القلب الممزق
تخرَّج ممدوح في الجامعة وشغَل منصبًا مرموقًا يحسدُه عليه زملاؤه الذين تَخرَّجوا معه. وكان وسيم الوجه حسن الخلق، أدَّبه أبوه الثَّري فأحسن تأديبه وكان فوق هذا محبًّا للخير، يعطف على كل مُحتاج ويمد له يد المساعدة من ماله الخاص، رغم أنَّ والده كان يطلق يد ممدوح هذا في جميع أمواله؛ إذ كان ابنه الوحيد، وقُرَّة عينه ويحبه أكثر من أخته الوحيدة.
ذات يوم التقى ممدوح بصديقه الحميم عادل، وكان ممدوح مهمومًا مُشتَّت الفكر، فأسرَّ إلى عادل بمكنون صدره وما يبلبل تفكيره، فقال: أنا في حيرة من أمري، يا عادل!
– ولمَ الحيرة، يا ممدوح؟
– قلبي مُمزَّق بين مُنى المصرية، وأمينة المغربية.
– ومن تكون مُنى هذه، أولًا؟
– جارتي الحلوة، التي تعلَّق بها قلبي منذ زمن طفولتنا معًا … أمها صديقة أمي … تتزاوران كثيرًا. كما أنَّ أختها صديقة أختي. وعلاقة أسرتها بأسرتنا طيبة جدًّا، حتى ليكاد مَن يعرفنا، يظننا أسرة واحدة.
– وهل أفهم من هذا، أنك أحببتَ مُنى وهي صغيرة السن؟
– تستطيع أنْ تقول ذلك … وما يؤرقني ويشغل بالي، أنها اشتغلَت بشركة الطيران اليمنية، وعرفَت طريق السفر والتغيب في البلاد الأجنبية والشقيقة، خارج مصر، وبعيدًا عن أسرتها، وتعرَّفَت بشاب فلسطيني عرَض عليها الزواج.
– وماذا تريد منها، يا ممدوح، بعد انصرافها عنك، وعلاقتها بذلك الشاب الفلسطيني؟
– قلبي متعلِّق بها من زمان، كما قلت لك، ولا أستطيع أنْ أنساها أو أنسى الأوقات الجميلة التي أمضيتها معها ونحن في خلوة تامة، سواء بالمنزل، أو في الفنادق الكبرى، لا نشبع من القُبلات والأحضان والعناق … الجلوس معها متعة بالغة، كما أنها استطاعت أنْ تتسلل إلى قلبي من جميع أبوابه ونوافذه … وشاركتني طفولتي، وروَّحت عن نفسي وشغلتني عن جميع الدنيا المحيطة بي بمن فيها وما فيها. فكنا نلعب معًا «الاستغماية»، وبورق اللعب … ثم راحت تكبر أمام نظري … وفجأة وجدتُها كاعبًا، فاتنة جميلة الطلعة جذابة المنظر بقوامها الممشوق، وحركاتها الرشيقة وهي تتهادى في مشيتها، ترنو إليها عيون الرجال والنساء أيضًا.
– وهل حدثَ بينك وبينها علاقة جنس؟
– كلا، البتة.
– صارِحْني، يا ممدوح … فليس من المعقول أنْ تختلي بها في الفنادق الكبرى، ولا تنال منها سوى مجرد القبلات والأحضان. وكما يقولون: إذا اجتمع ذكر وأنثى في خلوة، كان الشيطان ثالثهما.
– الواقع، يا عادل، أنني كنت أخجل من التمادي معها زيادة على القبلات والعناق … ولا أزيد على ذلك، إذ كنتُ آمل في أنْ أتزوجها.
– وهل وعدتَها بالزواج؟
– كلَّا، لم أعطها وعدًا صريحًا بالزواج، ولكن المفهوم أنها لي وأنا لها؛ لما بيننا من علاقة وطيدة منذ طفولتنا وبعدها إلى الآن. وزيادة على ذلك؛ الأهل أصدقاء، أمها صديقة أمي، وأختها صديقة أختي وعلى رأي المثل: «زيتنا في دقيقنا.» … غير أنها منذ أنْ تعرفَّتْ بذلك الفلسطيني اللعين، تغيَّرتْ تمامًا، والتصقَت به، فلا تراها خارج عملها إلا معه، ولا تراه إلا معها. ومن غير المعقول أنْ أستطيع أخذها منه بأية وسيلة … ليتني تماديتُ معها في خلواتنا الكثيرة. فلو حدث ذلك، ما فكرتْ في أنْ تتركني وتعشق غيري. لكني أردت أنْ أوضح لها أنَّ غرضي من حبها شريف، وكانت النتيجة كما أعلمتك، يا عادل.
– لا بد أنَّ هذا الفلسطيني شابٌّ لبق، يفهم معنى الحياة، ومن أين تُؤكلُ الكتف، فجذبها إليه بأن عرض عليها رغبته في الزواج بها. وكل فتاة لا تنشد لمستقبل حياتها، أفضل من الزواج وإنجاب الأطفال … وجدت مُنى في ذلك الفلسطيني الجرأة على الطلب. وكما قيل: فاز باللذة الجسور … أما، أنتَ يا ممدوح فتركتَ الأمور على عواهنها مستندًا إلى المفهوم، فأحسَّت مُنى بأنك تلعب بعواطفها ولا تريد منها سوى تمضية الوقت فيما تعتبره هي «عبثًا»، أو لذة عابرة لا ترقى إلى درجة الاستقرار في الحياة وتكوين أسرة كان لا بد أنْ تَضرب الحديد وهو بارد، وتنتهِز الفرصة لئلا تصير غُصَّة. وهذا هو عين ما حدث لك بالضبط، يا ممدوح، على أية حال، لا فائدة الآن من هذا الكلام.
– الواقع، يا عادل، أنَّ مُنى أخطأَتْ خطأً جسيمًا بأن سمحَت لنفسها بالتعرُّف بذلك الفلسطيني وأعطتْه فرصة أنْ يعرض عليها الزواج … إنني أعتبر هذا إعلانًا منها بأنها ما عادت تحبني.
– ماذا تنتظر من فتاة تعيش بعيدًا عن أهلها وبلدها وعاشقها، وتركب الطائرات كل يوم، وتنتقل من بلد إلى آخر، ومن قُطر إلى قُطر، ولا بد لها من أنْ تحتك بهذا وبذاك، وتبتسم لكل شخص. وفي هذا الاحتكاك أعظم خطر على عواطف الفتاة. وأنت تعرف أنَّ الاحتكاك يولد الحرارة ويشعل النار، ومُنى فتاة في دور المراهقة.
– لم تَعُد منى صغيرة السن أو مُراهِقة … فهي في الرابعة والعشرين، تدرك كل شيء وتستطيع أنْ تزن الأمور بميزان دقيق، وتميِّز بين الصالح والطالح؛ وبين الطَّيش والحلم وتعرف أَفَنَ الرأي من صِحَّة الحكم.
– كل فتاة في مثل سنها، تبتغي الزواج، حتى لا يفوتها القطار، وخير البر عاجله.
– ومن قال لكَ إنني لا أخاف أنْ يفوتني القطار، أنا أيضًا؟
– صدقت، يا ممدوح إذ أعلم أنك في الثلاثين الآن. وكان لا بد أنْ تتزوج من خمس سنوات على الأقل. ولو فعلت لما وقعت في هذا المأزق، ولما حِرت هذه الحيرة. والزواج عماد الدين، وأنت والحمد لله شاب خيِّر وعلى خلق كريم.
– هذا صحيح، ولا فخر، فذات يوم اتَّصلَت مُنى بي تليفونيًّا، من اليمن، وأخبرتني بأنها قادمة إلى مصر، وحدَّدَت لي الميعاد بالضبط. فذهبت لأستقبلها وأرحب بها في المطار … فإذا بها مريضة بالغدة الدرقية التي يسمونها «أبو كعيب». فنقلتها من فوري إلى مستشفى مناسِب حيث عُولِجت من ذلك المرض الوبيل، ومكثَت بالمستشفى عشرة أيام، كنت أزورها فيها يوميًّا. وتكفَّلتُ أنا بفاتورة المستشفى التي بلغت قرابة ألفي جنيه، علاجًا وإقامةً وعقاقير … دفعت ذلك المبلغ عن طيب خاطر؛ حبًّا فيها، ولكي أشعرها بأنها ما زالتْ غالية عندي وذات مكانة سامية في قلبي.
– نعم، يا ممدوح. يدل عملكَ هذا على منتهى الشهامة، ولو كنت مكانها، لحفظت لك هذا الجميل في قلبي، ولاعتبرت هذه اللفتة بداية علاقة جميلة، لها طابع يختلف عن العلاقة السابقة.
– كل ما فعلَتْه مُنى، ناكرة الجميل، هو أنْ شكرتني بالتليفون، بعد أنْ عادت إلى عملها باليمن.
– إلى هنا فهمتُ كل شيء عن مُنى، وعن علاقتك بها من كل ناحية، وحبك إيَّاها وشعورها نحوك … ولكنكَ ذكرتَ أنك على علاقة بأمينة المغربية … فما قصتك معها؟
تعرَّفتْ والدتي بوالدة أمينة، ونحن في السعودية، نؤدي العمرة … وإذ كان الوقت صيفًا، والحرارة هناك على أشدها، أُصِبتُ بضربة شمس ألزمتني الفراش هناك. فلازمَت أم أمينة أمي، وساعدتها في تلك المحنة؛ إذ كنتُ في حال يرثى لها، من تدهور الصحة.
– أفهم من هذا، أنك لم تبصر أمينة، ولم يقع نظرك عليها، ولم تعرف ما إذا كانت جميلة أو غير ذلك. وإنما والدتُك هي التي أبصرَت والدتها، فلما علمتَ أنَّ لصديقة أمك ابنة، اسمها أمينة … أحببتها على الرائحة، كمن يشتري سمكًا في البحر.
– تراسلنا في البدء … وأرسلتُ إليها صورتي وبعثَت إليَّ بصورتها … وجدتُها فتاة جميلة بحق، جذابة الملامح والتقاطيع، متناسقة أعضاء الجسم. وعلمت أنها تتقن اللغة الفرنسية، من أسرة مالكة ذات ثراء واضح … وقد أنهَت دراستها الجامعية، وما زالتْ في طريقها إلى مواصلة التعلم في فرنسا.
– هل معنى هذا، أنَّ ثراء أمينة هو الذي استهواك، وأغراك على أنْ تترك مُنى، حبيبتك الأولى منذ الصغر؟ وإني لأفهم أنَّ حبك منى لم يكن من القلب كما تدعي … إنك، يا ممدوح كالفراشة التي تنتقل من زهرة إلى زهرة، لتمص رحيق هذه وتلك، ثم تنسى كلتيهما.
– لقد صرفتُ النظر عن مُنى، خصوصًا بعد قصتها التي أخبرتني بها شقيقتي.
– وماذا أخبرتك شقيقتك؟
– كانتا معًا عند «الكوافير»، وإذا بمنى تداعب الحلاق، وكان شابًّا وسيم الطلعة … داعبته بطريقة تمجها النفس، وبألفاظ تقشعر لسماعها الأذن. تتبادل معه النكات باستهتار وميوعة لا يليقان بفتاة مثلها. وكلنا نعلم حكاية «الكوافير» مع زوجة شخصية مرموقة في مصر. إذ تركت زوجها العظيم، وأولادها الثلاثة، ومن بينهم طفل لم يكتمل سنة واحدة من عمره، وذهبت مع ذلك الحلاق إلى بلد أجنبي، عاشا معًا هناك عيشة حب جارف … فلما أبصرت أختي ما يدور بين مُنى وذلك الحلاق. تركَت محل الكوافير على الفور، وعادت بمفردها إلى المنزل، تاركةً مُنى تلهو مع الكوافير كما يحلو لهما.
– ولهذا فكرتُ في العثور على فتاة أخرى تحل محل مُنى، ووجدتُ الخلاص في أمينة.
– وهذا هو ما جعلني أتكبد نفقات السفر إلى فرنسا، كي ألتقي هناك بأمينة، وأراها رؤية العين؛ فوجدتُ منها كل ترحيب وتقدير وكرم، أمضيت في صحبتها أربعة أيام كاملة، فتعلق بها قلبي. كما لقيت الحفاوة البالغة من شقيقتها المتزوجة في فرنسا، ومن زوجها.
– وهل فاتحت أمينة في أنك تريد أنْ تتزوجها؟
– نعم، ووجدتُ منها قبولًا وموافقة، ولم يبق بعد ذلك سوى موافقة الأهل.
– ولماذا، والحالة هذه، تقول إنك حيران وقلبك ممزق. طالما استقرَّ قلبك على أمينة وحزت موافقتها؟
– بعد عودتي من فرنسا. وأنا أكاد أطير فرحًا وطربًا. تلقَّيتُ من أمينة خطابًا، تناشدني فيه أنْ أصرف النظر عن موضوع الزواج، ونبقى أصدقاء ليس غير. هنا ابتأَس قلبي، واغتمَّ فؤادي وطار النوم من عيني … أصبحتُ كالغريق الذي تحطمت سفينته وظل طافيًا على سطح الماء بعيدًا من الشاطئ، لا يَعرِف له برًّا يرسو عليه … فحدثتْنِي نفسي بأن أعود إلى مُنى صاغرًا ذليلًا. وعلى حد قولهم: من ترك قديمه تاه … والواقع أنني تائِه، يا عادل … أنا بين نارين، ممزق القلب، مبلبل الفكر … أعتزم ترْك مصر؛ لأعمل في بلاد الغُربة، كي أنسى آلامي وهمومي وأحزاني وعذابي. أنا الآن حائر، وقد تُفضي بي الحيرة إلى الانتحار.