إل-أه-نو-واي
صاح جدي: «انظرا إلى هذا! حدود ولاية إيلينوي!» نطق اسمها «إل-أه-نو-واي»، بنفس الطريقة التي ينطقها بها جميع سكان بايبانكس، كنتاكي، ولما سمعت تلك الطريقة في النطق اجتاحني حنين لبايبانكس.
سألَت جدتي: «أين إنديانا إذَن؟»
رد جدي: «أيتها الساهية، لقد كنا نجتاز إنديانا في الساعات الثلاث الأخيرة. لقد انهمكتِ في سماع قصة بيبي ففاتتك ملاحظة مرورنا بإنديانا. هل تتذكرين مرورنا بمدينة إلكهارت؟ لقد تناولنا الغداء في إلكهارت. ألا تتذكرين مرورنا بمدينة ساوث بِند؟ لقد توقفنا فيها لقضاء الحاجة. مرحى، لقد فاتتكِ ولاية آل «هوشر» برمتها! أيتها الساهية.» كان يرى ذلك مضحكًا جدًّا.
في تلك اللحظة، انحنى الطريق (أعني ذلك بالمعنى الحرفي — كان الأمر مباغتًا) وعلى جانبه الأيمن كان يوجد تجمُّع مائي ضخم. كانت صفحته زرقاء بلون نبات الجريس الذي ينمو خلف الحظيرة في بايبانكس، وكان ماؤه يمتد على مرمى البصر. بدا كمرعًى مائيٍّ أزرق شاسع.
سألَت جدتي: «هل وصلنا إلى المحيط؟ لا يفترض أن نمرَّ بالمحيط في طريقنا، أليس كذلك؟»
«أيتها الساهية، تلك بحيرة ميشيجان.» ولثم جدي أصبعه وطبع به قبلة على وجنة جدتي.
قالت جدتي: «أود أن أبلل قدمَيَّ بمائها.»
انحرف جدي بالسيارة قاطعًا حارتين مروريتين ودلف إلى مخرج الطريق، وفي لمح البصر كنا نقف حفاةً في ماء بحيرة ميشيجان البارد. تناثر رذاذ الموج على ملابسنا، وحامت النوارس في حلقات فوقنا وهي تنعق في صوت واحد مثل جوقة عظيمة، وكأنما سُرَّت برؤيتنا.
«مرحى، مرحى!» قالت جدتي وهي تفرك كعبيها في الرمال. «مرحى، مرحى!»
تلك الليلة توقفنا في ضواحي ولاية شيكاجو. من نُزُل «هوارد جونسون» جلت ببصري فيما استطعت أن أتبينه من ولاية «إل-أه-نو-واي»، فبدت وكأنما تبعد سبعة آلاف ميل عن البحيرة. بدت لي تمامًا مثل شمال أوهايو، بطرقها المستوية الطويلة المستقيمة، وقلت في نفسي ما أطول تلك الرحلة التي بانتظارنا. بحلول الظلام، عادت الهمسات: «هيا، هَلُمِّي، هيا.»
استلقيت في تلك الليلة في سريري أحاول تخيُّل مدينة لويستون بأيداهو، لكن عقلي أبى أن يرتحل إلى مكان لم أزره من قبل. بل ظل يعود إلى بايبانكس.
حين غادرت أمي إلى مدينة لويستون، بأيداهو، كان أول ما خطر لي من أفكار هو: «كيف لها أن تفعل ذلك؟ كيف تهجرني؟»
بمرور الأيام، ازدادت أمور كثيرة صعوبةً وكآبةً، لكن بعض الأمور صارت أسهل على نحو غريب. عندما كانت أمي موجودة، كنت كالمرآة لها. تسعد فأسعد. تحزن فأحزن. في الأيام الأولى التي تلت رحيلها، شعَرتُ بخدَرٍ في مشاعري، فلم تنتَبْني أيُّ مشاعر. لم أدرِ ما هو الشعور المناسب الذي ينبغي أن أشعر به. كنت أجد نفسي أتلفَّت بحثًا حولي محاولةً أن أحدِّد أي مشاعر أريد أن أشعر بها.
في أحد الأيام، بعد رحيلها بنحو أسبوعين، كنت أقف أمام السياج أتطلع إلى عجل وليد يسير متمايلًا على قوائمه النحيلة. كان يتعثر في مشيته ويترنح وقد أمال رأسه الضخم نحوي يرمقني بنظرة عذبة مُحِبة. قلت في نفسي «أوه! في تلك اللحظة من الزمن ما أشعر به هو السعادة.» فوجئت بأنني أدركتُ ذلك وحدي، في غياب أمي. وفي تلك الليلة، لم أبكِ في فراشي. بل قلت لنفسي: «بوسعي أنا سالامنكا تري هيدل أن أكون سعيدة من دونها.» بدت فكرة قاسية وندمت عليها، لكني «شعرت» بأنها حقيقية.
في النُّزُل، بينما كنت أسترجع تلك الذكريات، جاءت جَدتي وجلست على جانب سريري. قالت: «هل تفتقدين أباكِ؟ هل تودين مهاتفته؟»
كنت أفتقده، وأريد مهاتفته، لكني قلت: «كلا، أنا بخير، صدقًا.» إذ ربما ظن أنني جبانة لو اضطررت إلى أن أهاتفه خلال تلك المدة القصيرة.
قالت جَدتي: «حسنًا يا صغيرتي»، ثم انحنت وقبَّلتني، فشممت رائحة مسحوق الأطفال الذي تستعمله دومًا. أثارت فيَّ تلك الرائحة حزنًا لم أدرِ سببه.
في صباح اليوم التالي، حين ضللنا الطريق أثناء مغادرتنا شيكاجو، صليت قائلة: «رجاء سلمنا من الحوادث، ويسر لنا الوصول في الوقت المناسب …»
قال جدي: «على الأقل اليوم بديع لخوض رحلة بالسيارة.» حين وجدنا أخيرًا طريقًا يتجه غربًا، سلكناه. كانت خُطتنا هي أن ننحنيَ في الجزء الجنوبي من ولاية ويسكنسن، ومنها ندخل إلى ولاية مينيسوتا، ونقطع ولايات مينيسوتا، وساوث داكوتا ووايومينج، وندلف إلى ولاية مونتانا ونجتاز سلسلة جبال روكي ومنها ندخل إلى ولاية أيداهو. قدَّر جدي أننا سنستغرق يومًا تقريبًا لعبور كل ولاية. لم يكن ينوي التوقُّف كثيرًا حتى نبلغ ساوث داكوتا. قال: «سنزور متنزه بادلاندز. وسنزور سلسلة جبال بلاك هيلز.»
لم أرتَحْ لاسم أي من المكانين، لكني كنت أعرف سبب ذَهابنا إليهما. لقد زارتهما أمي. فقد توقفت الحافلة التي استقللتها من لويستون في جميع المعالم السياحية. وعلى أثرها كنا نسير.