اقتحام
قال جدي: «يا للهول! كم هي كثيرة طيور الحزن التي كانت تحوم فوق أسرة بيبي.»
سألتني جدتي: «لقد أحببتِ بيبي، أليس كذلك يا سالامنكا؟»
بالفعل كنت أحب فيبي. رغم جميع حكاياتها الجامحة وهوسها بالكوليسترول وتعليقاتها المزعجة، كان فيها شيء يشبه المغناطيس. كان يجذبني إليها. كنت واثقةً بأن وراء تلك التصرفات الغريبة يستتر شخص خائف. وعلى نحو غريب، كانت كنسخة أخرى مني؛ كانت تصرفاتها تعكس شعوري في بعض الأحيان.
لا أظن أن فيبي كانت تنوي فعلًا اقتحام منزل السيدة كادافر، لكن بينما كانت تأوي إلى فراشها، رأت السيدة كادافر تركب سيارتها مرتدية زي التمريض وتغادر. انتظرت فيبي حتى نام أبوها، ثم اتصلت بي. قالت: «يجب أن تأتيَ. الأمر طارئ.»
«لكن الوقت متأخر يا فيبي. لقد حل الظلام.»
«الأمر طارئ يا سال.»
كانت فيبي تنتظر أمام منزل السيدة كادافر. كانت أضواء منزل السيدة كادافر مطفأة. قالت فيبي: «هيا»، ودلفَت إلى ممر البيت. أقر بأني ترددت. قالت: «أريد إلقاء نظرة سريعة لا أكثر.» تسللَت إلى الشرفة ووقفَت عند الباب. أصغت، ثم طرقَت الباب مرتين، وأدارت مقبضه. لم يكن الباب موصدًا.
لا أظن أن فيبي كانت تنوي الدخول، لكنها فعلت، وتبعتُها. وقفنا في الرَّدهة المظلمة. في الغرفة على يميننا، تسلل شعاع ضوء من خلال النافذة مصدره عمود إنارة. دخلنا تلك الغرفة. كدنا نقفز من النافذة حين سمعنا من يقول: «سال؟» بدأت أتراجع نحو الباب.
قالت فيبي: «إنه شبح.»
قال الصوت: «تعالَي إلى هنا.»
لما اعتادت عيني الضوء الواهن، تبينت شخصًا يجلس متكوِّمًا على كرسي في الزاوية المقابلة. غمرتني الراحة حين رأيت العكاز. «سيدة بارتريدج؟»
قالت: «تعالَي. من معكِ؟ أهي فيبي؟»
قالت فيبي: «أجل.» كان صوتها مرتفعًا مرتعشًا.
قالت السيدة بارتريدج: «لقد كنت جالسةً هنا أقرأ.»
سألت وأنا أرتطم بطاولة: «ألا تجدين الظلام دامسًا هنا؟»
ضحكت السيدة بارتريدج ضحكتها المشاكسة. «الظلام دامس هنا دومًا. لا حاجة لي إلى الأضواء، لكن أنيري شيئًا منها إن أردتِ.»
فيما كنت أتحسس طريقي باحثةً عن مصباح، وقفت فيبي متسمرةً قرب الباب. قلت: «هاكِ. هذا أفضل بكثير.» كانت السيدة بارتريدج تجلس في كرسي كبير منتفخ بحشوته إلى حدٍّ مبالغ فيه. كانت ترتدي بُرنُس حمام بنفسجيًّا وخفَّين ورديَّين في مقدمتهما أذنا أرنب. وكان في حجرها كتاب استقرت أناملها على إحدى صفحاته. سألت وأنا أشير إلى فيبي بالدخول إلى الغرفة: «أهو مكتوب بطريقة بريل؟» كنت أخشى أن تهرب وتتركني.
ناولتني السيدة بارتريدج الكتاب، ومررت أناملي على رموزه البارزة. سألتها: «كيف عرفتِنا؟»
قالت: «عرفت فحسب. حذاؤكِ له صوت مميز، وأنتِ رائحتكِ مميزة.»
«ما عنوان الكتاب؟ ما موضوعه؟»
قالت السيدة بارتريدج: «اسمه «جريمة قتل في منتصف الليل». إنها رواية غموض.»
ازدردت فيبي لُعابها وجالت بعينيها في أرجاء الغرفة.
كل مرة أدخل فيها ذلك البيت، ألاحظ أشياء جديدة. كان مكانًا مخيفًا. كانت الجدران مكسوَّةً بأرففٍ مكدسة بكتب عتيقة بالية. وكانت الأرضية مفروشةً بثلاثة سجاجيد تزينها نقشات لحيوانات برية في الغابة. وكان يوجد كرسيان مزينان بنقشات مروعة مشابهة. وكانت أريكة مفروشة بفراء دب.
على الجدار خلف الأريكة، عُلِّق قناعان أفريقيان متجهمان للغاية. كان فماهما مفغورين، كأنما يصرخان. أينما نظرت وقع بصرك على شيء مفزع؛ سنجاب محنط أو طائرة ورقية على شكل تنين، أو تمثال خشبي لبقرة يخترق رمح جانبي جسدها.
قالت فيبي: «يا إلهي، يا لها من … من … أشياء فريدة كثيرة.» جثت على ركبتيها لتتفحص بقعة على الأرضية.
قالت السيدة بارتريدج: «ما الخطب؟»
هبت فيبي واقفة. «لا شيء. لا شيء على الإطلاق.»
سألت السيدة بارتريدج: «هل سقط مني شيء على الأرض؟»
ردت فيبي: «كلا، لا يوجد على الأرض أي شيء.» كان سيف هائل يستند إلى خلفية الأريكة. تفحَّصت فيبي نصله.
قالت السيدة بارتريدج: «احترسي وإلَّا جُرحتِ.»
تراجعت فيبي. حتى أنا قلقت من ذلك، من قدرة السيدة بارتريدج على رؤية ما تفعله فيبي مع أنها كفيفة.
قالت السيدة بارتريدج: «أليست غرفة مهيبة؟ مهيبة وأظنها غريبة بعض الشيء.»
تراجعنا نحو الباب: «يجب أن نذهب أنا وفيبي …»
حين وصلنا إلى الباب، قالت السيدة بارتريدج: «بالمناسبة، ماذا كنتما تريدان؟»
تبادلت أنا وفيبي النظرات. وقلت: «لقد كنَّا مارتين فحسب، فخطر لنا أن نسألكِ عن حالكِ.»
قالت السيدة بارتريدج وهي تربت على ركبتيها: «لطيف. صحيح يا فيبي، أظن أنني قابلت أخيكِ.»
قالت فيبي: «ليس لي أخ.»
قالت السيدة بارتريدج وهي تشير إلى رأسها: «حقًّا؟ أظن أن عقلي العجوز لم يَعُد كما كان.» ونحن نغادر قالت لنا: «يا إلهي، إنكما تتأخران في النوم أيتها الفتاتان.»
في الخارج، قالت فيبي: «سأضع قائمة بالأغراض التي تحتاج الشرطة لفحصها بمزيد من الدقة: السيف والبقعة المريبة على الأرضية، والشعيرات التي التقطتها.»
«فيبي، أتذكرين حين قلت إن أمكِ لا يمكن أن ترحل دون تفسير؟ هذا ممكن. يمكن لشخص أن يُقْدِم على ذلك، ولو كان أمًّا.»
قالت فيبي: «لن تفعله أمي «أنا». أمي «أنا» تحبني.»
«لكنها قد تعجز عن تقديم تفسير حتى لو كانت تحبك.» كنت أفكر في الرسالة التي تركتها لي أمي. «ربما سيكون التفسير مؤلمًا لها. ربما سيجعل الأمر يبدو نهائيًّا لا رجعة فيه.»
«لا أفهم على الإطلاق ما تقولينه.»
«أعني أنها قد لا تعود يا فيبي …»
«اصمتي يا سال.»
«قد لا تعود. أظن أنكِ ينبغي أن تكوني مستعدة …»
«ستعود حتمًا. أنت لا تدرين ما تقولينه. قولك هذا بغيض.» هُرعت فيبي إلى داخل منزلها.
حين عدت إلى البيت وتسللت إلى حجرتي، تذكرت أن فيبي أرتني أغراضًا في حجرتها تذكرها بأمها؛ بطاقة تهنئة بعيد الميلاد صنعتها بيدها، وصورة فوتوغرافية لها مع أمها، وصابونة بعطر اللافندر. وحين أخرجت فيبي قميصًا من الخزانة، قالت إنها تكاد ترى أمها وهي واقفة أمام طاولة المكواة تسوي بيدها طياته. كان الجدار المقابل لسرير فيبي مطليًّا باللون البنفسجي. قالت: «لقد طلته أمي الصيف الماضي بينما طليت أنا الإطار السفلي.»
وكنت أفهم بالضبط ما كانت فيبي تفعله ولماذا. فقد فعلت مثلها حين رحلت أمي. كان أبي محقًّا: كان شبح أمي يسكن منزلنا في بايبانكس وكذلك الحقول والحظيرة. كانت في كل مكان. لم يكن بصري يقع على شيء إلا وكان يُذكِّرني بها.
حين انتقلنا إلى يوكليد، كان من بين أول الأشياء التي فعلتها هو أنني أخرجت هدايا أهدتني أمي إياها. على الجدار، علقت ملصقًا لصورة الدجاجة الحمراء التي أهدتنيه أمي في عيد مولدي الخامس، ورسمة الحظيرة التي أهدتنيها في عيد مولدي الأخير. وعلى مكتبي وضعت صورًا لها وبطاقات وصلتني منها. وعلى رف المكتبة كانت الكتب وتماثيل الحيوانات الخشبية هدايا منها.
كنت أحيانًا أجوب الغرفة وأنظر إلى كل واحد من تلك الأغراض وأحاول أن أتذكر اليوم الذي أهدتنيه أمي فيه بالتحديد. حاولت أن أسترجع كيف كان الطقس يومها وفي أي الغرف كنا، وماذا كانت ترتدي وما قالته نصًّا. لم تكن لعبة أتسلى بها. بل ضرورة حتمية، أمر لا غنى عنه. لولا امتلاكي تلك الأغراض، واسترجاعي تلك المناسبات، لربما تلاشت ذكراها للأبد. لربما نسيتها كأن لم تكن.
في وحدة أدراجي، كانت توجد ثلاثة أغراض أخذتها من خزانتها بعد أن رحلت: وشاح وسترة زرقاء وفستان قطني منقوش بورود صفراء لطالما كان هو المفضل لديَّ. كانت تلك الأغراض تحمل رائحتها.
ذات مرة، قبل رحيلها، قالت لي أمي إني إن تصورت حدوث شيء في خيالي، فبوسعي أن أحوله إلى حقيقة. فمثلًا، إن كنت على وشك خوض سباق عَدْو، فعليَّ أن أتخيَّل نفسي وأنا أخوض السباق وأكون أول الواصلين إلى خط النهاية. ولما يحين الوقت، فسيتحقق ذلك. الشيء الوحيد الذي استعصى عليَّ فهمُه هو ماذا سيحدث لو تخيل كل من يخوض السباق أنه سيكون الرابح.
مع ذلك، حين رحلت، كان ذلك ما فعلته. تخيلتها تمدُّ يدها إلى الهاتف. ثم تخيلتها تُجري المكالمة. تخيلت صوت رقم هاتفنا وهو ينتقل عبر الأسلاك. تخيلت هاتفنا يرن.
لم يرن.
تخيلتها تستقل الحافلة العائدة إلى بايبانكس. تخيلتها تسير في ممر السيارات. تخيلتها تفتح الباب.
لم يحدث ذلك.
فيما كان كل ذلك يدور في ذهني في تلك الليلة التي تسللنا فيها أنا وفيبي إلى داخل منزل السيدة كادافر، فكرت أيضًا في بن. اجتاحتني رغبة مفاجئة في أن أركض إلى منزل آل فيني وأسأله أين أمه، لكن الوقت كان متأخرًا جدًّا. سيكون آل فيني نائمين.
عوضًا عن ذلك، استلقيت مكاني أفكر في القصيدة التي تحكي عن المسافر، وتخيلت الأمواج وهي ترتفع وتنحسر، وأياديها البيضاء المريعة وهي تختطف المسافر. كيف يمكن أن يكون موت المسافر أمرًا عاديًّا؟ وكيف يمكن أن يكون عاديًّا ومريعًا في آنٍ واحد؟
تلك الليلة لم أنم. كنت أعرف أني لو أغمضت عيني، فسأرى الأمواج وأياديها البيضاء. فكرت في بكاء السيد وينتربوتوم. كان ذلك أكثر ما أحزنني. أكثر حتى من رؤية أبي يبكي، فأبي من النوع الذي تتوقَّع بكاءه لو ألمَّ به حزن شديد. لكني لم أتوقع قَط من السيد وينتربوتوم — السيد وينتربوتوم الجامد المشاعر — أن يبكي. كانت تلك هي المرة الأولى التي أُدرِك فيها أنه بالفعل يهتم لأمر زوجته.
ما إن طلع النهار، حتى اتصلت بفيبي. «فيبي، يجب أن نجدها.»
قالت: «هذا ما أحاول إخباركِ به.»