الزواج القاتل
كانت سعادة الأستاذ منصور، عارمةً يمكن أنْ تتحدث عنها ولا حرج؛ إذ كانت تفُوق كل وصف، عندما تقدَّم إليه إبراهيم يطلب منه يد ابنته «نجلاء»، التي يحبها من كل قلبه؛ لأنها وحيدته، ولم يكن ينتظر لها زوجًا خيرًا من إبراهيم فهو ابن خالتها، وأصله معروف، فضلًا عن أنه يتصف بالرجولة والشهامة والخُلق الحسن، ومركَزه مرموق بعد أنْ تخرَّج في كلية الحقوق، وشغل منصب «وكيل نيابة».
رغم كل السعادة التي أحسَّ بها الأستاذ منصور فإن نجلاء لم تشعر بأي حب نحو إبراهيم؛ فهي تعرفه منذ طفولتها كأخيها، ولكنها لا تميل إليه من الناحية العاطفية.
كانت نجلاء هذه فتاة على قدر غير قليل من الجمال الطبيعي. هي اسم على مُسمًّى؛ إذ كانت عيناها نجلاوين بحق وتمتاز بغمَّازتَين أسفل وجنتيها عندما تبتسم، وبذا كانت تجذب إليها الشُّبان الذين لا يمكنهم مقاومة هاتين الغمَّازتين، وكانت نجلاء تتحاشى الابتسام كي لا تظهر الغمَّازتين. ولكن، رغم هذا، كانت تبتسم عن غير قصد، فتأسِر قلوب ناظريها من الذكور، وتنال إعجاب الإناث. وعلاوة على ذلك كانت رشيقة القوام، متناسقة التقاطيع، بَضَّة الجسم، خفيفة الظل، ناعمة الشعر الذهبي الطويل، تجيد ارتداء ملابسها بصورة تدير نحوها رءوس المعجَبِين. لبقة الحديث لا يشبع جليسها من التمتع بكلامها الشيِّق في صوت موسيقي عذب.
رغم عدم ميل نجلاء عاطفيًّا إلى إبراهيم، فإنها لم تَشأ الخروج على طاعة أبيها ومخالَفة رأيه. ولم يدَّخر الأستاذ منصور شيئًا من ناحيته لإرضاء نجلاء فلبَّى جميع طلباتها وطلبات إبراهيم، وأنفق كل ما كان يدخره لهذا اليوم السعيد.
أقيم لنجلاء حفل زفاف، لم يشهد مثله شارع المنيرة في تاريخه الطويل، فصدحت الموسيقى بأحدث الألحان وأعذبها، ورقصت الراقصات على أنغام الآلات الوترية، وتفنَّن المُطرِبون في الغناء … واستمر حفل الزفاف مبهجًا ممتعًا، حتى طلوع الفجر … وتناول المَدعوون اللحوم والفطائر والحلويات، وشَربوا من أغلى أنواع المشروبات، ما شاء لهم أن يشربوا ويعبُّوا، وانصرف هؤلاء وهم معجَبون بالبذخ الواسع الذي أنفقه الأستاذ منصور في الاحتفال بزفاف ابنته نجلاء.
استراح بال الأستاذ منصور من عبء نجلاء الذي كان يؤرقه ليلًا، ويشغل باله نهارًا. كان يهمه أنْ تستقر ابنته العزيزة نجلاء في بيتها الدائم مع زوجها، خصوصًا وأنها ابنته الوحيدة من زوجته التي خطفها المَنون يوم أنْ وُلِدَت نجلاء، فحزن على موتها حزنًا بالغًا، وآلى على نفسه ألا يتزوج بعدها، مؤثِرًا أنْ يتفرَّغ لتربية ابنته نجلاء الحلوة، لا سيما وأنها تشبه أمها في ملامحها، وغمازتيها الجميلتين.
ما هي إلا أسابيع قليلة، حتى عادت نجلاء إلى بيت أبيها غاضبة من زوجها إبراهيم، الذي تطاول عليها بالسب والصفع والضرب، كما سَب أمها وأباها … كل هذا لأنها رفضت أنْ تستجيب لشذوذه الجنسي، فنفرت منه وأفهمته أنَّ ما رغب فيه مُحرَّم في جميع الأديان؛ ولذلك تركت له البيت كي لا يرغمها على ذلك الشذوذ قهرًا وبالقوة. وعادت إلى منزل أبيها تبكي بكاء الثَّكْلى بدموع غزيرة، وتندُب حظها العاثر، وتلوم نفسها على طاعة رغبة أبيها … إذ لم ترض أنْ توصف بالعقوق، تجاه أبيها الذي يحبها كل الحب، ويسعى إلى إسعادها بكافة الطرق.
اغتم منصور لعودة ابنته الوحيدة مكسورة الخاطر، لم تسعد في حياتها الزوجية منذ بدايتها. ولم تُفصِح نجلاء لأبيها بالسبب الحقيقي الذي دعاها إلى الرجوع إلى بيت أبيها ولما يمض على زواجها شهر كامل، بل أفهمَتْه بأن إبراهيم يُسيء معاملتها واعتدى عليها بالسب والضرب لأتفه الأسباب، وبغير أسباب؛ لذا لا يمكنها الاستمرار معه. إنها تزوَّجت لتسعد في حياتها، لا لتشقى وتذوق الضرب الذي لم تذقه من أبيها نفسه طول حياتها.
غير أنَّ إبراهيم خشي أنْ تبوح نجلاء لأبيها بما يتصف به زوجها من شذوذ تأباه كل الشرائع فيشمئز منه كل مَن عرف عنه هذه المَنْقَصة. فأسرع بالذهاب إلى بيت حميه، كي يصلح ذات البين بينه وبين عروسه، فعادت نجلاء إلى بيت الزوجية بعد أنْ أقسم لها إبراهيم بأغلظ الأيمان على أنه ما عاد يسيء معاملتها. ووعدها سرًّا، بأنه لن يطلب منها ذلك الطلب الشاذ، وأكد لها أنه يحبها كل الحب ولا يمكنه أنْ يعيش بدونها أو يستغني عنها بأية حال من الأحوال.
حملت نجلاء، ففرح إبراهيم بهذه البشرى السعيدة، كما فرح الأستاذ منصور؛ لأنه سيصبح جدًّا تقر عينه بحفيد؛ إذ كما يقولون: «أعز من الولد، ولد الولد.» وزادت عناية إبراهيم بزوجته الحامل، يعرضها على الأطباء الفَيْنة والفَيْنة لكي ينمو الجنين في رحم نجلاء بانتظام، وتنمو عظامه شديدة قوية، ولا يصيبه أي تشوهات. كما يقررون لها مقدار ونوع الأغذية اللازمة ليتغذى الجنين معها بما يحتاج إليه ولتكون الولادة طبيعية غير قيصرية. وهكذا سارت نجلاء مدة الحمل حسب إرشادات الأطباء.
كثيرًا ما سأل إبراهيم الأطباء عن نوع الجنين، هل سيكون ذكرًا أم أنثى؟ ليفكر على مهل في الاسم الذي يختاره له، ولكن الطب لم يتوصل حتى الآن إلى معرفة جنس الوليد قبل أنْ يولد ويرى النور، أما الأستاذ منصور، فكان يقول: الخيرة فيما اختاره الله خالقه وباريه.
جاء اليوم الذي شعرت فيه نجلاء بآلام المخاض، فنقلها إبراهيم إلى المستشفى حيث عملت لها الاستعدادات اللازمة للولادة البِكْرية، وهكذا وضعت نجلاء بنتًا في غاية الحلاوة والجمال، ورثِت ملامح والدتها وجدتها لأمها، فجاءت «سنيورة» أَسْمَتها «رانيا». فعمَّت الفرحة قلوب الجميع. وكان سرور الأستاذ إبراهيم بابنته رانيا يفوق الوصف، وكذلك كانت غبطة الجد منصور، الذي كان قد أعد للمولود الملابس والأغطية والمَهد واللعب ومساحيق الألبان اللازمة لتغذية الطفل إلى جانِب لبن الأم، وكل ما يمكن أنْ يفكر فيه المرء للمولود.
كان إبراهيم قد نذر لله، إنْ ولدت زوجته رضيعها، وقامت بالسلامة، أنْ يذبح عجلًا كبيرًا ويقدم لحمه للفقراء. وهكذا فعل وبَرَّ بنذره.
توافد الزائرون يباركون للأم الوالدة وللأب وللجد السعيدين … بيد أنَّ الفرحة لم تدم طويلًا. فبعد عشرة أيام من الولادة، أصيبت نجلاء بالحمَّى وارتفعت درجة حرارتها كثيرًا، وتعذَّر عليها أنْ ترضع الوليدة رانيا، فجاءوا لها بمرضعة سليمة الصحة كي لا تصاب رانيا بمرض.
أفصح الطبيب المعالِج عن حقيقة مرض نجلاء. إنه «حمى النفاس»، وصرح بأن نجلاء في طور الخطر. فنزل الخبر على إبراهيم ومنصور، نزول الصاعقة. وما هي إلا بضعة أيام، حتى ماتت نجلاء تارِكة وليدتها إلى مصيرها الغامض.
لم يحتمل الأستاذ منصور هذه الصدمة، فمات بعد ابنته بأيام قلائل، وهكذا تلاشت أسرة منصور على بكرة أبيها: الأب والأم والابنة، مات منصور حزنًا وكمدًا على ابنته الوحيدة نجلاء التي كان يجد فيها سَلْوَته، والتي من أجْلِها وأَجْل سعادتها لم يتزوج، مكتفيًا بنجلاء.
كان منصور هو السبب في زواج ابنته الوحيدة، قُرَّة عينه، كي يضمن لها الاستقرار، ويحقق لها السعادة والهناء، ولم يدرك أنه إنما كان يحفر قبرها بيديه، ولكن هذا قضاء العلي، ولا رادَّ لقضائه.