لوعة الحب
عندما أحبَّت نادية جارها محمودًا، لم تحبه من فراغ، بل عرف كل منهما الآخر منذ أنْ كان في غضاضة الإهاب بحكم الجيرة والعشرة الطويلة. وما زاد في تعلُّق أحدهما بالآخر أنْ كانت نافذة حجرة نوم نادية أمام نافذة حجرة نوم محمود؛ فكان كل منهما يرى الآخر ويتحدَّث معه. وشيئًا فشيئًا توطَّدَت تلك العلاقة إلى حُب جارِف مع توالي الأيام، وتعاقُب الشهور والأعوام. وكان في مقدوره أنْ يراها وهي نائمة في فراشها، ولا سيما في فصل الصيف؛ إذ يجبرها الحَر الشديد إلى أنْ تترك شباك حجرتها مفتوحًا، وعندئذٍ يُطفئ محمود أضواء حجرته ويسترِق النظر إلى ما يتعرَّى من أجزاء جسم نادية وهي نائمة؛ وبذا تتأجج نيران الحب في قلب محمود، حتى تملَّك حبُّها من قلبه وسيطر على عقله وجَنانه لا سيما وأن جسم نادية كان أبيض ناصعًا مُشرَبًا بحمرة خفيفة جعلته وردِي اللون جذابًا. وهكذا كان يقضي معظم لياليه مؤرَّقًا مسهدًا، ينظر إلى جسم نادية من خلال فُرجة بين مِصراعي نافذته، ونادية لا يخامرها أي شك في أنَّ أحدًا ما يتمتَّع برؤية جسمها البض. فليس أمام شباكها سوى شباك محمود وهو نائم وقد أطفأ أنوار حجرته ونافذته مُقفلة … وهكذا يقضي غالبية ساعات الليل أمام النافذة حتى يغلبه سلطان النعاس في سويعات الليل الأخيرة، فينام إلى ساعة متأخرة من الصباح.
كبرت نادية، ونضجت أنوثتها، وبرزت مفاتن جسمها، واشتد اهتمامها بماكياجها ليزيدها جمالًا على جمال؛ إذ كانت مَليحة الوجه، خفيفة الروح والظِّل، جذَّابة الملامح والتقاطيع، ذات حركات ساحرة، تتهادى في مشيتها بما يثير الغرائز الكامنة، ويأخذ بمجامع القلوب والألباب. وبذا كَثُر عدد مُطارِديها ومُلاحِقيها. وكان محمود يَغار على نادية من الهواء إذ يلمس وجهها الصبوح وشَعرها الذهبي البرَّاق، ويحسد ملابسها؛ لأنها تَلمَس جسمها الجميل الفاتن، ويتمنى أنْ يكون هو مَن يَلمَس ذلك الجسم، ويعتصر صاحبته بين ذراعيه، ويشبع من تقبيلها بحرارة ظنًّا منه أنْ ذلك يطفئ نيران الحب، ولكن الواقع أنَّ مجرد النظر إليها كان يلهب كل جسده.
جاء اليوم الذي التحقَت فيه نادية بالجامعة، وتعرَّفت بالكثير من الشبان. فكان يحلو لها أنْ تسير الهُوينَى في طريقها، وتتفنَّن في أنْ تهز أردافها بطريقة مثيرة تلفِت إليها الأنظار.
أبصر محمود نادية وهي تمشي في طريقها إلى الجامعة بهذا الشكل المثير؛ فراودته الظنون والشكوك، فعندما تخرج معه في نزهة تتوخَّى أنْ تسير سيرًا عاديًّا، فلماذا هذه الحركات وهي في طريقها الطويل وهي ذاهبة إلى الكلية في الصباح، وعندما تعود إلى منزلها في المساء؟ لا بد أنْ قلْبَها مشغول بحب شخص غيره، أو هي تمهِّد الطريق إلى حب جديد غَيْر حبها محمودًا، لا سيما وهي الآن في ريعان الشباب، وميعة الصبا.
حاول محمود، وهو يتنزَّه مع نادية ذات مرة أنْ ينهرها عن ذلك المسلك المشين، خصوصًا وأن العيون ترمقها جيئةً وذهابًا، وشُبَّان اليوم لا هَمَّ لهم إلا مُلاحَقة مَن يرونها خليعة سهلة الصيد.
دُهش محمود، بل ذُهل عندما أفهمته نادية أنها حُرة في طريقة سَيْرها ولا يمكنها أنْ تغيرها لمجرد أنها لا تعجبه، فإن راقه أنْ يراها تمشي على هذا النحو، كان بها ونِعمَت، وإلا فليغمض عينيه … ما هذه الجرأة؟ وما هذه الجسارة والوقاحة التي تعلَّمَتها نادية أخيرًا، بعد أنْ عرفت الجامعة ومَن بها من زملاء، جُلُّهم يميل إلى الحب والعشق والتمتع بالزميلات الجميلات الفاتنات؟
ما كل صراحة محبوبة، ولا كل حُرِّية مقبولة. فما سمعه محمود من نادية، أثار حفيظة نفسه، وبدأت العلاقة بينهما تخبو وتتعكر، ويفتر ذلك الحب الذي بلغ الذروة أو كاد يبلغها … فتعكَّر صفاء علاقتهما، وظلَّلَت غيوم الشكوك حُبَّهما الذي ربط بين قلبيهما منذ عهد الطفولة البريئة إلى طَور الشباب الأرعن المتقلِّب.
شاء سوء الحظ، أنْ يرى محمود نادية، بمحض الصدفة، وهي تعود إلى بيتها في صحبة شاب، يسيران وئيدًا، ويتحدثان أثناء الطريق في حُرِّية تامة كأنهما صديقان من زمن طويل … وما إن اقتربَت من البيت حتى سلَّمَت عليه بحرارة، فتركها ذلك الشاب الغريب وهو يلوِّح لها بيده أثناء عودته أدراجه.
أثار ذلك المنظر غضب محمود، وأكد له أنَّ حب نادية إياه، الذي دام طوال سِني حياته، قد أخذ يتحوَّل إلى ناحية أخرى. فاشتعلت نيران الغيرة في قلبه العامر بحب نادية، والذي لم يَتَّجِه نحو أية فتاة سواها، مَهما تكن جميلة أو خليعة … فلما التقى بها حدث شجار كبير، وتحقيق مرير … وازدادت ثورة قلبه عنفًا عندما أعلمته نادية أنَّ ذلك الشاب ليس إلا زميلًا لها بالجامعة، كلَّف خاطره أنْ يشاركها الطريق كي لا تشعر بالوحدة، وحتى لا يتجرأ أي شاب على معاكستها، وهي مَحَط أنظار الكثيرين من طلاب الكلية وغير طلبتها.
ساءت العلاقة بين محمود ونادية، وهو مُحقٌّ في أنْ يغار عليها بعد كل ذلك الحب، الذي ربما أدَّى إلى زواجه بها. فلا يرضيه أنْ تكون هناك علاقة، مَهما تكن بريئة، بين من سَتكون زوجته مستقبلًا، وبين شاب غريب، فيسيران معًا على مَرأى من الجميع «وعلى عينك يا تاجر.» … وما زاد في غضبه أنَّها رفضت أنْ تُقلع عن مسلكها هذا، وأصرَّت على أنَّ لها مُنتهَى الحرية في تصرفاتها كما يَروقُها، خصوصًا وأنها غدَت طالبة جامعية وما عادت طفلة تَنقاد إلى رأْي هذا أو ذاك.
تحمَّل محمود الأرَق ليالي وليالي، بعد أن اتخذت نادية موقفًا غريبًا معاديًا، وضَربَت بذلك الحب الطويل عُرْض الحائط كأن لم يكن. وأوصدت نافذة حُجرتها ولم تَعُد تفتحها إطلاقًا كي لا يراها محمود، ولا تراه، ولو من بعيد … هذا برهان أكيد عن أنَّ قلب نادية قد تحوَّل إلى جهة أخرى، ما في هذا رَيب. لقد سدت في وجهه كل المنافذ، وتَفانَت في أنْ تَغيِّر من مواعيد خروجها وعَودتها، وأن تسير في طرقات غير التي اعتادت السَّير فيها. وهذا إمعان في قَطْع علاقتها به، وتأكيدٌ له بأنها ما عادت تحبه، وليس من حقه أنْ يُملي عليها إرادته أو توجيهها حسب رغبته.
كاد الهم والغم والأفكار والحزن، تقتل محمودًا. وما عاد يهنأ بطعام أو شراب أو نوم أو راحة … ماذا يفعل بعد ما أصاب علاقته بنادية، وحبها إيَّاه وحبه إيَّاها المتغلغِل في قلبه عميقًا والذي كان يسيطر على جميع حركاته وسكناته، ويشغل باله وتفكيره ليل نهار … أصاب ذلك الحب الفتور بل الانعدام وأصاب أعصابه بالتوتر، ودمه بالغليان، وهو في طريقه إلى القطيعة التامة.
لن يموت الحب بين محمود ونادية، بمثل هذه الطريقة الدَّنيئة … فعوَّل محمود على أنْ يراقب نادية في كل رَوحاتها وغَدواتها، وحركاتها وسكناتها، مَهما يكلفه من جهد، وعزم على أنْ يتفرَّغ لهذه المراقَبة بأي ثمن … فَتنكَّر في صورة غريبة لا يمكن أنْ يعرفه فيها أي شخص، حتى أقرب المقرَّبِين إليه، وساقَتْه قدماه إلى كلية نادية نفسها، ليدرس مسلك نادية هناك، مِن كَثَب، ويعرف حركاتها وعلاقاتها، وما قادها إليه سُوء فَهْمها لمعنى الحرية التي ساقتها إلى تَمضِية معظم أوقاتها بالنهار في الكافيتريا مع هذا وذاك من زملائها طلبة كُلِّيتها.
وجد محمود نادية تجلس مع الكثيرين وتتحدث معهم بألفاظ تَقشعِر منها الأبدان، وتضحك ضحكات عالية بعيدة عن الحِشمة والأدب … وما زاد الطين بلة، انصرافها مع شاب وسيم الوجه، جميل الخلقة يبدو عليه الثراء الواسع … صَحِبها في سيارته المرسيديس آخر موديل، وانطلق بها يسابق الريح، إلى خارج أسوار الجامعة، وإلى حيث لا يعلم غير الله وحده. فأثار هذا الكثير من الشكوك في علاقة نادية بذلك الشاب الذي تتمنى كل فتاة أنْ تكون معشوقته أو زوجته.
كان هذا الحدث، هو الطَّامَّة الكبرى، والبلاء الأعظم، والقَشَّة التي قَصمَت ظهْر البعير وأناخت به … ولأول مرة، تجرَّأ محمود على أنْ يتصل تليفونيًّا بوالدة نادية، ونقَل إليها صورة حقيقية لما رآه وشاهَده بعيني رأسه من تصرفات ابنتها في حَرَم الجامعة، ثم ركوبها مع شابٍّ وسيم سيارته الفارهة. وبيَّن لها ما قد يحدث من وراء ذلك العبث الأهوج من أضرار بمستقبل ابنتها وأخلاقها وصِيتها الذي لا بد أنْ تَلُوكه الألسنة … ظنًّا منه أنَّ الأم ستقف من ابنتها موقف الحزم، فتلقنها الدرس اللازم لتقويمها وإصلاح اعوجاجها وسلوكها داخل الكلية وخارجها.
ولكنْ تأتِي الرياح بما لا تشتهي السفن؛ فقد خاب أمل محمود … لا بد أنَّ أم نادية على عِلم بتصرفات ابنتها وتُحبِّذها لها وتُشجِّعها عليها: «اكفي الزبدية على فمها، تطلع البنية لأمها.»
بعد أنْ مضى على هذا الأمر بضعة أيام، رأى محمود نادية جالسة في شرفة بيتها. ولكنها لم تكن وحدها، وإنما كانت مع ذلك الشاب الوسيم، يَرشفان القهوة معًا ويتبادلان النكات والضحكات.
جُنَّ جنون محمود لهذا المنظر المُزْري المُثير، وعوَّل على الانتقام لكرامته التي أُهدِرت بعد أنْ خَطَت نادية هذه الخطوة تَتحدَّى فيها محمودًا كَردِّ فعل لاتصاله تليفونيًّا بأمِّها يطعن في سلوك ابنتها، ولِتُفهِمه أنها ما عادت تُحبه بل يَنصَب كل حبها على ذلك الشاب الذي وجدَت فيه ضالَّتها المنشودة، أما الحب بينها وبين محمود فكان لعب عيال وتصرفات أطفال لم تنضج عقليتهم لتتمشى مع الواقع أو تَتطوَّر بتطوُّر الزمن ومراعاة الصالح وانتهاز الفرصة وهي ساخنة … فمَن يكون هذا المحمود بالنسبة لفتى أحلامها؟ والد محمود مجرَّد ضابط شرطة لا يملك سوى مُرتَّبه الذي لا يكفي شراء عِقد تضعه حول رقبتها. أما والد هذا الشاب فمليونير صاحب عمارات ومصانع، لا يعرف للأموال حسابًا؛ لذا أهداها ابنه الكثير من المجوهرات الغالية التي لا يستطيع محمود أنْ يحصل على حَبَّة واحدة من عِقد تتحلَّى به.
نزل محمود إلى الشارع أمام باب داره، ينتظر خروج ذلك الغريم الذي حل مَحلَّه في قلب نادية. وما إنْ أبصره يخرج من باب العمارة حتى انهال عليه صفعًا ولكْمًا وركلًا وضربًا بحزام من الجلد. وكان محمود قَوِي البنية مفتول العضلات على عكس ذلك الشاب المدلَّل صاحب الخدم والحشم والأموال والسيارات. وعلى هذا لم يترك محمود خصمه إلا بعد أنْ أشبعه ضربًا يذوق الموتَ مَن ذاق طَعْمَه.
اعتقد محمود أنَّ ما أقدم عليه سوف يُخيف نادية، ويجعلها تقطع علاقتها بذلك الشاب الوسيم، فتعود إليه مطيعة مُذعِنة، وبذا يسترد حبَّه الذي كاد يضيع، ويحظى بمعشوقته التي أوشكت أنْ تفلت من بين يديه … هكذا صوَّر له خياله، وأقنعَتْه أوهامه.
غير أنَّ نادية لم تكن من ذلك النوع الذي تَخيَّله محمود، وإنما كانت تلعب بالبيضة والحجر، فصمَّمت على أنْ تبين لمحمود: «إِنَّ كَيْدَهُنَّ عَظِيمٌ». فحرَّضت فتاها على أنْ يأخذ بثأره من محمود، ورسمَت له خطة الانتقام المؤقَّت، وما خفي كان أعظم وأمَر.
تظاهرَت نادية بأنها لُقنت درسًا يجعلها تترك ذلك الشاب الوسيم، وتعود إلى محمود حبيبها الأول، فما الحب إلا للحبيب الأول. فأكَل محمود من الطُّعم، واتَّفَق مع نادية على أنْ ينتظرها وهي في طريق خروجها من الجامعة؛ ليذهبا معًا إلى حدائق الأورمان. ولكن، ما كاد محمود يقترب من ذلك المُنتَزه حتى تصدَّى له الشاب الوسيم ومعه أربعة من خدَمِه الأقوياء المُسلَّحِين بالعِصِي والسِّياط، فهجموا على محمود ولم يتركوه إلا وقد افترش الأرض مُثْخنًا بالجراح. فجاءت سيارة الإسعاف ونقلته إلى المستشفى، ظل عدة أسابيع يُعالَج من إصاباته بمختلف أجزاء جسمه.
بذَل والد محمود، بصفته ضابط شرطة، كل جهوده للقبض على من اعتدَوا على ابنه ووحيده، ولكن دون جدوى، وقُيِّد المحضر ضد مَجهولِين.
لم تكتف نادية بما حدث لمحمود، بل تمادَت في إثارته بطريقتها الأنثوية الخاصة، لتغيظه أكثر وأكثر. فجعلت الشاب الثَّرِي يقضي الليل كله معها في حجرة نومها بحجة الاستذكار معًا … وتكرَّرت هذه السهرات عدة مرات، وشُبَّاك حجرة نادية شِبه مقفل، ولكنها كانت تترك فُرجة بين مِصراعَي الشُّباك هربًا من الحر.
وضع محمود في ذهنه أنْ يرى بنفسه ما يدور بين نادية وفتاها الجديد، فثقب ثقبًا في شيش نافذة حُجرته يسمح له برؤية ما يدور عند استذكار نادية دروسها مع ذلك الشاب. على أنْ تكون حجرة محمود مُظلمة كي لا تراه نادية وتعرف أنه يراقبها.
ذات ليلة، خرج والد نادية وأُمها لزيارة بعض أقاربهما تاركِين نادية تستذكر دروسها مع ذلك الشاب، والأم تعلم ما سيحدث بين ابنتها وعاشقها لترغمه على أنْ يتزوَّجَها. فما إنْ خرج الوالدان حتى خلعَت نادية فستانها بحُجة الحر الشديد، وبقيت بالقميص الشفَّاف الذي يبدي أكثر مما يخفي. فاحتضنها الشاب وصار يقبلها بحرارة، وطوقها بذراعيه. كل هذا ومحمود يُراقبهما … وأخيرًا كان ما لا بد منه.
غلَى الدم في عروق محمود، وكادت الشرايين تنفجر في رأسه؛ فتسلَّل إلى حُجرة والده على أطراف أصابع قدميه، وأخَذ مُسدَّس والده، ونزل إلى الشارع ينتظر غريمه في الظلام.
ما هي إلا ساعات قلائل حتى أبصر محمود الشاب يخرج ونادية تخرج معه لتوديعه بالأحضان والقُبلات. فأطلق محمود رصاصة اخترقت ظهر نادية ونفذت في قلبها فأردَتْها صريعة على الفور، ونفذت من جسمها إلى صدر الشاب الوسيم فاخترقَته واستقرَّت داخل جسمه.
سمع العَسس صوت الطلق الناري، فانطلقَت الجحيم من عقالها، وأسرعوا إلى مصدر الصوت فألْقَوا القبض على محمود، ونَقلوا الشاب إلى المستشفى، ونادية إلى المشرحة؛ حيث قرَّر الطبيب الشرعي الذي شرَّح الجثة أنَّ نادية فقدَت بكارتها في تلك الليلة قُبَيل وفاتها بساعات. وأن الطلق كان من مسافة قريبة؛ إذ أحدث حرقًا بجلد نادية حول الجرح الذي مرَّت منه الرصاصة. وبذا ساعَد تقرير الطبيب الشرعي على تخفيف الحكم على محمود، إلى السجن المؤبَّد، بدلًا من الإعدام وهكذا انتهى جنون الحب.