عندما يموت الحب
نشأ الحب العميق بين مُرسي وسعاد منذ الصغر … كان هذا الحب هو الأول لكل منهما؛ إذ لم يعرفا الحب قبل ذلك، بل نشأ في قلبيهما عندما بدأت العاطفة تتسرب إلى نفسيهما. وبذا صار حبًّا صادقًا أمينًا، تغلغلت جذوره في التربة البِكْر داخل قلبيهما النَّقِيَّين، وكما يقولون: «صادف قلبًا خاليًا فتمكنا.»
إذا ما التقت سعاد بمُرسي، خفَق قلبها، وشعرت بالسعادة تغمر جسمها كله من أعلاه إلى أسفله، وأحسَّت بأن الحياة تبتسم لها، وتبدو حلوة أمام ناظريها، بلا مشاكل ولا مَتاعب.
اعتقد مُرسي أنه قد فاز من الدنيا بأغلى مَن فيها بعد أنْ عرف قلبه الحب قبل الأوان. لا سيما وأن سعاد كانت فتاة مَليحة الوجه، جذابة الملامح، ذات حُسن وبهاء، إذا سارت في طريق، سار خلفها طابور من المعجَبِين بجمالها وسحرها … ولولا تشجيع سعاد مُرسِيًّا لما ذاق هذا الأخير طعم الحب اللذيذ النادر، الذي بادلته إياه سعاد. وكان أشد ما جذب اهتمام مرسي بسعاد، وغرس الحب في قلبه، لِحاظ عينيها الفاتنتين برموشها الطويلة السوداء.
مُرسي شابٌّ عِصامي، يكسب قوت يومه بعرق جبينه، عاملًا في مطبعة قريبة من بيت سعاد؛ لذا كان لقاؤهما يتم يوميًّا تقريبًا في الصباح الباكر، قبل أنْ يبدأ مرسي عمله، وفي المساء عقب انصرافه من المطبعة … وهكذا كان إحساسهما بالحب يزيد ويتوطد، يومًا بعد يوم.
اختفت سعاد مدة يومين لم يرها فيها مرسي، فانخلع قلبه شوقًا وهلعًا … ثم ظهرت لتخبره بأنها خُطبت لابن أحد أصدقاء والدها المقرَّبِين إليه. ورغم معارضتها لهذه الخطوبة، فقد أجبرها أبوها على قبولها، ضاربًا عُرض الحائط بما قدَّمَته من اعتراض وعراقيل. لم تستطع سعاد أنْ تصارح أباها بحبها مرسيًّا، حبًّا شديدًا جارفًا، خشية أنْ يمنعها لقاء مرسي أو مجرَّد الكلام معه.
بكت سعاد بدموع سخينة، كما بكى مرسي وانتحب. وأقسمت سعاد لمرسي، على أنها لن تتزوج زغلولًا الذي تمَّت خطبتها له بغير رضاها.
أفلحت سعاد في فسخ خطبتها إلى زغلول، فطاب الجو لسعاد ومرسي، من جديد. فزاد تعلُّق مرسي بحبيبته سعاد؛ لأنها آثرته على الذي كاد يتسلل إلى حياتها عن طريق أبيها.
غير أنَّ هذه الفترة السعيدة لم تطل، إذ ما لبثت سعاد أنْ خُطِبت لابن عمتها محمود؛ فعادت سحب الكآبة والغم تُخيِّم على سعاد ومرسي. وما زاد الطين بلة، أنَّ أباها كتَب كتابها رسميًّا على محمود، ومع ذلك استطاعت سعاد أنْ ترفض زفافها إلى محمود وانفصلت عنه. كل مرة تخطب سعاد، تعمل على فسخ الخطبة بشتى الأسباب والمعاذير، وبذا تُبرهِن بالدليل القاطع لمرسي على أنها لن تحب أحدًا سواه، وأن حبها إيَّاه صادِق ومن أعماق القلب. وتضاعف من يقينه بأنها تفضله على كل رجل آخر.
ظلت سعاد تُخطَب وتفسخ خطوبتها إلى أنْ بلغ عدد مَن خطبوها خمسة. حتى حار أبوها في أمرها، وأخيرًا أدرك بسليقته أنها لا بد على علاقة غرامية بشاب تؤثره على سائر الشبان، ولا تريد أنْ تتزوج غيره. فلما خطبها أشرف، أسرع أبوها بأن عقد عقدها الشرعي كما أسرع بزفافها إليه. وهكذا وقع «الفاس في الراس».
لم يكن الزفاف سرًّا، ولا في بلد بعيد، وإنما كان في بيت العريس، بنفس الحي الذي يقع فيه منزل والد سعاد، وتقع فيه المطبعة التي يعمل بها مرسي، وبذا عرف هذا الأخير كل شيء، فدارت به الدنيا، وتأكد أنَّ الحب بينه وبين سعاد، قد أصيب بالضربة القاضية. فمرض مرضًا شديدًا حتى وصل إلى حافة القبر، ولكن العناية الإلهية أنقذته من هذا المرض الخطير الذي كاد يودي بحياته، وكان مرضًا نفسيًّا أكثر منه عضويًّا.
عاد مرسي إلى عمله، فإذا بسعاد تنتظره عند باب المطبعة التي يعمل بها، وتبتدره بقولها: سلامتك يا مرسي. ألف سلامة. سمعت عن مرضك، وعن شفائك منه بعون الله وفضله، وأنك الآن بسلامة وعافية.
– كل هذا بسببك، يا سعاد.
– لم يكن زواجي برضاي، يا حبيبي الغالي، وإنما أُجبرت عليه إجبارًا ولم أجد فرارًا منه؛ إذ ضيَّق أبي الخناق عليَّ، حتى تم الزواج.
– هل أفهم من هذا، يا سعاد، أنكِ ما زلتِ تحبينني كسابق عهدنا معًا؟
– هو ذلك، يا عزيزي مرسي. ما زال حبك متغلغلًا في نفسي وقلبي وعقلي … أفكر فيك ليل نهار. وصورتك تمثل أمام عيني لا تبارحها … أريدك، يا مرسي، ولن أجد متعة مع أحد غيرك. أنا تربية يديك … أنت الذي علمتني فن الحب، وكيف يكون الحب، منذ الصغر … نشأت وكبرت على يديك، ونشأ حبي إيَّاك وتعمَّق على يديك أيضًا. أنت بالنسبة لي أغلى شيء في الدنيا، لا يهدأ لي بال، ولا يهنأ لي خاطر إلا إذا كنتُ بجواركَ يا مرسي، أنتَ الشاب الوحيد الذي أحبه وأهواه.
– إذن، فلماذا وافقتِ على أنْ يُكتَب كتابك على أشرف؟ وكيف قبلت الزفاف؟
– وهل عرفتَ اسمه؟
– الذي يسأل، يعرف كل شيء.
– لقد أجبروني على هذه الزيجة … ومع ذلك، فأنا على أتم استعداد لأنْ أهرب معك، ونعقد زواجنا في قسم الشرطة.
– هذا رأي لا يمكن تنفيذه؛ فأنتِ الآن على ذمة أشرف، ولا يمكن أنْ تتزوجي غيره، في قسم البوليس، ولا في أي مكان آخَر بالعالم كله، إلا إذا حصلتِ أولًا على الطلاق من أشرف، ثم تتربصين بنفسك بعد ذلك ثلاثة قروء، ربما تستغرق أكثر من ثلاثة أشهر … كل هذا قبل أنْ تستطيعي الزواج بأي شخص آخر.
– سأنكد عيشة أشرف، وأريه الشمس شمسين، والقمر قمرين، ولا أنيله مِنِّي وطرًا، فيضطر إلى أنْ يطلقني، وبذا أستطيع أنْ أتزوجك، يا حبيبي العزيز، مرسي.
– ولكنني لن أتزوجك، يا سعاد … أنا شاب بكر، لم أطلع على أية امرأة. إذن، فلا بد أنْ أتزوج فتاةً بكرًا عذراء، لا فتاة متزوجة، ليست «سكند هاند».
– إذًا، فخلِّصني من أشرف.
– كان هذا بودي، يا سعاد، ولكن لا تنسي أنني سبق أنْ خلَّصتك من محمود بعد أنْ فعل معك فعلته الشنعاء.
– وما لزوم العودة إلى سيرة محمود، الآن؟
– هل يمكنني أنْ أنسى محمودًا، وما أتاه معك، وأنتما في خلوة؟
– نعم، فعل محمود معي ما لا أحب، بعد أنْ أيقن من أنني لن أنيله غرضه مِنِّي. فأخذني إلى الشقة التي ستكون بيت الزوجية، وقدَّم لي شرابًا، ما إنْ شربته حتى غِبتُ عن وعيِي؛ فاعتدى عليَّ، وأزال بكارتي، فلما أفقْت من المخدِّر، أدركتُ ما حدث فصرخَتُ وولْوَلتُ، فقال إنه لا فائدة من الصراخ؛ إنه لم يفعل شيئًا محرمًا، بل هو حلال في حلال بصفته زوجي الشرعي، وسيعاشرني معاشرة الأزواج إنْ عاجلًا أو آجلًا، وعلى أية حال، عملت العملية وخِيط الغشاء الذي مزَّقه، وبذا أصلحتُ ما أفسده.
– إذن فاحمدي ربك إذ قَبِلَ أشرف أنْ يتزوجك، ولو علم أنكِ لست عذراء، لعدل عن زواجك.
– أفهم من هذا أنك تهددني، يا مرسي؟
– اطمئني تمامًا، فلن أبوح بسرِّك لأي شخص، وإنما أكتمه في نفسي، وأحاول أنْ أنساه كي لا تهتز صورتك في قلبي.
– ما حدث من محمود، حادث سيئ، تعرضتُ له، ولولا حرص والدتي على عدم الفضيحة، لأبلغَت البوليس ضده، وأدخلَتْه السجن.
– هذا مجرد وهم وخيال، يا سعاد … إذ كيف يدخل محمود السجن على أنه فض بكارتك، وهو زوجك الشرعي، ومن حقه أنْ يفعل ذلك الشيء في أي وقت يشاء.
– يفعله برضاي، وبحسب الشرع، وليس بإعطائي مخدرًا، وينال مِنِّي بُغْيَته وأنا لا أدري ولا أشعر، هنا الجريمة.
– على العموم، خليك مع زوجكِ أشرف، واعتبري علاقتي بك، كأن لم تكن.
– ما هذه النغمة الجديدة جدًّا، يا مرسي؟
– لا أريد أنْ أكون سببًا في طلاقكِ من أشرف، حتى لا يُشاع بين الناس، أنني السبب في هذا الطلاق، من أشرف زوجك الثاني، وسيذيع أمرك بين جميع الأوساط، ولن تجدي من يتزوجك بعد ذلك، وأنت «ثيرد هاند» كما قلتُ لكِ قبل ذلك. وبذا يضيع منك «عشاء البرين».
– لجأ محمود إلى الحيلة لينال غرضه مني، ولكنه خرج من «المولد بلا حمص»، وفقدتُ أنا أغلى ما كنتُ أعتز به.
– وفقدْتِني، أنا أيضًا … وكنتُ في يوم من الأيام أعز وأغلى من يسكن قلبكِ … سلام، والله معك.
وهكذا ترك مرسي سعاد، والدموع تنهمر مدرارًا على خديها، وضاع حبهما إلى الأبد.