قبلات بنكهة الدجاج والتوت البري
عبر جدي ولاية وايومينج بسرعة جنونية. كنا نجتاز طرقًا متعرجة تحفها أشجار تميل مطبقة علينا وتخشخش قائلة: «هيا، هيا، هيا، هيا، هيا.» كان الطريق ينحني بمحاذاة أنهار تقرقع وتهذرم: «هلُمِّي، هلُمِّي، هلُمِّي.»
كان الوقت متأخرًا حين وصلنا إلى متنزه يلوستون. لم نرَ ذلك المساء سوى ينبوع ساخن. سرنا في ممرات خشبية مشيدة فوق الطمي الذي كان يغلي من الحرارة (بينما كانت جدتي تقول: «مرحى، مرحى»!) وبتنا في كوخ خشبي في نُزُل «أولد فيثفول». لم أرَ جدتي متحمسةً إلى هذا الحد من قبل. كانت تنتظر طلوع الصباح بفارغ الصبر. ظلت تكرر: «سنرى فوارة أولد فيثفول.»
قلت: «لن يستغرق ذلك طويلًا، أليس كذلك؟» شعرت وأنا أقول ذلك أني أنانية، إذ كانت جدتي متشوقة كثيرًا لرؤيتها.
قالت جدتي: «لا تقلقي يا سالامنكا، سنشاهد الفوارة الحارة القديمة وهي تنفث ماءها ثم سنمضي في طريقنا.»
طَوال الليل ظللت أصلي لشجرة الدردار التي بالخارج. طلبت في صلواتي ألا يقع لنا حادث، وأن نصل إلى لويستون، أيداهو في يوم عيد ميلاد أمي، وأن نعود بها إلى البيت. لاحقًا، سأدرك أني لم أكن موفقة في طلباتي تلك.
في تلك الليلة، لم تستطع جدتي النوم من فرط حماسها. وظلت تثرثر عن أمور شتى. قالت لجدي: «أتذكر تلك الرسالة التي جاءت من مشتري البيض التي وجدتَها تحت المرتبة؟»
«بالطبع أذكرها. لقد خضنا شجارًا محتدمًا بسببها. قلتِ إنك لا تدرين كيف وصلت إلى ذلك المكان. وقلتِ إنه حتمًا تسلل إلى غرفة النوم ووضعها بنفسه.»
قالت جدتي: «حسنًا، أريدك أن تعرف أني أنا التي وضعتها في ذلك المكان.»
قال جدي: «أعرف، لست مغفلًا إلى ذلك الحد.»
قالت جدتي: «تلك هي الرسالة الغرامية الوحيدة التي تلقيتها. أنت لم تكتب لي أي رسائل غرامية.»
«لم تقولي يومًا إنك تريدين أن أكتب لكِ رسالة غرامية.»
قالت لي جدتي: «كاد جدك يقتل مشتري البيض بسبب تلك الرسالة.»
قال جدي: «هراء، لم يكن يستحق القتل.»
«ربما، لكن جلوريا كانت تستحقه.»
قال جدي وهو يضع يده على قلبه متظاهرًا بالتأثر: «آه! جلوريا!»
قالت جدتي: «كف عن ذلك»، ثم تقلَّبت إلى جنبها. «احكي لي عن بيبي. احكي لي تلك القصة، لكن لا تجعليها بائسة للغاية.» عقدت ذراعيها أمام صدرها. «أخبريني ماذا حدث بشأن المختل.»
حين رأيت صورة المختل على مكتب الرقيب بيكل، هُرعت هاربةً من مكتبه كالبرق. اجتزت الرقيب بيكل الذي كان واقفًا في موقف السيارات وأنا أركض. لم يكن ثمة أثر لفيبي. ظلِلت أركض حتى منزلها. حين مررت ببيت السيدة كادافر، نادتني السيدة بارتريدج من شرفتها.
قلتُ: «أنتِ متأنقة. هل أنتِ ذاهبة إلى مكان ما؟»
قالت: «أجل، لقد تجهزت.» نزلت بصعوبة درجات السُّلَّم وعكازها ذو رأس الكوبرا يتأرجح أمامها.
سألتها: «ستتمشين؟»
مدت يدها ولمست ساقيها. «أليس هذا ما يُطلَق على ما يفعله المرء حين يحرك ساقيه كما أفعل الآن؟»
«كلا، أعني هل ستتمشين إلى حيث أنت ذاهبة؟»
«أوه كلا، لن تتحمل ساقاي ذلك. سيأتي جيمي ليُقلني. هو على وشك الوصول.» توقفت سيارة أمام المنزل. قالت: «ها قد جاء.» وصاحت مخاطبة السائق: «أنا جاهزة. قلتُ إني سأكون جاهزة وها أنا ذي.»
قفز السائق خارجًا من السيارة. قال: «سال؟ لم أكن أعرف أنكما جيران.» كان السيد بيركواي.
قلت: «لسنا كذلك. جارتها هي فيبي …»
قال وهو يفتح باب السيارة للسيدة بارتريدج: «حقًّا؟ هيا يا أمي. لنذهب.»
قلت: «أمك؟» نظرت للسيدة بارتريدج. «أهذا ابنكِ؟»
قالت السيدة بارتريدج: «أجل، بالطبع. هذا صغيري جيمي.»
«لكن لقبه بيركواي …»
قالت السيدة بارتريدج: «لقد كنت متزوجةً من بيركواي ذات يوم. ثم تزوجت من بارتريدج وما زلت أحمل لقبه.»
سألت: «من تكون السيدة كادافر إذَن؟»
قالت: «صغيرتي مارجي. كانت تحمل لقب بيركواي أيضًا. وهي الآن تحمل لقب كادافر.»
سألت السيد بيركواي: «السيدة كادافر أختك؟»
قال السيد بيركواي: «أنا وهي توءمان.»
حين رحلت سيارتهما، طرقت باب فيبي لكن لم يُجبني أحد. في البيت، ظللت أتصل بفيبي مرارًا وتكرارًا. لم يُجِب أحد.
في اليوم التالي في المدرسة، اطمأننت حين رأيت فيبي. قلت لها: «أين كنتِ؟ لديَّ ما أود إخباركِ به …»
أدارت لي ظهرها. قالت: «لا أريد أن أتحدث عن الأمر. لا أريد مناقشته.»
لم أستطع تبيُّن ما كان يضايقها. كان يومًا عصيبًا. خضنا اختبارًا في الرياضيات وفي العلوم. أثناء استراحة الغداء، تجاهلتني فيبي. ثم جاءت حصة اللغة الإنجليزية.
دخل السيد بيركواي الفصل حجلًا. كان الناس يقرضون أظافرهم ويهزون أقدامهم ويتململون يعتريهم التوتر بصفة عامة، يتساءلون إن كان السيد بيركواي سيقرأ من دفاتر اليوميات. حملقتُ فيه. هو ومارجريت كادافر توءمان؟ أيُعقل هذا؟ كان أكثر ما أصابني بخيبة أمل حين علمت ذلك هو أنه لن يقع في حبها ويتزوجها ويأخذها معه بعيدًا.
«هذا ما يعجبني في جين. هي ذكية، لكنها لا تتصرف وكأنما تعرف كل شيء. وهي جذابة. ورائحتها عطرة. وجذابة. وتضحكني. وجذابة.»
سرى في ذراعيَّ وخز. تساءلت إن كان بِن هو من كتب ذلك عني، لكني ما لبثت أن أدركت أن بِن لم يكن يعرفني، بعد حين كتب يومياته. سرت ضجة خافتة في الفصل إثر تململ الجميع في مقاعدهم. كانت كريستي تبتسم، وكذلك ميجان وبث آن وماري لو. كانت جميع الفتيات في الفصل يبتسمن. ظنت كل منهن أنها المعنية.
أمعنت النظر في كلٍّ من الفتيان. كان أليكس يحملق في السيد بيركواي بغير اكتراث. ثم وقع نظري على بن. كان جالسًا وقد وضع يديه على أذنيه وأطرق بصره إلى مكتبه. زحف ذلك الشعور بالوخز إلى عنقي ثم سرى إلى عمودي الفقري. هو من كتب ذلك إذن، لكنه لم يكتبه عني.
«جين لا تعرف أي شيء عن الفتيان. سألتني ذات مرة عن مذاق القبلات، وهذا يدل على أنها لم تقبل أحدًا من قبل. أخبرتها أن مذاقها كالدجاج، وصدقتني. في بعض الأحيان تكون ساذجةً جدًّا.»
هبت ماري لو من مقعدها. قالت لبث آن: «أيتها الخرقاء. أيتها الغبية.» لفَّت بث آن خصلة من شعرها حول أصبعها. قالت ماري لو: «أنا لم أصدقكِ، كما أني أعرف مذاق القبلات وهو ليس كمذاق الدجاج.»
رسم بن رسمًا كارتونيًّا مبسطًا لشخصين يتبادلان قبلة. وفوق رأسيهما في الفراغ كان ثمة فقاعة كارتونية بداخلها دجاجة تقول: «كاك، كاك، كاااك.»
«أكره فعل ذلك. أكره الكتابة. أكره القراءة. أكره دفاتر اليوميات. أكره بشدة حصة اللغة الإنجليزية التي يتحدث مدرسوها عن الرموز السخيفة. وأكره تلك القصيدة السخيفة التي تتحدث عن الغابة المكسوة بالجليد، وأكره قول الناس إن الغابة ترمز إلى الموت أو الجمال أو الجنس أو أيِّ شيءٍ أرادوا. أكره ذلك. ربما الغابة هي مجرد غابة لا أكثر.»
نهضت بث آن. قالت: «يا سيد بيركواي، أنا أكره المدرسة وأكره الكتب واللغة الإنجليزية والرموز وأكره بالأخص تلك اليوميات السخيفة.»
ساد الصمت الفصل. لوهلة حدَّق السيد بيركواي في بث آن، فذكرني بالسيدة كادافر. لتلك الوهلة، بدت عيناه كعينيها تمامًا. خشيت أن يطبق على عنق بث آن، لكنه ما لبث أن ابتسم واستعادت عيناه نظرتهما الودية الوديعة التي تشبه نظرة البقرة. أظن أنه نوَّمَ بِث آن مغناطيسيًّا، فقد جلست ببطء. قال السيد بيركواي: «يا بث آن، أنا أعرف بالضبط ما تشعرين به. بالضبط. أحب هذه الفقرة.»
قالت: «حقًّا؟»
«إنها صادقة للغاية.»
أقر بأنه لا يمكن لأحد أن يأتيَ بما هو أصدق من إفصاح ماري آن لمدرس اللغة الإنجليزية عن كرهها للرمزية واللغة الإنجليزية واليوميات السخيفة.
قال السيد بيركواي: «كان ذلك هو شعوري بالضبط. لم أكن أفهم كل ذلك التعقيد المحيط بالرموز.» دسَّ يده في مكتبه بحثًا عن شيءٍ ما. «أريد أن أريكِ شيئًا.» كان يخرج أوراقًا ويُلقي بها يمينًا ويسارًا. أخيرًا، رفع يده بصورة. «ها هي. رائع!» ثم سأل بن: «ما هذا؟»
أجاب بن: «إنها زهرية. كما هو واضح.»
رفع السيد بيركواي الصورة أمام بِث آن، التي بدا أنها على وشك البكاء. سألها: «ماذا ترين يا بِث آن؟» سالت دمعة صغيرة على وجنتها. «هوني عليك يا بِث آن، ماذا ترين أنت؟»
قالت: «لا أرى زَهرية سخيفة. بل أرى شخصين. شخصان ينظر كل منهما للآخر.»
قال السيد بيركواي: «صحيح. أحسنتِ!»
«إجابتي أنا صحيحة؟ أنا أحسنت؟»
قال بن: «ماذا؟ شخصان؟» كان ذلك ما أفكر فيه. أي شخصين؟
قال السيد بيركواي لبن: «إجابتك صحيحة أيضًا. أحسنت!» ثم سأل الجميع: «كم منكم يرى زهرية؟» رفع نصف الفصل تقريبًا يده. «وكم منكم يرى وجهين؟» رفع باقي الفصل يده.
بعدها شرح السيد بيركواي كيف يمكن أن يرى المرء كلتا الصورتين. إذا نظرتَ فقط للجزء الأبيض في المنتصف، فسترى الزهرية بوضوح. وإذا نظرت فقط للأجزاء الداكنة على الجانبين فسترى جانبي وجه شخصين. ترى الجانبين المتعرجين للزهرية رسمًا محيطيًّا لرأسين متواجهين.
قال السيد بيركواي إن ذلك الرسم يشبه الرموز بعض الشيء. ربما كان الفنان ينوي فقط رسم زهرية، وربما ينظر البعض إلى الرسم فلا يرى إلا الزهرية. ولا بأس في ذلك، لكن إن نظر البعض إلى الرسم فرأى وجهين، فما الخطأ في ذلك؟ هو وجهان لمن يتأمله. والأروع هو أن المرء قد يرى كليهما.
قالت بث آن: «عصفوران بحجر واحد؟»
قال السيد بيركواي: «أليس هذا مدهشًا، أن تري كليهما؟ أليس من الرائع أن تكتشفي أن الغابة المكسوة بالجليد يمكن أن ترمز للموت والجمال وحتى الجنس؟ يا للروعة! إنه الأدب!»
قال بن وهو ينسخ الرسم: «هل قال «الجنس»؟»
ظننت أن السيد بيركواي قد انتهى من قراءة اليوميات لذلك اليوم، لكنه أغمض عينيه بحركة استعراضية وسحب شيئًا من أسفل كومة الدفاتر.
«وضعت حبات التوت البري في فمها. ثم تلفتت حولها …»
كان دفتري. لم أُطِق ذلك.
«خطت خطوتين إلى جذع شجرة القَيْقب، وأحاطتها بذراعيها وقبلتها.»
ضحك الموجودون.
«خيل إليَّ أنني تبينتُ بقعةً صغيرةً داكنةً، وكأنما خلفتها قبلة بالتوت البري …»
نظر لي بِن من الجانب الآخر من الحجرة. بعد أن قرأ السيد بيركواي ما كتبته عن قبلة التوت البري التي طبعتها أمي، قرأ كيف أني قبَّلت الشجرة وكيف قبَّلتُ منذ ذلك الحين أشجارًا من شتى الأنواع، فعرفت أن لكل شجرة مذاقها الخاص، الذي كان مختلطًا بمذاق التوت البري.
«أنا قلقة جدًّا من السيدة …»
حملق السيد بيركواي في الصفحة. بدا وكأنه يجد صعوبة في قراءة خط اليد. بدأ مجددًا.
«أنا قلقة جدًّا من السيدة … السيدة جثة. يشير سلوكها المثير للريبة إلى أنها قتلت زوجها …»
طرفت عينا فيبي بسرعة. قال بِن: «تابع. أكمِلْ حتى النهاية!»
كان من الواضح أن السيد بيركواي شعَر بالندم على أنه بدأ مسألة اليوميات هذه من الأساس، لكن تعالت الصيحات من جميع أرجاء الغرفة: «أجل، أكمل!» فتابع على مضض.
«أعتقد أنها دفنته في فنائها الخلفي.»
حين رن الجرس، هاج الجميع. «يا إلهي! جريمة قتل! من كتبَ ذلك؟» و«أهذا حقيقي؟»
خرجتُ من الفصل بأقصى سرعة في إثر فيبي. نادتني ميجان قائلةً: «أتُقبِّلين الأشجار؟» هُرعتُ خارج المبنى. لم أجد أثرًا لفيبي.
قلت في نفسي: مذكرات سخيفة. مذكرات سخيفة لعينة.