هذا ما أنا بصدد قوله لكِ
في اليوم الذي جلست فيه فيبي إلى جواري أثناء الغداء وقالت لي إنني شجاعة، دعتني إلى العشاء في منزلها. بصراحة، شعرت بارتياح لأني لن أضطر لتناول العشاء في بيت مارجريت مرة أخرى. فلم أود رؤية أبي ومارجريت وهما يتبادلان الابتسامات.
أردت أن يظل كل شيء كما «كان». أردت أن أعودَ إلى بايبانكس، كنتاكي، بين التلال والأشجار، وبالقرب من البقر والدجاج والخنازير. أردت أن أركض من الحظيرة لأسفل التل وأعبر باب المطبخ الذي يُصفَّد خلفي لأرى أمي وأبي جالسَين على الطاولة يقشران التفاح.
رافقت فيبي في رحلة العودة إلى البيت. توقفنا قليلًا عند منزلي كي أهاتف أبي في عمله. ساعدته مارجريت في إيجاد وظيفة في بيع المُعدَّات الزراعية. قال إن اكتسابي لصديقة جديدة جعله يطير فرحًا. قلت في نفسي إنه قد يكون ذلك هو ما أسعده فعلًا، أو ربما هو سعيد لأنه سيتسنى له الانفراد بمارجريت كادافر.
بعدها رافقت فيبي إلى منزلها. أثناء مرورنا أمام منزل مارجريت كادافر، سمعنا صوتًا ينادي: «سال! سال! هل هذه أنتِ؟»
في الظلال على الشرفة، كانت السيدة بارتريدج، والدة مارجريت، تجلس على كرسي هزاز من الخوص. كان يستقر على ركبتيها عكاز غليظ متعرج له مقبض محفور على هيئة رأس أفعى كوبرا. كان ثوبها الأرجواني قد انحسر عن ركبتيها الهزيلتين اللتين باعدت بينهما، ولا أحب أن أذكر ذلك، لكن كان ما تحت تنورتها باديًا. كانت تلف حول عنقها وشاحًا أصفر من الريش. (قالت لي ذات مرة: «هذا وشاحي، وشاحي المفضل على الإطلاق».)
لما هممت بالسير في الممر المؤدي لبيتها، جذبتني فيبي من ذراعي. قالت: «لا تذهبي إلى هناك.»
قلت: «تلك السيدة بارتريدج ليس إلا. تعالي.»
قالت السيدة بارتريدج: «مَن برفقتكِ؟ وما هذا الذي على وجهها؟» كنت أعرف أنها ستفعل ذلك. فقد فعلته معي في أول مقابلة بيننا.
وضعت فيبي يدها على وجهها الدائري وتحسسته.
قالت السيدة بارتريدج: «تعالي إلى هنا.» وأشارت بأصابعها النحيلة المجعدة إلى فيبي.
رفعت السيدة بارتريدج أصابعها إلى وجه فيبي وتحسست برفق جفنيها ثم وجنتيها. «كما ظننتُ تمامًا. عينان وأنف وفم.» ضحكت السيدة بارتريدج ضحكة شريرة بدت وكأنها كانت ترتد عن صخور حادة. «أنتِ في الثالثة عشرة من عمرِك.»
قالت فيبي: «أجل.»
قالت السيدة بارتريدج: «كنتُ متأكدةً. كنتُ متأكدةً جدًّا.» ثم ربتت على وشاحها الأصفر المصنوع من الريش.
قلت: «هذه فيبي وينتربوتوم. إنها جارتكِ في المنزل المجاور.»
بعد أن غادرنا، همست لي فيبي قائلة: «كنت أتمنى لو لم تفعلي ذلك. كنت أتمنى لو لم تخبريها أنني أسكن في المنزل المجاور.»
«لمَ لا؟ فلا يبدو لي أنكِ تعرفين السيدة كادافر والسيدة بارتريدج معرفة وثيقة …»
«هما لا يسكنان هنا منذ وقت طويل. لم يمضِ على مجيئهما سوى شهر أو نحوه.»
«ألا ترين أن تخمينها الصحيح لعمرك كان مدهشًا؟»
«لا أرى أمرًا مدهشًا في ذلك.» قبل أن يتسنَّى لي أن أفسر، بدأت فيبي تحكي لي عن تلك المرة التي ذهبت فيها مع أمها وأبيها وأختها برودنس إلى مهرجان الولاية. في أحد الأكشاك، احتشد الناس حول رجل طويل نحيل.
سألتُها: «ماذا كان يفعل؟»
قالت فيبي: «هذا ما أنا بصدد قوله لكِ.» كانت فيبي أحيانًا تتحدث كالبالغين. حين قالت: «هذا ما أنا بصدد قوله»، كانت تتحدث كراشد يخاطب طفلًا. «ما كان يفعله هو تخمين أعمار الناس. كان الناس المحتشدون حوله يرددون: «أوه!» و«مذهل!» و«كيف يفعل ذلك؟» كان عليه أن يخمن عمرك الصحيح في حدود العام، وإلَّا تربحي دُمية دبدوب.»
سألتها: «كيف كان يفعل ذلك؟»
قالت فيبي: «هذا ما أنا بصدد قوله لكِ. كان الرجل النحيل يمعن النظر إلى الشخص، ثم يُغمض عينيه ويشير إلى الشخص ويصيح «اثنان وسبعون».»
«فعل هذا مع الجميع؟ خمَّن أن الجميع أعمارهم اثنان وسبعون؟»
قالت: «سال، هذا ما أحاول أن أخبركِ به. كنت أضرب لك مثالًا ليس إلا. ربما قال «عشرة» أو «ثلاثين» أو «اثنين وسبعين». كان هذا يعتمد على الشخص الذي أمامه. كان مذهلًا.»
كنت أرى أن قدرة السيدة بارتريدج على فعل ذلك مذهلة أكثر، لكني لم أفصح عن ذلك.
طلب والد فيبي من الرجل أن يخمن عمره. «يظن أبي أن مظهره يوحي بأنه شابٌّ يافع، وكان واثقًا من أن مظهره سيخدع الرجل. بعد أن تفرَّس الرجل في أبي، أغمض عينيه وأشار إليه بأصبعه وصاح: «اثنان وخمسون»! صاح أبي صيحة استغراب خافتة، فردد المحيطون تلقائيًّا عبارات مثل «أوه!» و«مدهش» وما شابه. لكن أبي أسكتهم.»
«لماذا؟»
جذبت فيبي إحدى خصلاتها الصفراء المُجعَّدة. أظن أنها تمنت لو أنها لم تبدأ في رواية تلك القصة في المقام الأول. «لأن عمره لم يكن اثنين وخمسين أو حتى قريبًا من ذلك. بل كان ثمانية وثلاثين.»
«أوه!»
«وطَوال اليوم، ظلَّ أبي يتبعنا في أرجاء المهرجان حاملًا جائزته، دمية دبدوب أخضر كبير. كان محبطًا. ظل يردد: «اثنان وخمسون؟ اثنان وخمسون؟ هل أبدو في الثانية والخمسين؟»
سألتها: «وهل يبدو كذلك؟»
جذبت فيبي شعرها بقوة أكبر. «كلا، لا يبدو في الثانية والخمسين. بل يبدو في الثامنة والثلاثين.» كانت تدافع عن أبيها باستماتة.
كانت والدة فيبي في المطبخ. قالت السيدة وينتربوتوم: «أنا أُعدُّ فطيرة التوت البري. آمل أنكِ تحبين التوت البري … هل ثمة خطب ما؟ حقًّا، إن كنتِ لا تحبين التوت البري فبوسعي أن …»
قلت: «كلا. أنا أحب التوت البري كثيرًا. لكن أظن أن بعض الأشياء تسبب لي الحساسية.»
سألت السيدة وينتربوتوم: «التوت البري يسبب لك الحساسية؟»
«كلا، ليس التوت البري.» في الحقيقة، أنا لا أعاني من الحساسية، لكني لم أستطع أن أقرَّ بأن التوت البري يذكرني بأمي.
طلبت السيدة وينتربوتوم مني ومن فيبي أن نجلس إلى طاولة المطبخ ونروي لها أحداث يومنا. أخبرتها فيبي عن تخمين السيدة بارتريدج لعمرها.
قلت: «إنها مذهلة حقًّا.»
قالت فيبي: «الأمر ليس مثيرًا للذهول «إلى هذا الحد» يا سال. بل إني لن أستخدم كلمة «مذهل» بالتحديد لوصفه.»
قلت: «لكن يا فيبي، السيدة بارتريدج عمياء.»
كررت فيبي وأمها: «عمياء؟»
فيما بعد قالت لي فيبي: «ألا تظنين أنه من الغريب أن ترى السيدة بارتريدج وهي عمياء شيئًا عني بينما أغفلت، أنا المبصرة، شيئًا عنها؟ وعلى ذكر الغرابة، ثمة شيء غريب للغاية بشأن السيدة كادافر؟»
قلت: «مارجريت؟»
قالت فيبي: «إنها تثير هلعي.»
«لماذا؟»
قالت: «هذا ما أنا بصدد قوله لكِ. بدايةً اسمها: كادافر. هل تعرفين ماذا يعني؟»
في الواقع لم أكن أعرف.
«يعني جيفة.»
سألتها: «هل أنتِ واثقة؟»
«بالطبع واثقة يا سال. بوسعك أن تتحققي من القاموس إن شئتِ. هل تعرفين مما تكسِب قُوتَها، ما مهنتها؟»
سرَّني أن ثمة ما أعرفه. فأجبتها بسرور: «أجل. تعمل ممرضة.»
قالت فيبي: «بالضبط. هل تودين توظيف ممرضة اسمها معناه «جيفة»؟ وشعرها … ألا تجدين شعرها الأحمر الأشعث مخيفًا؟ وصوتها … صوتها يذكرني بحفيف أوراق الشجر الذابلة التي تذروها الرياح على الأرض.»
كانت تلك هي موهبة فيبي. في عالمها، لا وجود للأشخاص العاديين. فهم إما مثاليون — مثل أبيها — أو مختلون عقليًّا أو سفاحون، وهو الأمر الأغلب. كانت لديها القدرة على إقناعي بأي شيء؛ بخاصة عن مارجريت كادافر. منذ هذا اليوم فصاعدًا، صرت أجد شعر مارجريت كادافر مخيفًا، وصار وقع صوتها على أذني كحفيف الأوراق الذابلة. بطريقة ما، كنت أجد التعامل مع مارجريت أسهل إذ كان لديَّ أسباب تمنعني من أن أحبها، وقطعًا لم أكن أود أن أحبها.
قالت فيبي: «هل تريدين أن أخبركِ بسر دفين؟» (كنت أريد ذلك.) «عديني ألا تفشيه.» (وعدتها بذلك.) قالت: «ربما لا ينبغي أن أخبركِ. فأبوكِ يرتاد منزلها طَوال الوقت. هو معجب بها، أليس كذلك؟» دورت أصبعها في شعرها المُجعَّد وتركت عينيها الزرقاوين الواسعتين تهيمان في السقف. «هي تدعى «السيدة» كادافر، أليس كذلك؟ هل تساءلتِ قط عما حدث «للسيد» كادافر؟»
«لم أفكر من قبل في …»
قالت فيبي: «أظن أنني أعرف، وما حدث له مريع، مريع بحق.»