الخطة
طَوال اليوم، ظلِلنا نقطع الطريق المار خلال مونتانا. على الخريطة لم يبدُ طويلًا، لكنه كان جبليًّا. بدأناه حين غادرنا متنزَّه يلوستون من أسفل سلسلة جبال روكي، ثم ظللنا نصعد وننزل طَوال اليوم. أحيانًا كان الطريق يتعرج بمحاذاة جانب جرف، ولم يكن يحول بيننا وبين السقوط سوى حاجز ضئيل. في بعض الأحيان ونحن نسلك منحنًى، كنا نجد أنفسنا وجهًا لوجه مع قاطرة تخييم يتأرجح هيكلها العريض وهي تجتاز المنحنى.
قال جدي: «هذه الطرق خطرة»، لكنه كان كطفل يمتطي حصانًا لعبة. كان يقول: «هيا، لنتحرك» مشجعًا السيارة على صعود مرتفع. وأثناء نزولنا على الجانب الآخر منه كان يقول: «هيا.»
شعرت أني ممزقة بين أمرين. كان جزء مني يتأمَّل المنظر الطبيعي بإعجاب. وعليَّ أن أقرَّ بأنه كان يضاهي بايبانكس جمالًا أو حتى يفوقها. أشجار وصخور وجبال. أنهار وأزهار. غزلان وأيائل وأرانب. كان ريفًا مذهلًا، هائلًا.
لكن الجزء الآخر مني كان يرتعد ككومة من الهُلام. كنت أتخيل سيارتنا تندفع عبر الحاجز وتهوي من الجرف. وكنت حين نقترب من منحنًى أتخيل أننا سنصطدم بشاحنة أو قاطرة تخييم. كنت كلما رأيت حافلة، راقبتها وهي تتأرجح. وراقبت إطاراتها وهي تلف مقتربة إلى حد خطير من الحصى على حافة الطريق. وراقبتها تمضي للأمام مجتازة الطريق ومتحدية تلك المنحنيات.
جلست جدتي صامتةً وقد عقدت يديها في حجرها. ظننت أنها قد تنام، لا سيما أنها ظلت مستيقظة طَوال الليل، لكنها لم تفعل. أرادت أن تسمع حكاية بيبي. هكذا طَوال اليوم، بينما كنت أتأمل المنظر الطبيعي، وأتخيل وقوع ألف حادثة لنا، وقبل كل ذلك أتوجه بصلواتي لأي شجرة تمرق من جانبنا، تحدثت عن بيبي. أردت أن أحكي كل شيء اليوم. أردت أن أنهيَ الحكاية.
في اليوم التالي لزيارة السيد بيركواي لمنزل فيبي وإطلاعه إيانا على ما حدث للسيدة كادافر، بدأت أنا وفيبي في تنفيذ خطتنا. كنا ننوي اقتفاء أثر ابن الرقيب بيكل، واكتشاف مكان والدة فيبي، على حد قولها. لم أكن واثقةً من أن ابن الرقيب بيكل مختل، ولا مقتنعة بأنه سيقودنا إلى أم فيبي، لكن حكايات فيبي كانت قد توغلت في ذهني بما يكفي لأن تدفعني للتورط في الخطة. مثل فيبي، كنت مستعدةً لأن أفعل شيئًا ما.
استطعنا بصعوبة شديدة الجلوس دون حركة طَوال اليوم الدراسي. كانت فيبي بالأخص متحمسة بشدة. وكانت قلقة أيضًا. كانت تخشى ألا نعثر على أمها على قيد الحياة، وكنت قد بدأت أشاركها مخاوفها تلك.
في المدرسة، كان الجميع يثرثرون حول قراءة دفاتر اليوميات. أراد الجميع أن يعرفوا من كتب عن جريمة القتل. تحاشى أليكس ماري لو بسبب ما كتبته عن كونه أحمق وردي البشَرة، وتحاشت ماري لو بِث آن بسبب ما كتبته بِث آن عن القبلات بمذاق الدجاج. وظلت ميجان وكريستي تهزآن من بِث آن بسؤالهما: «هل حقًّا أخبرتِ ماري لو بأن القبلات لها مذاق الدجاج؟ وهل صدقتكِ حقًّا؟» وتهزآن مني بسؤالهما: «هل حقًّا تقبلين الأشجار؟ ألا تعرفين أنكِ ينبغي أن تقبلي الفتيان لا الأشجار؟»
في حصة اللغة الإنجليزية، ألح الجميع على السيد بيركواي أن يُنهيَ فقرة المذكرات التي بدأ قراءتها أمس عن السيدة جثة والجثة، لكن السيد بيركواي لم يقرأ أي دفاتر أخرى. بل اعتذر عن إيذائه لمشاعر من قرأ أفكارهم الخاصة علانيةً، ثم أرسلنا إلى المكتبة.
في المكتبة، ظل بن يرافقني كظلي. إذا طالعت قسم الأدب، وجدته بجواري. وإذا انتقلت لأتفحص المجلات، وجدته يتصفح إحداها أيضًا. ذات مرة، لامس وجهه كتفي. كان بلا ريب يحاول تقبيلي، عرفت ذلك، لكن لم يكن بوسعي أن أفعل شيئًا حياله. لم أستطع أن أمنع جسدي من أن يتحرك مبتعدًا كلما صوب فمه تجاهي. كنت أحتاج إلى إنذار ما.
حاولت أن أقف ثابتة تمامًا لعدة دقائق متتالية، ولاحظت خلالها بن يحاول أن يميل قليلًا نحوي عدة مرات. ولكن في كل مرة كان يتراجع، كأنما يتحكم به شخص بحبل خفي.
من الجانب الآخر من المكتبة، نادتني بِث آن قائلة: «سال، ثمة عنكبوت … اقتليها يا سال!»
حين دق جرس نهاية اليوم الدراسي، خرجتُ أنا وفيبي من المدرسة بسرعة البرق. في منزل فيبي، بحثنا في دليل الهاتف. قالت فيبي: «يجب أن نسرع قبل أن يعود أبي أو برودنس.» كان في دليل الهاتف ستة أشخاص يحملون لقب بيكل. تبادلنا الأدوار في الاتصال بهم. كل مرة، كنا نطلب التحدث إلى الرقيب بيكل. أول شخصين قالوا إننا اتصلنا بالرقم الخاطئ حتمًا. وكان الرقم الثالث مشغولًا. والرابع لم يرد أحد. والخامس جاءنا الرد من سيدةٍ حانقةٍ قالت: «لا أعرف أي رقباء!»
أما الرقم السادس فكان رجلًا مسنًّا يشعر بالوحدة حتمًا إذ تحدث عن أنه عرف في الماضي أثناء الحرب رقيبًا يدعى فريمان، لكن ذلك كان عام ١٩٤٤، وكان يعرف أيضًا رقيبًا يدعى داودي، لكنه لا يعرف رقيبًا باسم بيكل.
قالت فيبي نادبة: «ماذا سنفعل؟ ستعود برودنس في أي لحظة، وما زلنا لا نعرف أيها رقم بيكل المنشود.»
كان الرقم المشغول لا يزال مشغولًا. أما الرقم الذي لم يرد صاحبه فظل يرن طويلًا ولما أوشكت فيبي على أن تنهيَ المكالمة سمعت صوتًا. قالت: «مرحبًا! أيمكنني أن أتحدث إلى الرقيب بيكل لو سمحت؟» صمتت لبرهة مصغية. «لا يزال في عمله؟» كانت فيبي تقفز فرحًا. قالت محاولة تصنُّع الجدية: «شكرًا لك. سأتصل به لاحقًا. كلا لا أريد ترك رسالة. شكرًا لك.»
قالت حين وضعت سماعة الهاتف: «مرحى!» عانقتني بقوة حتى كدت أختنق. «سيتعين عليكِ أن تنفذي المرحلة التالية. الليلة.»
في تلك الليلة، بينما كان أبي في بيت مارجريت، اتصلتُ بالرقيب بيكل. دعوت ألَّا يجيب الرقيب بيكل، لكني كنت مستعدة لتغيير صوتي إن فعل. ظل الهاتف يرن طويلًا. أنهيت المكالمة. تدربت على الصوت الذي سأتحدث به وعلى ما سأقوله. حاولت مرة أخرى. عند الرنة السابعة، أجاب أحد الهاتف. كان الرقيب بيكل.
قلت: «اسمي سوزان لونجفيلو. أنا صديقة لابنك. هل يمكن أن أتحدث إليه؟» ظللت أدعو أن يكون له ابن واحد فقط.
قال الرقيب بيكل: «هو ليس هنا. هل تودين ترك رسالة له؟»
«هل تعرف متى سيعود؟»
صمت لبرهة. «قلتِ كيف تعرَّفتِ إلى ابني؟»
أصابني سؤاله بالتوتر. «كيف تعرفتُ إلى ابنك؟ حسنًا تلك قصة طويلة … أنا … في الواقع، عرفته بطريقة … في الحقيقة يخجلني قليلًا أن أعترف بذلك» كانت يدي تتعرق بغزارة حتى إن الهاتف كاد ينزلق منها «المكتبة، أجل، تعرفت إليه في المكتبة، أعارني كتابًا لكني أضعت الكتاب …»
قال الرقيب بيكل: «ربما عليكِ أن تشرحي له هو ذلك.»
«أجل ربما عليَّ أن أفعل.»
«أتساءل لما أعطاك رقم الهاتف ذلك. أتساءل لماذا لم يعطكِ رقمه في الجامعة.»
«في الجامعة؟ في الواقع، لقد أعطاني ذلك الرقم أيضًا، لكنني أضعته …»
قال: «من الواضح أنك تضيعين الكثير من الأشياء. هل تودين أن أعطيَكِ رقمه في الجامعة؟»
قلت: «أجل. أو سيكون من الأفضل أن تعطيَني عنوانه وسأرسل له الكتاب.»
«ظننتكِ قلتِ إنكِ أضعتِ الكتاب.»
قلت: «في الواقع، هذا صحيح، لكني آمل أن أعثر عليه.»
قال: «فهمت. لحظة من فضلك.» ساد الصمت بيننا لبرهة فيما وضع يده على سماعة الهاتف وسمعته ينادى زوجته بصوت مكتوم: «عزيزتي، أين عنوان مايك؟»
مايك! رائع! لدينا اسم! شعرت كأني كبيرة المفتشين! شعرت كأني اكتشفت أهم دليل على الإطلاق في أبرز تحقيق جنائي في القرن. علاوةً على ذلك، أعطاني الرقيب بيكل عنوان مايك. شعرت برغبة عارمة بأن أنهيَ الحوار بإخبار الرقيب بيكل أن ابنه يحتمل أن يكون مختلًّا، لكني منعت نفسي. شكرته ثم على الفور اتصلت بفيبي.
قالت: «أنتِ عبقرية! غدًا نوقع بمايك المختل.»