متنزه بادلاندز
قال جدي: «كيف حال ساقكِ التي لدغها الثعبان يا عزيزتي؟»
كان قلقًا على جدتي، لكن ساقها لم تقلقه بقدر أنفاسها المتحشرجة. «سنتوقف في متنزه بادلاندز.» أومأت جدتي برأسها.
كلما دنَونا من متنزَّه بادلاندز، ازدادت الهمسات المتناثرة في الهواء التي تقول: «على مهل، على مهل، على مهل.» قلت مقترحةً: «ربما من الأفضل ألا نزور بادلاندز.»
قالت جدتي: «ماذا؟ لا نزوره؟ بالطبع علينا أن نزوره. لقد كدنا نصل. إنه كَنز وطني.»
لا بدَّ أن أمي قد سلكت هذا الطريق. تُرى فيمَ كانت تفكر حين وقعت عيناها على هذه اللافتة، أو تلك؟ متى بلغت هذا الجزء من الطريق؟
لم تكن أمي تعرف القيادة. كانت تخشى السيارات. قالت: «لا أحب تلك السرعة العالية. بل أحب أن أكون المتحكمة في وجهتي وسرعتي.» حين قالت إنها ذاهبة إلى مدينة لويستون بولاية أيداهو، بالحافلة، اندهشت أنا وأبي.
لا أعرف لمَ اختارت أيداهو. خطَر لي أنها ربما فتحت كتاب خرائط وأشارت بأصبعها إلى موضع عشوائي قديم، لكني عرفت فيما بعد أن لها ابنة خالة تعيش في لويستون بأيداهو. قالت أمي: «لم أرَها منذ خمسة عشر عامًا، وهذا أمر جيد، إذ ستخبرني من أكون حقيقة.»
قال أبي: «بوسعي أن أخبركِ أنا بذلك يا شوجر.»
«كلا، أعني قبل أن أصير زوجة وأمًّا. تحت تلك القشرة، حين كنت تشانهاسن الحقيقية.»
بعد أن قطعنا بالسيارة مسافةً طويلةً في براري ساوث داكوتا المستوية، اعترتنا الصدمة حين وصلنا إلى بادلاندز. بدا المتنزه وكأنما حصد شخص ما جميع التلال والوديان والصخور من ساوث داكوتا وحشدها جميعًا في تلك البقعة. في منتصف السهول المستوية، كانت تستقر قمم مُسننة وأخوار منحدرة. كانت السماء الزرقاء الشاهقة تعلونا، وبالأسفل كانت توجد الصخور الوردية والسوداء والأرجوانية. يمكنك أن تقف على حافة قمم الشعاب فتطالعك من أسفل وهدان خطيرة ذات حواف حادة ناتئة. تتوقع أن ترى هياكل عظمية بشرية تتدلى في أرجائها.
حاولت جدتي أن تقول: «مرحى، مرحى!» لكن أنفاسها لم تُسعفها. قالت بأنفاس متحشرجة: «مرﺣ… مرﺣ…» فرش جدي دِثارًا على الأرض حتى تجلس وتتطلع إلى المنظر.
أرسلت أمي بطاقتين بريديَّتين من متنزه بادلاندز. كانت إحداهما تقول: «سالامنكا هي ذراعي اليمنى. أفتقد ذراعي اليمنى.»
حكيت لجدي وجدتي قصةً كانت أمي قد حكتها لي عن السماء الشاهقة، التي بدت هنا أعلى مما هي في أي مكان زرته من قبل. منذ زمن بعيد، كانت السماء منخفضة جدًّا حتى إن رأسك قد يرتطم بها إن لم تحاذر، ومنخفضة جدًّا إلى حد أن الناس أحيانًا كانوا يختفون في داخلها. لمَّا فاض بالناس الكيل من انخفاضها، صنعوا أعمدةً طويلةً، وذات يوم رفعوا جميعًا أعمدتهم ودفعوا. دفعوا السماء لأعلى ما يمكن.
قال جدي: «وانظرا إليها الآن. لقد دفعوها بقوة بالغة إلى حد أنها ظلت ثابتة.»
بينما كنت أحكي تلك القصة، جاءت امرأة حبلى ووقفت على مقربة منا، تجفف وجهها بمنديل. قال جدي: «تلك المرأة تبدو منهكة للغاية.» سألها إن كانت تود أن تستريح على دِثارنا المفروش.
قلت: «سأُلقي نظرة على المكان.» كنت أخاف النسوة الحوامل.
بعد أن أخبرتني أمي بنبأ حملها، أردفت: «أخيرًا! سنملأ حقًّا ذلك البيت بالأولاد.» في البداية، لم ترُق لي الفكرة. فلمَ لا تكتفي بي أنا فقط؟ كنت أنا وأمي وأبي نشكِّل فريقًا صغيرًا.
حين نما الطفل بداخل أمي، أسمعتني أمي نبضه، وجعلتني أشعر بركلاته في بطنها، فبدأت أتشوق لرؤيته. كنت آمُل أن يكون بنتًا، فأحظى بأخت. زينت مع أبي وأمي غرفة الطفل. طلينا جدرانها باللون الأبيض اللامع وعلقنا ستائر صفراء. أزال أبي الطلاء من وحدة أدراج قديمة وأعاد طلاءها. وأهدانا الناس ملابس رضع صغيرة جدًّا. غسلنا وطوينا كل قميص منها وكل حلة وكل حلة نوم منها. واشترينا حفَّاظات قماشية جديدة لأن أمي كانت تحب منظر الحفَّاظات المنشورة على حبل الغسيل في الهواء الطلق.
الشيء الوحيد الذي لم نستطع فعله هو اختيار اسم. لم يبدُ أي اسم مناسبًا تمامًا. لم يكن ثمة اسم مثالي بشكل كافٍ لهذا الطفل. بسبب ذلك بدا أبي أكثر قلقًا من أمي. قالت أمي: «سوف يخطر لنا اسم مناسب. سيأتينا الاسم المثالي فجأة ذات يوم.»
قبل موعد ولادة الطفل بثلاثة أسابيع، كنت في الغابة التي تقع وراء أبعد حقل. كان أبي قد ذهب إلى البلدة ليُنجز بعض المهام؛ وكانت أمي تدعك أرضية البيت. قالت إن دعك الأرضية يخفف ألم ظهرها. لم يكن أبي يحب لها أن تفعل ذلك، لكنها أصرت. لم تكن أمي امرأة هشة واهنة الصحة. بل كان من عادتها أن تفعل مثل تلك الأشياء.
في الغابة، تسلقتُ شجرة بلوط وأنا أغني أغنية أمي: «لا تقعي في حب بَحَّار، في حب بَحَّار، في حب بَحَّار …» ظللت أصعد وأصعد. «لا تقعي في حب بَحَّار …»
فجأة انكسر الغصن الذي وطِئْتُه بقدمي، فأمسكت بآخر، لكنه كان غصنًا ميتًا فانخلع في يدي. هويت وظللت أهوي وكأنما تباطأ الزمن. رأيت أوراق شجر. أدركت أني أسقط.
حين استعدت وعيي، وجدتني مستلقيةً على الأرض ووجهي في التراب. كانت ساقي اليمنى قد التوت تحتي، وحين حاولت أن أتحرك، شعرت بوخز حاد في ساقي كلها. حاولت أن أجرَّ جسدي على الأرض، لكن الوخز امتدَّ إلى دماغي فاكتسى كل شيء بالسواد. كان ثمة ضجيج حاد في رأسي.
لا بدَّ أني غبت عن الوعي مرة أخرى، لأنني لما فتحت عيني بعدها كانت الغابة أكثر إظلامًا والهواء أبرد. سمعت أمي تنادي. كان صوتها بعيدًا وخافتًا، قادمًا من مكان قريب من الحظيرة. أجبتها، لكن صوتي انحشر في صدري.
وجدتني أمي وحملتني عبر الغابة والحقول ونزلت بي التل الطويل إلى المنزل. اتصلت بجديَّ ليأتيا ويقلاننا إلى المستشفى. استغرق وضع ساقي في جبيرة وقتًا طويلًا، وحين عدنا إلى البيت كنا جميعًا منهكين. شعر أبي بالذنب لأنه كان بعيدًا، وظل يطمئن علينا باستمرار.
تلك الليلة وُلِد الطفل. سمعت أبي يهاتف الطبيب. قال: «لن تصمد، لقد بدأت الولادة بالفعل.»
مستعينة بعكازَيَّ الجديدين، خطوت بصعوبة إلى آخر الرَّدْهة. كان رأس أمي غائرًا في الوسادة، وكانت تتعرق وتتألم. قالت لأبي: «ثمة خطب ما.» رأتني واقفةً مكاني وقالت: «لا ينبغي أن تشاهدي هذا. لا أحسبني أجيد هذا الأمر.»
في الرواق خارج حجرتها، جلست على الأرض. جاء الطبيب. صرخت أمي صرخةً واحدةً، نواح طويل حزين مفجوع، ثم ساد السكون.
حين خرج الطبيب من الغرفة حاملًا الطفل، طلبت أن أراه. كان يشوب بَشَرتَه شحوبٌ مائلٌ للزرقة، وكانت توجد علامات على عنقه خلَّفها الحبل السري الذي خنقه. قال الطبيب لأبي: «يحتمل أن يكون قد مات منذ ساعات. لا يمكنني أن أجزم.»
سألته: «أكان ولدًا أم بنتًا؟»
أجابني الطبيب هامسًا: «كانت بنتًا.»
سألت إن كان يمكنني أن ألمسها. كانت لا تزال دافئةً لوجودها في جسد أمي. بدت جميلة ومستكينة، ومتكومة على نفسها، أردت أن أحملها لكن الطبيب لم يحبذ ذلك. ظننت أنه ربما إن حملتها فقد تستيقظ.
بدا أبي مضطربًا، لكنه لم يَعُد يعنيه أمر الرضيعة. ظل يدخل الغرفة ويربت على أمي. قال لي: «لا ذنب لكِ يا سال … لم يحدث ذلك لأنها حملتكِ. إياكِ أن تظني ذلك.»
لم أصدقه. عرجت إلى غرفة أمي واندسست في السرير إلى جوارها. كانت تحملق في السقف.
قالت: «دعيني أحمله.»
«تحملين ماذا؟»
قالت: «الطفل.» كان صوتها غريبًا ذاهلًا.
دخل أبي فطلبَت منه أن يعطيَها الطفل.
انحنى وقال لها: «أتمنى … أتمنى …»
قالت: «الطفل.»
قال: «لقد مات.»
قالت: «أريد أن أحمل الطفل.»
كرر: «لقد مات.»
قالت بذلك الصوت الرتيب: «لا يمكن أن يكون ميتًا. كان حيًّا منذ لحظات.»
ظللتُ نائمة بجوارها حتى سمعتها تنادي أبي. حين أشعل ضوء الغرفة، رأيت الدماء تلطخ السرير بأكمله. بللت المُلاءات والبطانية؛ وجص جبيرتي الأبيض.
وصلت سيارة إسعاف وأخذتها هي وأبي. وجاء جدي وجدتي ليمكثا معي. أخذت جدتي جميع الملاءات وغلتها. ودعكت الدماء لتُزيلها عن جبيرتي قدر استطاعتها، لكن ظلت بها بقعة وردية داكنة.
عاد أبي إلى البيت من المستشفى في اليوم التالي، لكنه لم يمكث طويلًا. قال: «ينبغي أن نسميَ الطفلة على أية حال. هل لديكِ أي اقتراحات؟»
خطر لي الاسم من حيث لا أدري. قلت: «تيوليب.»
ابتسم أبي. «ستحبه أمكِ. سندفن الطفلة في المقبرة الصغيرة القريبة من غابة الحور الرجراجي؛ حيث تنمو أزهار التوليب كل ربيع.»
خضعت أمي لجراحتين في اليومين التاليين. ظلت تنزف بلا توقُّف. لاحقًا قالت أمي: «لقد أزالوا جميع أعضائي التناسلية الداخلية.» لن تتمكن من إنجاب المزيد من الأطفال.
في متنزه بادلاندز، جلستُ على حافة أحد الأخوار أنظر خلفي إلى جدتي وجدي والمرأة الحبلى على الدثار. تظاهرت بأن تلك المرأة هي أمي وأنها لا تزال حبلى وأن كل شيء سيسير كما ينبغي. ثم حاولت أن أتخيل أمي جالسة هنا، في طريقها إلى لويستون، أيداهو. هل ترجَّل جميع ركاب الحافلة وتجولوا معها أم جلست وحدها مثلي؟ هل جلست في تلك البقعة، وهل رأت تلك القمة المدببة الوردية؟ هل كانت تفكر فيَّ؟
التقطتُ حجرًا مسطحًا ورميته في الخور حيث ارتطم بالجدار المقابل وسقط مرتدًا عن النتوءات الحادة. حكت لي أمي ذات مرة قصة من قصص قبيلة بلاكفوت، عن نابي، الرجل المسن الذي أوجد الرجال والنساء. كي يقرر نابي إن كان سيمنح أولئك البشر الجدد حياة أبدية أم فانية، اختار حجرًا. وقال: «لو طفا الحجر، فستحظون بحياة أبدية. وإن غاص، فستكونون فانين.» ألقى نابي الحجر في الماء. فغرق. وصار الناس فانين.
سألت: «لمَ استخدم نابي حجرًا؟ لِمَ لَم يستخدم ورقة شجر؟»
هزت أمي كتفَيها. وقالت: «لو كنتِ موجودة معه، لكان بإمكانكِ أن تجعلي الحجر يطفو.» كانت تشير إلى مهارتي في رمي الحجر فيصطدم بسطح الماء ويرتد عنه متحركًا فوقه.
التقطتُ حجرًا ورميته في الخور، فاصطدم مثل سابقه بالجدار المقابل وهوى لأسفل. ليس ذلك بنهر. بل حفرة. فماذا كنتُ أتوقع؟