي.
تلازمنا السيارة نفسها منذ خمسة عشر عامًا، وهي سيارة شيفروليه زرقاء. لم يطق مفارقتها لأنه لمس — وأصلح — كل جزء فيها. أظن أيضًا أنه لم يطق فكرة أن يبيعها لأحد خشية أن تئول إلى ساحة الخردة. كره أبي فكرة تخريد السيارات القديمة برمتها. كان كثيرًا ما يتجول في ساحات الخردة ويلمس السيارات القديمة ويشتري المبادلات والمكربنات القديمة لا لشيء إلا البهجة التي تعود عليه من تنظيفها وإصلاحها. لم يتقن جدي يومًا ميكانيكا السيارات، لذا كان يرى أبي عبقريًّا.
كانت أمي محقة بقولها إن أبي رجل طيب. كان دومًا ما يفكر في أشياء بسيطة يبهج بها غيره. كاد ذلك أن يدفع بأمي إلى الجنون إذ كانت تريد أن تضاهيه في تلك الصفة، لكنها لم تملك تلك الموهبة الفطرية كأبي. كان إذا رأى في الحقل شجيرة مزهرة قد تعجب بها جدتي، استخرجها بجذورها وأخذها إلى حديقتها وأعاد زراعتها هناك. وإذا هطل الجليد كان يستيقظ فجرًا ويسير إلى منزل والديه ويزيح الجليد عن ممر السيارات به.
وإذا قصد البلدة لابتياع مستلزمات للمزرعة، يعود وقد اشترى شيئًا لي وشيئًا لأمي. كانت أشياء بسيطة، كوشاح قطني أو كتاب أو ثقالة ورق زجاجية؛ لكنه شيء كان من شأنِنا أن نَبتاعَه لأنفسنا بعينه أيًّا كان.
لم أرَه غاضبًا قط. كانت أمي تقول له: «أحيانًا يخيل لي أنك لست بشرًا.» كانت تقول مثل تلك الأشياء قبل رحيلها مباشرة، وكان هذا يضايقني، إذ كان يُشعرني بأنها تريده أن يكون أكثر قسوةً وأقل طيبة.
قبل رحيلها بيومين، حين سمعتها تذكر لأول مرة أمر الرحيل، قالت: «أشعر بالدونية مقارنةً بك.»
قال: «شوجر، أنتِ لستِ دوني.»
قالت: «أترى؟ أترى؟ لمَ لا تستطيع على الأقل أن تراني دنيئة؟»
قال: «لأنكِ لستِ كذلك.»
قالت إنها مضطرة للرحيل كي تصفِّي ذهنها، وقلبها من كل الأمور السيئة. كانت تحتاج لأن تعرف من هي.
قال لها: «بوسعك أن تفعلي ذلك هنا يا شوجر.»
قالت: «أحتاج لأن أفعله وحدي. لا أستطيع التفكير. هنا لا أرى سوى ما لست عليه. أنا لست شجاعة. ولست طيبة. وأتمنى أن يناديَني أحد ما باسمي الحقيقي. اسمي ليس شوجر. اسمي تشانهاسِن.»
لم تكن على ما يرام. لا أنكر أنها تعرضت لصدمات مريرة، لكني لم أفهم لمَ لا تستطيع أن تتعافى وسطنا. ترجيتها أن تصحبني معها، لكنها قالت إنني يجب ألَّا أغيب عن المدرسة وإن أبي يحتاجني، كما أنها يجب أن تذهب وحدها. يجب عليها ذلك.
ظننت أنها قد تغيِّر رأيها، أو على الأقل تخبرني بموعد مغادرتها. لكنها لم تفعل أي الأمرين. بل تركت لي رسالة تشرح فيها أنها لو ودعتني فسيكون الوداع جدَّ مؤلم، وسيكون له طابع الرحيل الدائم. أرادتني أن أعرف أنها تفكر فيَّ في كل دقيقة، وأنها ستعود قبل تفتُّح أزهار التوليب.
لكنها بالطبع لم تَعُد قبل تفتُّح أزهار التوليب.
كنت أعرف أن رحيلها كاد يقتل أبي حزنًا، لكنه احتفظ بعاداته كما هي، يصفِّر ويدندن ويجلب هدايا صغيرة للناس. ظل يجلب الهدايا لأمي ويكنزها في كومة في حجرة نومهما.
في اليوم الذي اكتشف فيه أنها لا تنوي العودة، ركب الطائرة إلى لويستون، أيداهو، ولما عاد، قضى ثلاثة أيام يكحت المدفأة التي كانت مختفية خلف الجدار الجصي. كان الملاط الذي يتخلل لبناتها يحتاج إلى الاستبدال في بعض المواضع، فخط اسمها في الملاط الجديد. كتب «تشانهاسِن»، وليس «شوجر».
بعد ثلاثة أسابيع عرض المزرعة للبيع. حينها كان قد بدأ يتلقَّى رسائل من السيدة كادافر، وكنت أعرف أنه كان يجيب رسائلها. بعدها سافر بالسيارة لمقابلة السيدة كادافر فيما بقيت أنا مع جدي وجدتي. عند عودته، قال إننا سننتقل للعيش في يوكليد. كانت السيدة كادافر قد ساعدته في إيجاد وظيفة.
لم أتساءل حتى كيف تعرَّف إلى السيدة كادافر أو كم دامت معرفته بها. بل تجاهلتُ وجودها بالكلية. كما أني كنت منشغلةً بالدخول في نوبات غضب عارمة. رفضت الانتقال. أبيت أن أغادر مزرعتنا وشجر القيقب وبركة السباحة والخنازير والدجاج وشَونة التبن. أبيت أن أترك المكان الذي هو ملكي. أبيت أن أغادر المكان الذي كنت مقتنعة أن أمي قد تعود إليه.
في البداية لم يجادلني أبي. بل تركني أنفث عن غضبي كدبٍّ وحشي. ثم أخيرًا أزال لافتة «للبيع» ووضع لافتة «للإيجار». قال إنه سيؤجر المزرعة ويعين من يعتني بالحيوانات والمحاصيل، ويؤجر بيتًا لنا في يوكليد. ستظل المزرعة ملكًا لنا وسنتمكن من العودة لها يومًا ما. قال: «لكن في الوقت الحالي، علينا أن نغادر، فطيف أمكِ يطاردني ليلَ نهار. أراها في الحقول، في الهواء، في الحظيرة، في الجدران، في الأشجار.» قال إننا نُقدِم على تلك الخطوة لنتعلم معنى الشجاعة والإقدام. كان ذلك مألوفًا جدًّا لي.
في نهاية المطاف، أظن أن مخزوني من الغضب نفد. إذ توقفت نوبات الغضب. لم أساعد في حزم الأمتعة، لكن لما حان الوقت، ركبت السيارة وانضممت إلى أبي في رحلة انتقالنا إلى يوكليد. لم أشعر أني شجاعة، ولا جسورة.
لم أذكر أيًّا من ذلك وأنا أحكي لجدي وجدتي قصة فيبي. إذ كانا يعرفانه بالفعل. يعرفان أن والدي رجل طيب، وأني لم أرِدْ ترك المزرعة، وأن أبي شعر أننا مضطران إلى تركها. كانا يعرفان أيضًا أن أبي حاول مرات عديدة أن يوضح لي بشأن مارجريت لكني كنت أرفض الإصغاء إليه.
في ذلك اليوم الطويل الذي تركت فيه وأبي مزرعتنا متجهَين إلى يوكليد، تمنيت لو لم يكن أبي على هذا القدر من الطيبة، كي أجد من ألقي عليه اللوم لرحيل أمي. لم أرِدْ أن ألومها هي. كانت أمي، بضعة مني.