لكلِّ مجتهد نصيب
نشأ ماجد في بيتٍ قوامه العلم والدِّين، وكان أصغر إخوته وأخواته، وحَظِي بحب والديه وجميع أعضاء أُسرته، وكان المفروض أنْ يشب ماجد غلامًا مفسودًا بسبب كثرة «الدلع» والحب الشديد الذي لَقِيه من والديه، وسائر أفراد عائلته العشرة … ولكن الله سلَّم.
ما إن التحق ماجد بالمدارس حتى تلاشت نغمة التدليل، وحلَّت محلها الصراحة والشدة من أبيه … يضربه بغير رحمة إذا ما توانى في عمل واجب مدرسي، أو أتاه بكراساته، فوُجِدَت الدرجات التي حصل عليها دون المستوى المنشود.
كثيرًا ما تشاجرَت أم ماجد مع أبيه من أجل قَسوته على ابنه الأصغر هذا، خصوصًا كل يوم خميس وجمعة عندما يتفرغ الأب تمامًا لمراجعة الدروس مع ماجد؛ إذ يريد الأب لابنه هذا أنْ يكون متفوقًا في دراسته كإخوته الأكبر منه، ولا يريد له الضياع في متاهات الدنيا دون سائر أشقائه؛ إذ كلهم ناجحون في المدارس والجامعات، ومنهم مَن تخرَّج طبيبًا مرموقًا يُشار إليه بالبنان، ويجري ذِكْرُه على كل لسان؛ لأنه من الأطباء العالَميِّين في تخصُّصه وهو أمراض القلب. ومنهم من كان في بعثات إلى أمريكا وإنجلترا.
تفوَّق ماجد في دراسته كثيرًا؛ إذ نشأ في بيت شِعاره «من لا يكون دكتور … فهو طور»، أي بحذف المقطع «دك». يبدو أنَّ أباهم وضع في ذهنه قول أبي فراس الحمداني:
وكان لا يتنازل عن هذا الشِّعار السامي، مَهما يحدث في الدنيا، ومَهما تكن الأسباب. فإذا دخل ماجد امتحانًا وكان ترتيبه الثاني بين جميع أترابه في فِرقَته، أقام أبوه الدنيا وأقعدها، وانهال على ماجد يبكته بقوله: في أي شيء يمتاز عنك ذلك الطالب الذي كان ترتيبه الأول؟ هل له عقلان ولك عقل واحد؟ … هل يستذكر دروسه في مصباح كهربي، وأنت تستذكر في مصباح بترول؟ … هل يأكل لحمًا وفاكهة، وأنت تأكل فولًا وبصلًا؟ … هل ينام على حشية طرية فوق سرير، وأنت تنام فوق البلاط على حصير؟ … هل … هل.
كان هذا الأسلوب القاسي هو ما شبَّ عليه ماجد في حياته الدراسية، ولكن، للأسف الشديد، لم يحقق ماجد لأبيه رغبته في أنْ يلتحق بكلية الطب، بل دخل كلية الزراعة. فحلَّ على الأسرة كلها نكد الدنيا بأَسْرِها، ومَرِض الأب حزنًا على مستقْبَل ولده ماجد، الذي خيَّب أمله فيه، بل وأمل الأسرة كلها في أنْ يكون الطبيب السابع في العائلة.
وما زاد الطين بلة، أنَّ ماجدًا فشل في كلية الزراعة، وعجز عن استيعاب المحاضَرات والدراسة العملية في المعمل وفي الحقل.
وهكذا ضاع عام من حياة ماجد سُدًى، وانتقل بعده إلى كلية الآداب، قسم الدراسات القديمة. وهو قسم لم يعلم ماجد عنه أي شيء، ولكنه كان سعيدًا بالتحاقه به هربًا من دراسة مواد الزراعة التي لم تُمتعه ولم تجذب اهتمامه.
لمَع اسم ماجد في هذه الدراسات الجديدة عليه وراح ينجح فيها بتفوق، عامًا بعد عام حتى تخرَّج بامتياز وعُيِّن معيدًا بنفس الكلية، ولكن همته لم تقف إلى هذا الحد، بل أخذ يستعد للحصول على درجة الماجستير.
وهكذا استطاع ماجد أنْ يُسعِد قلب أبيه بعض الشيء، ونسي الأب آلام الماضي، وشجَّع ولده على المُضِي قدمًا في الدراسة والبحث من أجل الحصول عن الماجستير.
رغم ما كابده ماجد من إعمال الفكر وإدمان السهر، ومواصلة الليل بالنهار لكي ينال لقب «أستاذ» كي لا يقلَّ شأنًا عن إخوته الأطباء، فقد جاء اليوم الذي مثل فيه أمام اللجنة، وناقشته مناقشة عويصة، وحاسبَتْه حساب الملكين، فإنه عاد إلى أبيه وهو يحمل رسميًّا، لقب «أستاذ» بالفم الملآن.
استعدَّ صاحبنا هذا بعد ذلك للحصول على الدكتوراة في الدراسات القديمة التي استحوذَت على عقله وكيانه، وشغَلَت جُلَّ وقته، لدرجة أنه كرَّس بعض وقته الثمين لتأليف كتاب باللغة العربية، لتعليم اللغة اليونانية القديمة، أبدع فيه كل الإبداع، ووضع فيه ثمن معلوماته عن تلك اللغة وآدابها … ونجح في نشره، فدرَّ عليه ربحًا وفيرًا.
ما إنْ ظهر هذا الكتاب في الأسواق، حتى حمل ماجد نسخة منه أهداها أباه، مما جعل الأب يزهو ويفخر بولده ماجد، الذي لم يرض الله — جلَّت حكمته — أنْ يلتحق بكلية الطب، بل أعده ليبرز في ميدان الأدب.
واصل ماجد جهوده في مجال التأليف، ووضع كتابه الثاني والثالث. ووجد سعادة بالغة في إهداء أبيه كتابيه هذين، كما فعل في الكتاب الأول. وهكذا غيَّر أبوه ما رسخ في ذهنه من أنَّ الذي لا يصل إلى دكتور فهو ثور.
مات الأب سعيدًا، مطمئنًّا على مستقبَل ابنه الأصغر، ولو عاش ذلك الأب إلى اليوم، لما صدَّق أنَّ ولده هذا، الذي لم يدخل كلية الطب، استطاع في مدى أربعين عامًا، أنْ يكتب ويؤلف أكثر من مائة وثلاثين كتابًا في مختلف أنواع العلوم والآداب والفنون، وذاع اسمه في الأوساط الأدبية، وأصبح كل فرد في جمهورية مصر العربية يعرف من هو ماجد هذا، ويُعْجَب بنشاطه جميع الكُتَّاب.
عشق ماجد مهنة التدريس، فكان يعلِّم اللغات القديمة بجامعة القاهرة. ثم تركها وسافر إلى السودان، حيث اشتغل مدرسًا للغة الإنجليزية في مدارسها الثانوية، وفي المعاهد العليا، ثم هاجر إلى كندا … وهناك التحق بإحدى جامعاتها كطالب من جديد حتى تخرج فيها، وحصل منها على مؤهل يخوِّل له حق تدريس اللغة الإنجليزية في كل بلد يتكلم أهله اللغة الإنجليزية.
بعد ذلك عاد ماجد إلى مصر وطنه العزيز الذي عاش فوق أرضه، وتنسم هواءه، وشرب ماء نيله العذب، وتغذَّى بخيراته الوفيرة؛ فعمل أستاذًا للغة الإنجليزية بالجامعة الأمريكية، وظل يخدم المصريين، يعلِّمهم أصول اللغة الإنجليزية وآدابها، والتَّحدُّث بها بطلاقة، والترجمة منها إلى العربية، والعكس، وهو شامِخ الأنف، مرفوع الرأس والجبين.
تفرَّغ ماجد بعد ذلك إلى الترجمة والتأليف، فظهرت مواهبه فيهما بشكل واضح يحسده عليه كل المترجِمِين والمؤلِّفِين، وهكذا طار صِيتُه في دنيا الكتابة، ولم ينسَ أنْ يمد الصحف اليومية وغير اليومية بالمقالات القصيرة عن واقع الحياة وفي مضمار الآداب والعلوم والفنون … ولم يلجأ في مقالاته هذه إلى التطويل والإسهاب مؤمنًا بأن «خير الكلام ما قل ودل.»
خلال السنوات الأربعين، التي ظل ماجد يكافح فيها مع العلم والأدب والقلم، ماتتْ أمه الحبيبة، ومات سِتَّة من إخوته وأخواته فحزن عيهم أشد الحزن وأمضَّه، وبكاهم بكاءً مُرًّا بدموع، لا أعتقد أنها جفَّت أو سَتجِف.
بارك الله الوهاب في الطريق الذي سلكه ماجد، وأوصله إلى ذروة المجد والسمو والرفعة، وبُعد الصيت، بالصبر والإيمان وقوة العزيمة، والعمل الدائب الشريف.
قال الفلاسفة والحكماء، في كل عصر: «لكل مجتهد نصيب.»
واليوم أقول: ما أصدق قولهم هذا، وما أصلحه، في كل وقت وحين.