بايبانكس
عدنا إلى بايبانكس. عدت أنا وأبي للعيش في مزرعتنا، ومعنا جدي.
دُفنَت جدتي في غابة الحور الرجراجي التي عُقِد فيها حفل زفافها على جدي. لا يمر يوم إلا ونفتقدها.
مؤخرًا، صرت أتساءل إن كان شيء يختبئ خلف المدفأة، فقد كانت المدفأة تختبئ خلف الجدار الجصي، وكانت قصة أمي تختبئ خلف قصة فيبي، وأظن أن قصة أمي وقصة فيبي تخبئان وراءهما قصةً ثالثةً عن جدي وجدتي.
في اليوم الذي أعقب يوم دفن جدتي، جاءت صديقتها جلوريا — التي كانت جدتي ترى أنها تشبه فيبي كثيرًا، والتي كانت معجبة بجدي — لزيارة جدي. جلسا على الشرفة لأربع ساعات ظل جدي يتحدث طوالها عن جدتي. سألت جلوريا إن كان لدينا أي مُسكِّن. إذ كانت تعاني صداعًا شديدًا. ولم نرَها منذ ذلك الحين.
راسلت توم فليت، الفتى الذي ساعد جدتي حين لدغ الثعبان ساقها. أخبرته أن جدتي عادت إلى بايبانكس، لكنها للأسف عادت في تابوت. ووصفت له غابة الحور الرجراجي التي دُفنَت فيها وحكيت له عن النهر القريب منها. رد على رسالتي، قائلًا إنه يشعر بالأسى لوفاة جدتي، وإنه قد يأتي يوم يزور فيه غابة الحور الرجراجي تلك. ثم سأل: «هل ضفة ذلك النهر ملكية خاصة؟»
يعطيني جدي المزيد من دروس القيادة على الشاحنة. نتمرن في مزرعة جدي القديمة التي يسمح لنا مالكها الجديد بالتجول في المسارات الترابية. يصحبنا جرو جدي البيجل الجديد الذي أسماه «هوزا هوزا (مرحى مرحى)». يربت جدي على الجرو ويدخن غليونه بينما أقود أنا الشاحنة، ونلعب لعبة الدرب. هي لعبة ابتكرناها في طريق عودتنا من أيداهو. نتبادل فيها الأدوار في التظاهر بأننا نسير في درب حياة شخص آخر.
«لو كنت أسير في درب حياة بيبي الآن، لشعرت بالغيرة من أخيها الذي ظهر فجأة.»
«لو كنت أسير في درب حياة جدتي الآن، لأردت أن أبرد قدمي في ذلك النهر.»
«لو كنت أسير في درب حياة بِن الآن، لافتقدت سالامنكا هيدل.»
وهكذا. نسلك دروب حياة الجميع ونكتشف بتلك الطريقة أمورًا مشوقة. ذات يوم، أدركتُ أن رحلتنا التي قطعناها من لويستون كانت هدية جدي وجدتي لي. أرادا أن يمنحاني الفرصة لأسير في درب أمي؛ لأرى ما رأته وأختبر ما قد تكون شعَرَت به في رحلتها الأخيرة.
أدركتُ أيضًا أن أسبابًا عديدة منعت أبي من أن يأخذني معه إلى أيداهو حين تلقَّى خبر وفاتها. كان الحزن يعتصره، وكان يحاول أن يجنبني إياه. لم يستوعب أن عليَّ أن أذهب وأرى بنفسي إلا مؤخرًا. لكنه كان محقًّا في شيء واحد: لم تكن ثمة حاجة لأن نعيد جثمانها إلى هنا، لأن روحها حاضرة في الشجر، وفي الحظيرة وفي الحقول. أما جدي فأمره يختلف. هو بحاجة إلى وجود جدتي هنا. بحاجة لأن يسير إلى غابة الحور تلك ليقابل عزيزته.
في عصر أحد الأيام، بعد أن تحدثنا عن سرقة بروميثيوس للنار من الشمس كي يمنحها للبشر، وعن فتح باندورا للصندوق المحرم الذي يحتوي جميع شرور العالم، قال جدي إن تلك الأساطير نشأت لحاجة البشر إلى تفسير لمصدر النار الأول ولسبب وجود الشر في العالم. جعلني ذلك أفكر في فيبي والمختل، وقلت: «لو أنني كنت أسلك درب حياة فيبي لاضطررتُ إلى التصديق في وجود المختل وفي أن السيدة كادافر سفاحة لتفسير اختفاء أمي.»
أظن أن فيبي وأفراد أسرتها ساعدوني. ساعدوني في أن أفكر في أمي، وفي أن أفهمها. كانت حكايات فيبي الخيالية تشبه أمانيَّ الفارغة؛ لفترة احتجت أن أصدق أن أمي لم تمُت وأنها سوف تعود.
ما زالت تراودني أماني فارغة في بعض الأحيان.
يبدو لي أننا لا نستطيع تفسير جميع الأمور المريعة في العالم مثل الحرب والقتل والأورام الدماغية، أو دفعها عنا، لذا نلتفت إلى الأمور المخيفة الأقرب لنا ونظل نُضخِّمها حتى تنفجر. فإذا بنا نكتشف أننا نقدر على مواجهة ما بداخلها، وأنه ليس بالبشاعة التي كانت تبدو عليها في البداية. من المطمئن أن نكتشف أنه قد يوجد في العالم سفاحون ومختطفون، لكن أغلب الناس يشبهوننا كثيرًا؛ أحيانًا يتملكهم الخوف، وأحيانًا يتحلون بالشجاعة، وأحيانًا يكونون قساة وأحيانًا لطفاء.
أيقنت أن الشجاعة هي أن تنظر داخل صندوق باندورا محاولًا قدر استطاعتك ألا تطرف، ثم تلتفت إلى الصندوق الآخر، صندوق الأشياء الجميلة الدافئة، كتقبيل أمي للأشجار، وجدتي وهي تقول: «مرحى مرحى!» وجدي وعبارته عن فراش الزوجية.
ما زلت أحتفظ بالبطاقات البريدية التي أرسلتها أمي وبخصلة شعرها تحت ألواح الأرضية في غرفتي. حين رجعت إلى البيت، أعدت قراءة جميع البطاقات البريدية. زرت مع جدي وجدتي جميع الأماكن التي زارتها أمي. تلال بلاك هيلز، وجبل راشمور، ومتنزه بادلاندز؛ البطاقة الوحيدة التي لا تزال قراءتها صعبة على نفسي هي التي تلقيتها من كور ديلين بعد وفاتها بيومين.
وأنا أقود شاحنة جدي برفقته، أحكي له القصص التي كانت أمي تحكيها لي. قصته المفضلة هي قصة من تراث قبيلة نافاهو عن إستاناتليهي. وهي امرأة لا تموت أبدًا. تكبر من كونها طفلة رضيعة لتصبح أمًّا ثم امرأة عجوز ثم تعود رضيعة مجددًا، مرارًا وتَكرارًا، لآلاف الحيوات. تروق تلك الفكرة لجدي، وتروق لي كذلك.
ما زلت أتسلق شجرة القيقب السكري، كما أني سمعت الشجرة الشادية وهي تشدو. شجرة القيقب هي المكان الذي أقصده لأفكر. وأنا جالسة تحتها أمس، أدركت أني أشعر بالغيرة من ثلاثة أشياء.
الشيء الأول تافه. أغار ممن كتب عنها بِن في دفتر يومياته — أيًّا كانت، لأنها لم تكن أنا.
الشيء الثاني هو أني أغار من أن أمي أرادت إنجاب أطفال غيري. ألم أكن أكفيها؟ لكني حين سلكت دربها، قلت: «لو كنتُ مكان أمي، لربما أردت أبناءً آخرين؛ ليس لأنني لا أحب سالامنكا، بل لأنني أحبها كثيرًا لدرجة أني أريد المزيد منها.» ربما كانت تلك أمنية فارغة وربما لا، لكن ذلك ما أريد أن أصدقه.
أما الشيء الثالث فليس تافهًا، ولا هو شيء أستطيع التخلص منه بعد. ما زلت أغار لأن أم فيبي عادت وأمي لم تعد.
أفتقد أمي.
ثم أضاف ملاحظة تقول: «لم أكتب شعرًا من قبل.»
وأضفت ملاحظة تقول: «أنا أيضًا لم أكتب الشعر من قبل.»
سيأتي بن وفيبي والسيدة كادافر والسيدة بارتريدج لزيارتنا الشهر القادم. يحتمل أن يأتيَ السيد بيركواي معهم أيضًا، لكن فيبي تأمُل ألا يأتي، فهي تظن أنها لن تُطيق قضاء وقت طويل في سيارة مع معلم. أنظف أنا وأبي المنزل استعدادًا لزيارتهم. أتشوق لأن أُري فيبي وبِن رقعةَ السباحة والحقول وشَونة التبن والأشجار والأبقار والدجاج. توتة، الدجاجة التي أهداني إياها بن، هي ملكة حظيرة الدجاج، سأريه إياها أيضًا. آمل أيضًا في بعض قبلات التوت البري.
أما في الوقت الحالي، فالوضع القائم هو أن لدى جدي جروه البيجل، ولديَّ أنا دجاجة وشجرة شادية.
مرحى، مرحى.