أدلة
بِتُّ الليلةَ التاليةَ في بيت فيبي، لكني لم أستطع النوم تقريبًا. ظلت فيبي تقول: «هل سمعت تلك الضجة؟» ثم تُهرَع لتسترق النظر من النافذة تحسبًا لعودة المختل لينال منا جميعًا. في إحدى تلك المرات، رأت السيدة كادافر في حديقتها وهي تحمل كشَّافًا.
لا بدَّ أني نمت بعدها، إذ استيقظت على صوت فيبي وهي تبكي في نومها. حين أيقظتها أنكرت ذلك. «لم أكن أبكي. قطعًا لم أكن أبكي.» في الصباح أبت فيبي أن تستيقظ. اندفع أبوها إلى الغرفة وقد تدلت رابطتا عنق من عنقه وكان يمسك حذاءه في يده. «لقد تأخرتِ يا فيبي.»
قالت: «أنا مريضة. لديَّ حمى ومعدتي تؤلمني.»
وضع أبوها يده على جبهتها، وأمعن النظر في عينيها وقال: «يؤسفني أن أقول إنك مضطرة للذَّهاب إلى المدرسة.»
قالت: «أنا مريضة. صدقًا مريضة. قد يكون السرطان.»
«فيبي، أعلم أنكِ قلقة، لكن لا يسعنا سوى الانتظار. يجب أن نتابع حياتنا. لا يسعنا أن نتمارض.»
قالت فيبي: «لا يسعنا ماذا؟»
«أن نتمارض، هاك، ابحثي عن معناها.» التقط القاموس من مكتبها وألقى به إليها، ثم اندفع إلى الرَّدْهة.
قالت فيبي: «أمي مفقودة وأبي يعطيني قاموسًا.» بحثت عن معنى «تمارض» وقرأت التعريف: «ادعاء المرض للتملص من أداء واجب أو عمل.» أغلقت القاموس بعنف. «أنا لا أتمارض.»
كانت برودنس في غاية انفعالها. «أين قميصي الأبيض؟ فيبي، هل رأيتِ …؟ أكاد أقسم إنني …!» أخرجت محتويات خزانة ملابسها وطوحتها على السرير.
أخرجت فيبي قميصًا وتنورة مكرمشين من الخزانة وبدلت ملابسها على مضض. في الطابق السفلي، كانت مائدة المطبخ خاوية. قالت فيبي: «لا آنية موسلي، ولا أكواب عصير برتقال، ولا شرائح خبز القمح الكامل.» لمست سترة بيضاء كانت معلقة على ظهر كرسي. وقالت: «تلك سترة أمي البيضاء المفضلة.» التقطت السترة ولوحت بها أمام أبيها. «انظر إلى تلك! هل كانت ستتركها؟ أجبني؟»
مد يده ولمس كم السترة، وفرك نسيجها بين أصبعيه لوهلة يتحسسه. «فيبي، تلك سترة قديمة.» ارتدتها فيبي فوق قميصها المكرمش.
شعرتُ بالضيق لأن كل ما حدث في بيت فيبي ذلك الصباح ذكرني بيوم رحيل أمي. لأسابيع، ظللت أتخبط أنا وأبي كالعميان. لم يكن أي شيء في مكانه الصحيح. دبت الحياة في المنزل، فصار يفقس أكوامًا من الأطباق والملابس المتسخة والصحف والغبار. لا بدَّ أن أبي قد ردَّد عبارة: «تبًّا» ثلاثة آلاف مرة. أصاب القلق الدجاجات، واضطربت الأبقار، وحزنت الخنازير واكتأبت. وظلت كلبتنا مودي بلو، تئن لساعات متواصلة.
حين أخبرني أبي أن أمي لن تعود، أبيت أن أصدقه. أحضرت جميع البطاقات البريدية التي أرسلتها لي من حجرتي، وقلت: «لقد كتبت لي كل هذه البطاقات، سوف تعود لا محالة.» ومثلما فعلت فيبي وهي تلوح بسترة أمها في وجه أبيها، جئت بدجاجة من الحظيرة وسألته: «هل كانت أمي ستترك دجاجتها المفضلة؟ هي تحب تلك الدجاجة.»
ما كنت أعنيه في الحقيقة: «كيف لها ألا تعود إليَّ؟ هي تحبني.»
في المدرسة وضعت فيبي كتبها على مكتبها بعنف. قالت بث آن: «قميصك مكرمش قليلًا يا فيبي …»
قالت فيبي: «أمي مسافرة.»
قالت بيث آن: «أنا أكوي ملابسي بنفسي الآن. أنا حتى أكوي …»
همست فيبي في أذني قائلة: «أعتقد أني سأصاب بسكتة قلبية حقيقية.»
تذكرت أرنبًا صغيرًا اصطادته كلبتنا، مودي بلو، وظلت تجول حاملة إياه؛ لم تكن تنوي أن تأكل الأرنب، بل كانت تلعب ليس إلَّا. أخيرًا أقنعت مودي بلو أن تترك الأرنب، وحين التقطته كان قلبه ينبض بسرعة رهيبة. وظل نبضه يتسارع، ثم ما لبث أن توقف فجأة.
أخذت الأرنب إلى أمي. قالت: «لقد مات يا سالامنكا.»
قلت: «لا يعقل أن يكون قد مات. كان حيًّا منذ لحظات.»
تساءلت عما سيحدث لو ظل نبض فيبي يتسارع حتى يتوقف قلبها مثل ذلك الأرنب، وتسقط صريعة في مكانها هنا في المدرسة. لن تعلم أمها حتى بوفاتها.
بعد الانتهاء من تسجيل الحضور والغياب، قالت ماري لو لفيبي: «هل سمعتكِ تقولين إن أمكِ مسافرة …؟»
تجمعت حولنا كريستي وميجان. قالت كريستي: «هل سافرت أمكِ في رحلة عمل؟ دائمًا ما تسافر أمي إلى فرنسا في رحلات عمل. فأين أمكِ؟ هل هي في رحلة عمل؟»
أومأت فيبي برأسها.
سألت ميجان: «إلى أين ذهبت؟ طوكيو؟ السعودية؟»
قالت فيبي: «لندن.»
قالت كريستي: «أوه، لندن. زارت أمي لندن.»
التفتت فيبي إليَّ وقد بدا عليها الارتباك. أظن أنها فوجئت مما قالت، لكني أعرف تمامًا ما الذي دفعها إلى الكذب. كان ذلك أسهل أحيانًا. لجأتُ إليه حين كان الناس يسألونني عن أمي. قلت: «لا تقلقي يا فيبي.»
انفجرت قائلة: «لست قلقة.»
كنت قد فعلت ذلك أيضًا. كلما حاول أحد أن يواسيَني لرحيل أمي، كنت أنفجر غضبًا في وجهه. كنت أتصرف بعُنُود حمار عجوز. حينما كان أبي يقول: «لا بدَّ أنكِ متضايقة جدًّا»، كنت أنكر ذلك. وكنت أقول له: «لست متضايقة. أنا لا أشعر بأي شيء على الإطلاق.» لكنني كنت متضايقة. كنت لا أشعر برغبة في الاستيقاظ صباحًا، وفي المساء كنت أخشى الخلود إلى النوم.
بحلول موعد الغداء، ظل الناس يمطرون فيبي بوابل من الأسئلة. سألت ماري لو: «إلى متى ستغيب أمكِ في لندن؟ هل ستحتسين الشاي بصحبة الملكة.»
قالت كريستي: «قولي لها أن تزور منطقة كونفنت جاردن. تحب أمي كونفنت جاردن كثيرًا.»
قالت ماري لو: «اسمها كوفنت جاردن أيتها الخرقاء.»
قالت كريستي: «كلا، غير صحيح. أنا واثقة من أن اسمها كونفنت جادرن.»
بعد انتهاء اليوم المدرسي، سرنا عائدين إلى البيت برفقة بن وماري لو. لم تنطق فيبي كلمة. سألها بن: «ما الخطب يا فري بي؟ تكلمي.»
دون سابق إنذار، قلت: «لكلٍّ أجندته الخاصة.» تعثَّر بن في حافة الرصيف، ورمقتني ماري لو بنظرة استغراب. لم يبارحني الأمل في أن تكون والدة فيبي في البيت. ظللت آمل ذلك حتى حين وجدنا الباب موصدًا. قلت: «هل أنتِ واثقة من أنك تريدينني أن أدخل؟ ربما تودين البقاء وحدكِ.»
قالت فيبي: «لا أريد البقاء وحدي. اتصلي بأبيكِ واسأليه إن كان بوسعكِ أن تتناولي العشاء معنا اليوم أيضًا.»
في الداخل، نادت فيبي: «أمي!» جالت في أرجاء المنزل تبحث عنها في كل غرفة. قالت فيبي: «كفى، سوف أبحث عن أدلة، قرائن على أن المختل جاء واختطف أمي عنوةً.» أردت أن أقول لها لا طائل من ذلك، وإن أمها على الأرجح لم تُختطَف، لكني كنت أعرف أنها لم تكن تريد سماع ذلك.
لمَ لم ترجع أمي، دارت في ذهني أفكار كثيرة. ربما أصيبت بالسرطان وتريد إخفاء الأمر عنَّا فذهبت لتختبئ في أيداهو. ربما ارتطم رأسها فأصيبت بفقدان ذاكرة، وتهيم على وجهها في لويستون، لا تدري من هي أو تظن أنها شخص آخر. قال لي أبي: «لم تصب بالسرطان يا سال. ولا تعاني فُقدان ذاكرة. تلك أماني فارغة.»
لكني لم أصدقه. فربما كان يحاول حمايتها؛ أو حمايتي.
جالت فيبي في أرجاء المنزل تتفحص الجدران والسجاد بحثًا عن آثار دماء. عثرت على بضع بقع مثيرة للريبة وخصلات شعر. علَّمت فيبي البقع بقطع من الشريط اللاصق وجمعت خصلات الشعر في ظرف.
عادت برودنس إلى البيت في غاية الحماس. قالت: «نجحت! نجحت!» كانت تتقافز هنا وهناك فرحًا. «اجتزت تجارب أداء فريق المشجعات!» حين ذكرتها فيبي بأن أمها قد اختُطفَت، قالت برودنس: «أمي لم تُختطف يا فيبي.» توقفت عن القفز وتطلعت حولها في المطبخ. «إذن ما الذي من المفترض أن نأكله على العشاء؟»
فتشت فيبي في الخزانات. وفتحت برودنس حجيرة التجميد في الثلاجة وقالت: «انظرا إلى هذا.» لوهلة مريعة، ظننتُ أنها وجدت فيها أشلاء جثة. ثمة احتمال، احتمال ضئيل أن تكون فيبي محقة. ربما قتل مختلٌ أمها. لم أقوَ على النظر. سمعت برودنس تحرك أشياء داخل حجيرة التجميد. على الأقل لم تكن تصرخ.
لم تحتوِ حجيرة التجميد على أشلاء جثة. بل كانت بها حاويات بلاستيكية لُصقَت على كل منها ملاحظة. قرأتها برودنس: «طاج بروك–عد، ٣٥٠، ساعة»، و«معكرو بالجبن، ٣٢٥٫٤٥ دقيقة» إلخ.
قلت: «ما طاج بروك–عد؟»
فتحت فيبي الغطاء. بالداخل كانت توجد كتلة مجمدة باللونين الأصفر والأخضر. قالت: «طاجن بروكلي وعدس.»
حين عاد أبوهما وفوجئ برؤية عشاء على المائدة، أرته برودنس محتويات حجيرة التجميد. همهم أبوها. تناولنا جميعًا العشاء في صمت.
سألت برودنس أباها: «ألم تردك أي أخبار من … من أمي؟»
قال: «كلا، لم يردني منها شيء بعد.»
قالت فيبي: «أظن أن علينا أن نبلغ الشرطة.»
«فيبي!»
«أنا «جادة» فيما أقول. لقد وجدتُ بضع بقع مريبة.» أشارت فيبي إلى موضعين لُصقَ عليهما شريط لاصق أسفل مائدة غرفة الطعام.
سألها: «ما غرض من وضع ذلك الشريط اللاصق هنا؟»
شرحت له فيبي أمر البقعتين اللتين يُحتمل أن تكونا بقعتَي دماء. قالت برودنس: «دماء؟» ثم توقفت عن الأكل.
أخرجت فيبي الظرف وأفرغت خصلات الشعر على المائدة. قالت مفسرة: «شعرات غريبة.»
قالت برودنس: «يا للقرف!»
نقر السيد وينتربوتوم بشوكته سكينه. ثم نهض وقال، ممسكًا بذراع فيبي: «اتبعيني.» ساقها إلى الثلاجة، وفتح حجيرة التجميد وأشار إلى الحاويات البلاستيكية. «لو أن مختلًّا قد اختطف أمكِ، هل كانت ستحظى بوقتٍ لإعداد كل تلك الوجبات؟ هل كانت ستقول له: «معذرة يا سيد مختل، أمهلني حتى أجهز عشرة أو عشرين وجبة لأسرتي ليأكلوها بينما أنا مخطوفة»؟»
قالت فيبي: «أنت لا تكترث. لا أحد يكترث. لكل منكم أجندته السخيفة.»
غادرتُ بعد العشاء بقليل. كان السيد وينتربوتوم في مكتبه، يهاتف أصدقاء زوجته لعلهم يعرفون إلى أين يمكن أن تكون ذهبت.
قالت لي فيبي: «على الأقل هو يفعل شيئًا، لكني ما زلت أرى أننا يجب أن نبلغ الشرطة.»
فيما كنت أغادر منزل فيبي، ناداني صوت مارجريت كادافر الحاد، الذي يشبه تكسُّر أوراق الشجر الجافة، من المنزل المجاور: «سال؟ هل تودين الدخول؟ أبوكِ هنا … نحن نتناول الحلوى. انضمي إلينا.»
ظهر أبي من خلفها. قال: «تعالَي يا سال. لا تكوني سخيفة.»
قلت: «لست سخيفة. لقد أكلت حلوى بالفعل، وسأذهب إلى البيت لكتابة تقرير اللغة الإنجليزية.»
التفت أبي إلى مارجريت. «من الأفضل أن أرافقها. آسف …»
لم تقل مارجريت شيئًا. كل ما فعلَته أنها وقفت مكانها بينما ذهب أبي لإحضار مِعطفه ثم انضم لي. كنت أعلم أن ذلك كان ينمُّ عن اللؤم، لكني شعرت أنني أحرزت فوزًا بسيطًا على مارجريت كادافر.
في الطريق إلى البيت، حين سألني أبي إن كانت والدة فيبي قد عادت، قلت: «كلا. تظن فيبي أن مختلًّا اختطفها.»
«مختل؟ ألا ترين ذلك مستبعدًا بعض الشيء؟»
«هذا ما ظننته في بادئ الأمر، لكنه ليس مستحيلًا، أليس كذلك؟ أعني أنه وارد الحدوث. يمكن أن يكون مختلًّا هو من …»
«سال!»
كنت سأحكي لأبي عن الشاب المتوتر والرسائل الغامضة، لكنه كان سينعتني بالسخافة. فقلت: «كيف تعرف يقينًا أن أحدًا ما — ليس مختلًّا بالضرورة بل شخصًا عاديًّا — لم يجبر أمي على الرحيل إلى أيداهو؟ ربما لجأ للابتزاز …»
«سال. لقد رحلت أمك بإرادتها.»
«كان ينبغي أن نمنعها.»
«البشر ليسوا طيورًا. لا يمكنك أن تحبسي شخصًا.»
«ما كان ينبغي لها أن ترحل. لو أنها لم ترحل …»
«سال، أنا واثق من أنها كانت تنوي العودة.» كنا قد وصلنا إلى البيت، لكننا لم ندخل. بل جلسنا على درجات سُلَّم الشرفة. قال أبي: «لا يسعكِ التنبؤ … لا يمكن توقع … لا تعرفين أبدًا …»
وأشاح بنظره، فلم يسعني إلا أن أشاطره حزنه. اعتذرت له عن تعنُّتي وعن مضايقته. لفَّني بذراعه وظللنا جالسَين مكاننا على الشرفة، ضائعين ويُرثى لحالنا.