التوت البري
سألت جدتي: «أي مصير مريع لاقاه السيد كادافر؟ أنتِ لم تخبرينا بعد.»
شرحت لهما أنه بينما كانت فيبي تهم بإخباري بالحادثة المريعة التي وقعت للسيد كادافر، عاد والدها من العمل وجلسنا جميعًا على مائدة العشاء: أنا وفيبي والسيد والسيدة وينتربوتوم، وبرودنس أخت فيبي.
ذكرني والدا فيبي كثيرًا بجدَّي بيكفورد. مثل جدَّي بيكفورد، كان السيد وينتربوتوم وزوجته يتحدثان بهدوء وبجمل قصيرة ويجلسان منتصبَي الظهر وهما يأكلان طعامهما. كانا يتعاملان فيما بينهما بتهذيب مفرِط، ويقولان عبارات مثل «أجل يا نورما»، و«أجل يا جورج»، و«هلا ناولتِني البطاطس يا فيبي من فضلك؟» و«هل تود ضيفتكِ المزيد؟»
وكانا مدققَين في اختيار طعامهما. كان أبي سيصف كل ما يأكلانه من أصناف بأنه «أطباق جانبية»؛ كالبطاطس، والكوسة، وسلطة الفاصوليا، وطاجن غامض لم أتبين ماهيته. كانا لا يأكلان اللحم، ولا يستعملان الزبد. إذ كانا شديدَي الحذر من الكوليسترول.
مما استطعت جمعه من معلومات استشففت أن السيد وينتربوتوم يمتهن عملًا مكتبيًّا يختص برسم خرائط الطرق. بينما كانت زوجته تخبز وتنظف وتغسل الملابس وتبتاع الطلبات. وانتابني شعور غريب بأن السيدة وينتربوتوم لم تكن تحب ما تفعله من خَبزٍ وتنظيف وغسيل الملابس والتسوق، وهو شعور لا أعرف له سببًا، لأنه لو أصغيتَ إلى «الكلمات» التي كانت تقولها، فستبدو لك مثالًا لربة المنزل المثالية.
على سبيل المثال قالت السيدة وينتربوتوم في لحظة ما: «أعتقد أني طهوت في الأسبوع الماضي عددًا لا يمكنني أن أحصيَه من الفطائر.» قالت ذلك بصوت مبتهج، لكن أثناء الصمت القصير الذي ساد بعدها، لما لم يعلق أحد على فطائرها، تنهَّدت تنهيدةً خافتةً وأطرقت إلى صحنها. تعجبت من أن تخبز كل تلك الفطائر بينما تبدو قلقةً جدًّا بشأن الكوليسترول.
بعد برهة قالت: «لم أستطع أن أجد نوع حبوب الإفطار الذي تحبه كثيرًا يا جورج، لكني اشتريت نوعًا شبيهًا.» واصل السيد وينتربوتوم تناول طعامه، وفي فترة الصمت التي تلت، تنهَّدت السيدة وينتربوتوم وتمعَّنت في صَحنها.
سعدت لأجلها حين قالت إنها تفكر في العودة إلى عملها بعدما عادت فيبي وبرودنس إلى المدرسة. يبدو أنها كانت تعمل موظفة استقبال بدوام جزئي في متجر «روكي رابر» أثناء وقت الفصول الدراسية. وعندما لم يعلق أحد على عَوْدها إلى العمل، تنهَّدت مرةً أخرى وقلبت البطاطس في صَحنها.
مرات قليلة نادت السيدة وينتربوتوم زوجها «عزيزي» أو «حبيبي». قالت: «هل تريد المزيد من الكوسة يا حبيبي؟» و«هل ما أعددته من البطاطس كافٍ يا عزيزي؟»
لسبب ما، فاجأني ذلك، أعني مخاطبتها له بهاتين الكلمتين المحببتين. كانت ترتدي تنورةً بنية بسيطة وبلوزة بيضاء. وكانت تنتعل حذاءً عمليًّا عريضًا ذا كعب مستوٍ. ولم تكن تضع مساحيق تجميل. ومع أن وجهها كان عذبًا مستديرًا وشعرها كان أشقر اللون طويلًا مجعدًا، تركت لديَّ انطباعًا بأنها اعتادت أن تكون بسيطة عادية، وأنها لا ينبغي أن يصدر منها أي شيء صادم جدًّا.
وكان السيد وينتربوتوم يلعب دور «الأب». فكان يجلس على رأس المائدة مرتديًا قميصه الأبيض وقد شمَّر كميه بعناية. ولم يكن قد خلع رابطة عنقه المخططة بالأحمر والأزرق. كانت تعابير وجهه تتسم بالجدية، وكان صوته جهورًا، وكلماته واضحة. كان يقول بصوت جهوري واضح: «أجل يا نورما.» و«كلا يا نورما.» بدا أقرب إلى الثانية والخمسين منه إلى الثامنة والثلاثين، وهو شيء ما كنت لأحب أبدًا أن ألفت انتباهه — أو انتباه فيبي — إليه.
كانت برودنس أخت فيبي في السابعة عشرة من عمرها، لكنها كانت تتصرف مثل أمها. تأكل بأناقة وتومئ برأسها بأدب، وتختم كلامها دومًا بابتسامة.
كان الأمر برمته يبدو غريب الأطوار. إذ كانوا منمقين ومهذبين لدرجة مبالغ فيها.
بعد العشاء، سارت معي فيبي إلى بيتي. قالت: «قد يدل مظهر السيدة كادافر على ذلك، لكنها قوية كالثور.» وتلفتت فيبي خلفها وكأنما تتوقع أن ثمة من يتبعنا. «لقد رأيتها تقطع أشجارًا وتجرجر بقاياها عبر باحتها الخلفية. أتعلمين ما أظن؟ أظن أنها ربما تكون قد قتلت السيد كادافر وقطعت جثته إلى أشلاء ودفنتها في الباحة الخلفية.»
قلتُ مستنكرةً: «فيبي!»
«أنا أخبركِ بما أظنه ليس إلَّا.»
في تلك الليلة، وأنا مستلقية على سريري، فكرتُ في السيدة كادافر، وأردت أن أصدق أنها قادرة على قتل زوجها وتقطيع جثته ودفنها في الباحة الخلفية.
ثم ما لبثت أفكاري أن حادت إلى التوت البري وتذكرت تلك المرة التي سرت فيها مع أمي حول أطراف الحقول والمراعي في بايبانكس لنقطف التوت البري. كنا لا نقطفه من أسفل الشجيرة ولا من قمتها. إذ كانت أمي تقول إن حبات التوت التي تنبت بالأسفل من نصيب الأرانب وتلك التي تنمو على القمة من نصيب الطيور. أما تلك التي تنبت في مستوى قامة البشر فهي من نصيبهم.
وأنا مستلقية على السرير أتذكر حبات التوت البري تلك، تذكرت شيئًا آخر. كان شيئًا حدث منذ بضعة أعوام، في أحد الصباحات التي كانت أمي تتأخر في الاستيقاظ فيها. كان ذلك أثناء فترة حملها. كان أبي قد تناول الإفطار بالفعل، وخرج إلى الحقول. على الطاولة، ترك أبي زهرةً في كل من كوبي العصير؛ زهرة نرجس بري أمام مقعدي، وزهرة بتونيا بيضاء أمام مقعد أمي.
حين دخلت أمي المطبخ ذلك اليوم، قالت: «رباه!» وقربت وجهها من كلا الزهرتين. «لنذهب ونجده.»
صعدنا التل إلى الحظيرة، وزحفنا بين أسلاك السياج، ثم عبرنا الحقل. كان أبي واقفًا عند طرف الحقل المقابل وقد أسند يديه على فخذيه، ينظر إلى مقطع من السياج.
أبطأت أمي من سَيرها حين وقعت عيناها عليه. كنت في إثرها مباشرةً. بدا لي أنها تريد أن تتسلل خلسة وتفاجئه، لذا لزمت الصمت أنا أيضًا وتقدمت بحذر. استطعت بصعوبة شديدة أن أمنع نفسي من الضحك. بدا أن التسلل إلى حيث كان أبي فعلًا جريئًا، وكنت متأكدة من أن أمي كانت ستطوقه بذراعيها وتقبله وتعانقه وتخبره كم أحبت الوردة التي تركها على طاولة المطبخ. لطالما كانت أمي تحب أي شيء ينمو أو يحيا بالخارج — أي شيء — السحالي والشجر والبقر واليرقات والطيور والأزهار والصراصير والضفادع والنمل والخنازير.
حين أوشكنا على بلوغ أبي، التفت. أجفلت أمي من ذلك وارتبكت. وتوقفَت.
قال: «شوجر …»
فغرت أمي فاها، وقلت لنفسي: «هيا! طوقيه بذراعيك! أخبريه!» لكن قبل أن يتسنَّى لها أن تتكلم، أشار أبي إلى السياج وقال: «انظري إلى ذلك. استغرق نهارًا كاملًا.» أشار إلى قطعة جديدة من سلك ممدود بين عمودين جديدين. كان العرق يكسو وجهه وذراعيه.
في تلك اللحظة لاحظتُ أن أمي كانت تبكي. لاحظ أبي ذلك أيضًا. قال: «ماذا …»
قالت: «أوه، أنت طيب جدًّا يا جون. طيب جدًّا. أنتم يا آل هيدل جميعكم طيبون جدًّا. لن أكون في مثل طيبتكم يومًا. لن أستطيع يومًا أن أفكر في كل تلك الأشياء التي …»
خفض أبي نظره إليَّ مستفسرًا. فقلت: «الزهرتان.»
«أوه!» طوَّقها بذراعيه المتعرقتين، لكنها كانت لا تزال تبكي، ولم يجرِ الأمر كما تخيلتُه. كان موقفًا حزينًا لا سعيدًا.
صباح اليوم التالي، حين دلفت إلى المطبخ، كان أبي يقف بجوار الطاولة ينظر إلى صحنين من التوت البري — الذي كان لا يزال يلمع من أثر الندى — واحد أمام مقعدي والآخر أمام مقعده. قلت له: «شكرًا لك.»
قال: «ليس ذلك صنيعي بل صنيع أمكِ.»
في تلك اللحظة، دخلَت من الشرفة الخلفية. طوَّقها أبي بذراعيه وتبادلا القبل وكان الأمر رومانسيًّا، هممت أن أدير وجهي لكن أمي أمسكت بذراعي. جذبتني إليها وقالت لي — مع أن أبي هو المعني بكلامها — «أترين؟ أكاد أضاهي أباك طيبةً!» قالت ذلك بخجل، وضحكَت ضحكةً خافتةً. شعرتُ بالخيانة، لا أعرف لماذا.
مدهش هو كم الذكريات الذي يعيده لك تناول فطيرة توت بري.