حلم تحقق!
استيقَظ عليٌّ من النوم وقد أزعجه ما رآه فيما يرى النائم. رأى حلمًا جاءه في صورة كابوس قضَّ مضجعه وأطار النوم عن عينيه ورأسه … صحيح أنه نام غاضبًا من زوجته سُميَّة الدائمة الشجار معه لأتفه الأسباب، ومرات كثيرة بغير أسباب … كانت من النوع «النكدي»، الذي لا يهنأ له عيش ولا يرتاح باله وضميره إلا إذا عكنن على غيره.
تشاجرت سُميَّة مع عليٍّ في هذه الليلة بسبب نفقات البيت التي كانت ترهقه بها يوميًّا تقريبًا. وكذلك لأنها طلبَتْ منه أنْ يشتري لها حذاءً معينًا ثمنه أربعون جنيهًا، وليس في مقدوره أنْ يوفر لها هذا المبلغ الضخم بالنسبة له … أرادت شراء ذلك الحذاء اللعين لتلبسه في مناسبة هامة، ألا وهي الاحتفال بمرور ربع قرن على زواجهما؛ وكذلك لأن زفاف شقيقتها في نفس ذلك اليوم … ولم يكن علي يحب شقيقة زوجته هذه كثيرًا؛ إذ حاول ذات مرة أنْ يغازلها ويطارحها الغرام؛ لأنها كانت أجمل من زوجته، فصدَّته في عنف، وفضحَته فضيحة «بجلاجل»، كما يقولون.
احتفظ علي بالحُلم لنفسه ولم يخبر به أحدًا، ولا حتى زوجته، معتقِدًا كل الاعتقاد أنه أضغاث أحلام، فالمرء يحلم كل ليلة تقريبًا ولا يتحقق أي شيء مما يدل عليه ما رآه في منامه.
بيد أنَّ ما أدهش عليًّا، هو أنه رأى نفس الحلم في الليلة التالية … رآه هو بعينه دون أي تغَيُّر، وبنفس التفاصيل والفظاعة، فتشاءم وهو يستعيذ بالله، فلا يصدق أنه سيتحول إلى قاتِل؛ إذ رأى نفسه في الحلم ممسكًا سكينًا مشحوذة، ويهوي بها على صدر زوجته، ويكيل لها الطعنات بنفس تلك السكين، في جميع أجزاء صدرها وبطنها إلى أنْ فارقت الحياة … لم يتصور أنَّ مَقْتَه زوجته سيئُول إلى هذا المصير البغيض.
لم يُطِق عليٌّ صبرًا فباح بما رآه إلى صديق حميم يثق كل منهما بالآخر ويطلعه على أسراره، ويفضي إليه بما يشغل باله ويضايقه، فيشير عليه بما يذهب عنه همومه … فأشار عليه ذلك الصديق بأن ينسى ما رآه في الحلم ليلًا، ويعيش في واقع الحياة نهارًا. فأخبره علي بأنه ليس على وفاق مع زوجته، ويدب الشجار بينهما باستمرار، فلا يكاد يمر يوم بغير نقاش؛ لذا كان غير سعيد معها … فهي دائمة الشكوى، بَرِمَة بكل شيء، وتطالبه بما هو فوق طاقته، وتُعَيِّره بفقره وتعامله بمنتهى القسوة، وتَشتُمه أحيانًا بأقذع الألفاظ، وتشتم الأولاد بين آنٍ وآخر بقولها: يا أولاد الكلب … يا أولاد الحمار، وهكذا تهدر كرامته وسط أولاده … كما أنها لا تتورع عن أنْ تشتمه على مَسمَع من الجيران والأهل والأقارب، حتى أصبحت الحياة لا تطاق بين عليٍّ وزوجته سُمَيَّة.
بعد ذلك بأيام، أفضى علي إلى صديقه هذا، بأن فكرة القتل راودته أكثر من مرة، ولكنه راجع نفسه وعدل عنها من أجْل خاطر ابنته «محاسن» الحلوة وولده سعد المُعوَّق، وسعاد صغرى ابنتيه.
أشار الصديق على علي بأن ينزع من رأسه فكرة القتل، وإذا كانت الحياة بينهما متعذِّرة إلى هذا الحد، فليطلقها ويتزوج بأخرى ترضَى بتربية أولاده … وهناك نساء كثيرات يوافقن على الزواج بهذا الشرط.
الواقع أنَّ عليًّا رجل مسالم، لا يميل إلى الشر، بعكس زوجته المشاكسة. فاستدان من صديقه أربعين جنيهًا، وسلمها إلى زوجته كي تشتري الحذاء الذي أعجبها، وتتوق إلى أنْ تلبسه في قدميها، وتتباهى به أمام الأهل والصديقات … وهكذا ظن علي أنَّ ذلك سيصلح من حالها، ويُقوِّم خُلُقها … ولكن هيهات. فكما يقول المثل اللبناني: «كم أعدل فيك يا ذيل الكلب والطبع فيك غالب … طول عمرك أعوج ولو وضعوك في ستين قالب.»
مرت زوبعة الحذاء بسلام، ولكن إلى حين؛ فلم تَكُفَّ سُميَّة عن سبِّ عليٍّ وإهانته، وعبثًا حاول عليٌّ تقويم لسانها الوسخ، وتعليمها الأسلوب الصحيح في معاملته ومعاملة أولادها، ومعاملة الأهل والأغراب، وكثيرًا ما توسَّل إليها أولادها بأن تمتنع عن شتيمة أبيهم الطيب. فكانت تصدهم، وتوحي إليهم بأنهم لا يعرفون أباهم كما تعرفه هي … فقد غَشَّها وخدعها عندما خطبها ليتزوجها، فأوهمها بأنه يربح من أعماله مبالغ طائلة، وأنه يملك مصنعًا للأثاث ولديه الكثير من العمال النجَّارين، ويُورِّد الأثاث لشتَّى المتاجر، ثم اتضح لها، بعد الزواج، أنَّ المصنع الذي يذهب إليه ليس مصنعه، وإنما هو مجرَّد عامِل نجار فيه، بأجر بسيط لا يكفي مَطالبها ولا مَطالب بيتها. ولما صارحته بهذه الحقيقة، أفهمها أنه باع المصنع لكي يدفع الصداق، ويؤثث شقة الزوجية، إرضاءً لأبويها، مؤملًا أنْ يُكوِّن نفسه فيما بعد، ويفتح مصنعًا جديدًا، ويستعيد شُهرته بين تجار الأثاث، ولقبه: «المعلم علي».
أصيب علي، بعد الزواج بصدمة قوية، أطارت لُبَّه، ونَغَّصت عليه حياته، وحرمته لذة النوم. وهو يقول لنفسه: جزاء المعروف، ضرب الكفوف، فعندما تزوج سمية، لم يجدها عذراء عندما اختلى بها بعد الزفاف … وعندئذٍ توسَّلَت إليه وهي تبكي، ألا يفضحها، وأن يتستر عليها، ويعتبرها خادمة عنده، وستعيش لديه عَبْدة تحت قدميه، وأخبرته بأن شابًّا خطبها قبله، فكانت تخرج معه كما يخرج كل خَطِيبَين … وفي إحدى المرات صحبها خلال شارع مُظلِم إلى شقة حيث أخذ يُقبِّلها ويعانقها، وهي راضية إذ سيكون زوجها، وفجأة برَك فوقها وسطَا على عفافها بالقوة، ولما حاولتْ أنْ تصرخ، وضع يده على فمها، ولما استغاثَت لم تجد المُغيث إلى أنْ نفذ السهم ونال منها مأربَه، ثم طيَّب خاطرها وأفهمها أنه سيتزوجها بعد فترةٍ قصيرةٍ، وبذا تنسى ما حدَث إذ ستصير زوجته.
بعد ذلك خرجَا معًا من تلك الشقة وهي لا تدري أين هي من هول الصدمة التي لحقتها، وأخذ يسير بها في عدة شوارع ومنعطَفات حتى أوصلها إلى بيتها، وكان ذلك آخر عهدها به، فلم يرجع إليها وهي لا تعرف اسمه ولا مكان عمله ولا موضع الشقة التي فقَدَت فيها شرَفها وعفافها.
ولما كان عليٌّ طيِّب النفس، رضي بها زوجة، رغم حالتها، كي يثيبه الله على عدم فضيحتها. وأملًا في أنْ تعيش معه في سعادةٍ وهدوءٍ وسلام، وعفا الله عمَّا سلف، وبذا تحفظ له هذا الجميل العظيم … ولكنها، ما إنْ أنجبَت، حتى انقلبت إلى وحش كاسر، تُزعجه بطلباتها المرهِقة، وتُعيِّره بعجزه عن الكسب، وتلعنه وتلعن أولاده، وتلعن اليوم الذي تزوجته فيه، وكان بوسعها أنْ تتزوج سيد سيده. لعَنَته؛ لأنها اضطرت في وقت ما أنْ تعمل في مخبز كي تُنقِذ المركب الغارقة، ولم يكن زوجها يعلم بذلك، إذ كانت تتغيبُ عن البيت في الوقت الذي يكون عليٌّ فيه في عمله.
وهكذا نشأ الأولاد في جو مشحون بالشجار، مملوء بالسباب، وزاخر بالشقاق وعدم الوفاق أو الاتفاق … وبذا تَعلَّم الصغار طول اللسان، فنفر منهم أولاد الجيران، ولم يصادقهم أحد؛ لئلا تصيبهم العدوى، وبذا وجد أولاد عليٍّ أنفسهم معزولِين تمامًا عن المجتمع، دون صديق ولا حبيب.
ما هي إلا فترة قصيرة، حتى جاء من يَهمِس في أذن علي، بأن زوجته على علاقة آثمة بصاحب مخبز، وتلتقي به في وكر غرامهما.
في البدء، تلقَّى عليٌّ هذا الخبر ببرود، وكأن الأمر لا يعنيه؛ لأنه لم يصدق ما سمعه … لم يتصور أنَّ الأمر يصل بزوجته إلى هذا المدى البعيد اللامعقول؛ إذ هي أم لثلاثة أطفال.
ولكن الرائحة فاحت، وغدَت سِيرة زوجته مع صاحب المخبز، على كل لسان … فتذكَّر أنها اختلقَت له حكاية ذلك الشاب الذي سلَبها بكارتها … مَن يدري؟ … ربما فسقت قبل الزواج آلاف المرات مع المئات من راغبي المتعة الحرام، فمن شبَّ على شيء، شاب عليه … فصمَّم على أنْ يفاتحها في هذا الموضوع. فقال لها عند أول لقاء: ما هذا الذي تَلُوكُه ألسِنة الناس عنك، يا سمية؟
– لستُ أفهم ما تقول، ولا أعرف قصدك.
– الناس يقولون بسيرتك، بما يندَى له الجبين.
– وما دخلي أنا مع الناس؟
– يقول الناس إنك على علاقة بصاحب مخبز.
– ليتَ كلامهم يغدو صحيحًا.
– يغدو صحيحًا؟ هذا يعني أنكِ لا تجدين أي عار يلحقُكِ أو يلحقني.
– صاحب المخبز أفضل من عامل نجار حقير لا يجد لقمة العيش.
– إذن، فأنتِ على علاقة بصاحب مخبز.
– صاحب المخبز هذا، أحسن منك ألف مرة. وأنا أنوي أنْ أتزوجه؛ لأنه رجل ثري ومحترَم، ويملأ العين تمامًا … أما أنتَ بالنسبة له، فمجرد هلفوت.
– ستتزوجينه بعد أنْ تطلقيني، طبعًا.
– هذا صحيح … طلِّقْني بالتي هي أحسن، وأنا أبرئك من مُؤخَّر الصَّداق، ومن كل شيء، في نظير أنْ أرى يومين سعيدين في حياتي … كانت كل حياتي معك شقاء في شقاء.
– وهل تهون عليك عِشرة السنين التي عشناها معًا؟
– ماذا رأيتُ معك في تلك السنين، غيرَ النكد والفقر والحرمان … ستهون … بمجرد أنْ أبتعد عن وجهك القبيح … هل تظن نفسك رجلًا؟ أنت حثالة الرجال … خلِّصْني، وابتعِد عنِّي.
– والأولاد؟
– بلهم واشرب ماءهم، فلا أهمية لهم عندي. بعد رأسي ما تطلع شمس. سعادتي بالدنيا كلها.
– أتقولين هذا، يا فاجرة، يا عاهرة؟
قال عليٌّ ذلك، وأخرج السكين التي كان قد أعدها، وشحذَها، وأخفاها بين طَيَّات ملابسه لمثل هذا الموقف … فانهال بها على صدر زوجته طعنًا مثلما رأى في الحلم، ولم يتركها إلا بعد أنْ لفظت آخر أنفاسها.
وهكذا تحقَّق الحلم الذي رآه عليٌّ، وأصبح حقيقة واقعة. وحُكِم على عليٍّ بالسجن المؤبَّد.