الحافلة وشجرة الصفصاف
حين غادر الرجل في سيارته، زحفت أسفل الحاجز وشققت طريقي إلى أسفل التل باتجاه الحافلة. في اتجاه الشرق، كان الضباب واللون الرمادي يغلب على السماء، فسررت لاقتراب الفجر. في خلال العام والنصف، الفترة التي انقضت منذ أن شُق المسار، بدأت الشجيرات تنمو مجددًا. ارتطمت الأغصان المتشعبة التي بللها الندى بساقيَّ وخدشتهما، وأخفت الأرض غير المستوية تحتها فتعثرتُ عدة مرات وتدحرجتُ لأسفل.
كانت الحافلة ترقد على جانبها مثل حصان عجوز مريض، يحدق كشافاها الأماميان بأسًى في الأشجار المحيطة بها. كانت أغلب إطاراتها المطاطية مثقوبة ومائلة عن محاورها على نحو مشوَّه. تسلقت إلى جانب الحافلة، آملة أن أتمكن من الدخول إليها عبر نافذة مفتوحة، لكن على جانبها كان ثمة شقان يشبهان جرحين هائلين، ينحسر عنهما المعدن المُسنن كغطاء علبة سردين. من خلال نافذة مهشمة خلف مقعد السائق، رأيت كومةً مختلطةً من المقاعد الملتوية وقطعًا من المطاط الإسفنجي. كان كل شيء مكسوًّا بعفن أخضر مغبش.
كنت أتخيل أني سأدخل عبر نافذة وأسير في الممر، لكن لم تكن توجد مساحة بالداخل تسمح بالحركة. أردت أن أتفحص كل جزء من الحافلة بحثًا عن شيء — أي شيء — قد يبدو مألوفًا.
بحلول ذلك الوقت كانت السماء قد تحولت إلى اللون الوردي الباهت، فصارت رؤية مسار صعود التل أسهل، لكن شدة انحداره جعلت الصعود أصعب. حين وصلتُ للقمة، كان الوحل والجروح تغطي جسدي من رأسي إلى أخمص قدمي. لم ألاحظ السيارة المتوقفة خلف سيارة جدي الشيفروليه الحمراء إلا بعد أن زحفت عابرة من تحت الحاجز.
كانت سيارة المأمور. كان يتحدث عبر مذياعه حين رآني، فأشار إلى نائبه بالخروج من السيارة. قال النائب: «كنا على وشك النزول إلى هناك على إثرك. رأيناكِ واقفةً فوق الحافلة. حري بكم أن تكونوا أكثر حذرًا أيها الأطفال. ماذا كنتِ تفعلين بالأسفل في ذلك الوقت من اليوم على أية حال؟»
قبل أن أجيب، ترجل المأمور من سيارته. اعتمر قبعته وحرَّكَ غمد مسدسه. وقال: «أين الآخرون؟»
قلت: «لا يوجد آخرون.»
«من أحضركِ إلى هنا؟»
«جئت بنفسي.»
«سيارة من تلك؟»
«سيارة جدي.»
«وأين هو؟» تلفَّت المأمور يمينًا ويسارًا وكأنما يتوقع أن يكون جدي مختبئًا بين الشجيرات.
«في كور ديلين.»
«ماذا؟»
وهكذا حكيت له ما حدث لجدتي وكيف أن جدي اضطُر للمكوث معها واضطررت أنا لقيادة السيارة من كور ديلين إلى هنا «بحرصٍ شديد».
قال المأمور: «لنستوضح ذلك»، معيدًا على مسامعي كل ما قلته له، وخاتمًا كلامه بقوله: «وأنت تقولين إنكِ قدتِ السيارة من كور ديلين إلى تلك البقعة على ذلك التل وحدكِ؟»
قلت: «بحرصٍ شديد. علمني جدي القيادة، وعلمني أن أقود بحرصٍ شديد.»
قال المأمور مخاطبًا نائبه: «أخشى أن أسأل هذه الفتاة عن عمرها. لمَ لا تسألها أنت؟»
سألني النائب: «كم عمركِ؟» فأخبرته. نظر لي المأمور بحزم وقال: «لا أحسبكِ تمانعين إخباري أي ضرورة ملحة تلك التي جعلتكِ لا تستطيعين الانتظار حتى يصحبك شخص بحيازته رخصة قيادة سارية إلى مدينة لويستون الساحرة؟»
وهكذا أخبرته ببقية القصة. وحين انتهيت، عاد إلى سيارته وتحدث عبر جهاز الإرسال مرة أخرى. ثم طلب مني أن أركب معه في سيارته وطلب من نائبه أن يتبعنا بسيارة جدي. ظننتُ أن المأمور كان على الأرجح سيزج بي في السجن، ولم تكن فكرة السجن هي ما يضايقني كثيرًا. ما كان يضايقني هو أنني اقتربت إلى هذا الحد لكنني ربما لن أتمكن من فعل ما جئت لأجله، بجانب إدراكي لضرورة عودتي إلى جدتي.
غير أنه لم يأخذني إلى السجن. بل عبر الجسر إلى لويستون وسار عبر المدينة حتى صعِد إلى تل. دخل إلى مقبرة لونجوود، وأوقف السيارة أمام بيت الحارس، ودخله. كان النائب يتبعنا في سيارة جدي. خرج الحارس وأشار إلى جهة اليمين، ثم عاد المأمور إلى السيارة وانطلق في ذلك الاتجاه.
كان المكان بديعًا. كان نهر سنيك يتعرج خلف ذلك القسم من المدينة، وكانت أشجار باسقة مورقة تنمو في مواضع متفرقة من المرج. أوقف المأمور السيارة وقادني عبر مسار إلى النهر، وهناك، على تل صغير مطل على النهر والوادي، كان يستقر قبر أمي.
على شاهده، أسفل اسمها وتاريخي ميلادها ووفاتها، حُفِر رسم لشجرة قيقب، وفي تلك اللحظة بالتحديد، حين وقعت عيناي على شاهد القبر وعلى اسمها — تشانهاسِن «شوجر» بيكفورد هيدل — وعلى الشجرة المنحوتة، أدركت بنفسي، واستقر في نفسي، أنها لن تعود. سألت إن كان بوسعي أن أجلس قليلًا؛ إذ أردت أن أحفظ المكان في ذاكرتي. أردت أن أحتفظ بالعشب والأشجار والروائح والأصوات.
في منتصف الصباح الهادئ، الذي لا يتخلل سكونه سوى هدير النهر، سمعت طائرًا. كان يشدو بتغريدة، تغريدة أصيلة عذبة. تلفتت حولي ثم رفعت بصري لشجرة الصفصاف التي تنحني نحو النهر. كانت التغريدة تأتي من قمة تلك الشجرة، ولم أُرِد أن أمعن النظر فيها؛ إذ أردت أن أتخيل أن الشجرة هي التي تغرد.
قبَّلت شجرة الصفصاف. وقلت: «عيد ميلاد سعيد.»
في سيارة المأمور قلت له: «هي لم ترحل فعلًا. هي في الأشجار تشدو.»
«فليكن يا آنسة سالامنكا هيدل.»
«الآن يمكنك أن تأخذني إلى السجن.»