مصطفى وولده
خرج مصطفى من داره صباحًا، مُبلبَل الفكر، مُضطرب الذهن، مشغول البال والخاطر، زائغ البصر لا يدري ماذا يفعل إذا أصيب ولدُه «مأمون» بحالة تَسمُّم من وجبة «كسكسي»، اشتراها من بائع مُتجوِّل أغراه بندائه يقول: «يا بو اللباس السندسي … قرب ودوق الكسكسي»، فأراد أنْ يذوق ذلك الصنف الذي لم يذقه قبل ذلك، فأُصيبَ بتَسمُّم من زنجار النحاس الذي طُبِخ فيه ذلك الكسكسي … فطلب له عربة الإسعاف التي نقلَتْه إلى المستشفى حيث عمل له الأطباء غسيل معدة وعالجوه، فظل مصطفى مسهدًا طول الليل حتى عاد مأمون في اليوم التالي وحالته أحسن. فاطمأن مصطفى بعض الشيء، على صحة ولده مأمون الذي هو أغلى من عنده في الدنيا بعد ابنته الكبرى «شويكار».
رغم اطمئنان العم مصطفى على صحة ولده مأمون كان لا يزال حزينًا جدًّا بسبب حالة ابنه المُعوَّق «منير»، والمتخلِّف عقليًّا. وكان منير هذا مصدر تعاسة الأسرة كلها، ولا سيما والدته التي كانت تحمل من أجله عبئًا فوق طاقتها … فكانت تصف ابنها هذا بأنه «عبيط»، حسب لغتها … لا يستطيع أنْ يُميِّز بين الخير والشر، ولا بين الصالح والضار … لذا يقتضي هذا الولد عناية خاصة، ليلًا ونهارًا؛ فربما أشعل النار في ملابسه وهو لا يدري، فيموت حرقًا، وربما قفز من النافذة فيموت مُهشَّم الجسم مكسور العظام. وربما شنق نفسه بالحبل الذي يلعب به مع أخيه الأصغر «علاء»، ومع أخته شويكار. وربما لعب في مفاتيح المصابيح الكهربية فيصعق نفسه … لا بد من مراقبته باستمرار خصوصًا بالليل لئلا ينهض من نومه ويخرج من البيت فتدهمه سيارة.
تحمَّلت «سناء» زوجة العم مصطفى هذا العناء المُضني رغم أنها حامِل في الشهر السابع، وقال الطبيب إنها حامل بتوْأَم، وسَتلِد طفلين؛ لذا يجب أنْ تستريح في الفراش وألا تبذل مجهودًا بدنيًّا كي لا تُجْهَض قبل إتمام شهور الحمل التسعة. فراح العم مصطفى يدعو الله أنْ تلد زوجته طفلًا واحدًا وليس اثنين، حتى لا يتضاعف عليه عبء النفقات. خصوصًا وأنه مريض بالذبحة الصدرية وبمرض السكر، ولا يستطيع أنْ يجمع بين عَمَلين لكسب المال اللازم للإنفاق على طفلين، فضلًا عن مُنير المُعوَّق وأخيه علاء، وأخته شويكار، وأمهم وجَدَّتهم، أسرة كبيرة مكونة من سبعة أفراد.
لذلك كانت مَتاعب العم مصطفى النفسية فوق ما يمكن للإنسان أنْ يتصور؛ فالعبء المادي عليه ثقيل ثقيل خصوصًا وهو مريض بالسكر ويحتاج إلى علاج خاص، وأطعمة خاصة وخبز خاص، وعقاقير باستمرار طول حياته لا تتوقف لتعوضه عن الإنسولين التي تفرزه جُزُر لانجرهام في البنكرياس. وهذا يقضي على جزء كبير من راتبه الذي يتقاضاه من عمله لدى الحاج حسين، كسائق سيارة لنقل البضائع بين القاهرة ومختلف مدن الجمهورية. ولولا حُسن معاملة الحاج حسين له وإكرامه إيَّاه، لما استطاع أنْ يتحمل الصدمات المتوالية التي يلقاها في تربية أولاده، ولا سيما ابنه المعوَّق منير، أو في مجابهة متطلبات مرضه.
حمد مصطفى الله كثيرًا على نجاة ابنه مأمون من حالة التسمم التي تعرَّض لها، وآلى على نفسه أنْ يصلي ركعتين في كل صلاة من الصلوات الخمس، زيادة على ما فرضه الخالق الوهاب. ولكنه لم ينس أيضًا ألمه الشديد بسبب ابنه منير المعوَّق، ولو أنه كان يضع في ذهنه فضل الله عليه؛ إذ عوضه بابنته شويكار، مولودته البكرية، التي شبَّت على حب أمها فتساعدها دائمًا في أعمال المطبخ لطهو الطعام وإعداد الوجبات وغسل الأواني والأطباق، علاوة على تنظيف البيت والأثاث، وغسل الملابس ورَتْقِها وإصلاح ما يتمزق منها أولًا بأول. وليس هذا كله بالعمل اليسير. وفضلًا عن مساعدتها والدتها، كانت تقضي وقتًا طويلًا في المساء لاستذكار دروسها وتأدية واجباتها المدرسية، وبذا كانت متفوقة دائمًا، وحصلت على الشهادة الابتدائية بامتياز، فكانت من العشرة الأوائل في المنطقة التعليمية التابعة لها.
بينما العم مصطفى عائد إلى بيته ظهرًا ليتناول وجبة الغداء مع أسرته، إذ سمع من بعيد صراخًا عاليًا آتيًا من شقته، فكاد يُصْعَق، وارتجفت رُكبتاه فما كان يستطيع أنْ يمشي إلا بجهد جهيد، يجر ساقيه جرًّا، حتى بلغ بيته وعرف أنَّ أمه ماتت. وكان مصطفى يحب أمه حبًّا جمًّا ويعمل باستمرار على إرضائها وكسب دعائها له، وهي تقيم معه بعد أنْ مات أبوه، وتزوَّجَت شقيقته، كما تزوَّج أخوه، واستقَلَّا في منزليهما بعيدًا عن دار العم مصطفى، ولم يجد بدًّا من أنْ تعيش أمه معه، حيث تفانَى في إكرامها بأكثر مما يفرِض عليه دِينه.
دَفن مصطفى أمه وواراها الثَّرى، وحزن عليها حزنًا شديدًا، كما حَزِنت عليها زوجته سناء؛ إذ كانت تؤنسها في وحدتها أثناء غياب زوجها في عمله، وأولادها في مدارسهم، وكانت تحبها وتكرمها كما لو كانت أمها. وكذلك حَزِن عليها أولاد العم مصطفى إذ كانت تحبهم وتعطف عليهم وتحكي لهم «الحواديت» في كل ليلة وهم يصغون إليها في شوق وإعجاب.
بعد انتهاء مراسم الدفن والجنازة، حَمِد مصطفى رَبَّه إذ ماتت أمه وهو على قيد الحياة، ودفنها بنفسه، وكذلك على أنَّ الله خلَّصها من عذابها وآلامها؛ إذ كانت مصابة بالشلل وتقوم سناء، زوجته الوفية، بخدمتها علاوة على أعمال بيتها وخدمة زوجها وأولادها … واعتبر أنَّ جزءًا من أعبائه قد خَف عن كاهله بأمر ربه. وانخرط من جديد في مضمار الحياة والعمل.
غير أنَّ القدر كان لمصطفى بالمرصاد؛ إذ خرج ولده المُعوَّق منير متسللًا من البيت دون علم أمه، وذهب مع بعض أولاد الجيران، الذين اعتاد أنْ يلعب معهم في الشارع أمام منزله … كان أولئك الأصحاب في طريقهم إلى النزهة على كورنيش النيل.
لمَّا وصل الأولاد إلى شاطئ النيل، عَنَّ لهم أنْ يسبحوا في هذا النهر العظيم العذب، ترويحًا للنفس، فحاول منير أنْ يجاريهم ويسبح معهم، ولكنهم منعوه وحذَّروه سوء العاقبة؛ لأنه لا يعرف السباحة، خصوصًا وأن السباحة في ماء النيل أصعب من السباحة في البحر المتوسط؛ لأن كثافة مياه البحر أعلى من كثافة مياه النيل، لما يحتويه ماء البحر من أملاح معدنية كثيرة.
ما إن ابتعد الأولاد عن الشاطئ وبلغوا وسط النهر، حتى صمَّم منير على أنْ يحاكيهم ويسبح في النيل مثلهم، فخلع ملابسه وألقى بنفسه في اليم، وما هي إلا لحظات حتى غطس منير في الماء إلى القاع ولم يظهر بعدها إطلاقًا … لقد غرق منير قريبًا من الشاطئ … غرق في شِبر ماء، كما يقولون، فانتشل البوليس النهري جثته، وطيَّر الخبر إلى أبيه العم مصطفى.
دفن مصطفى ابنه منيرًا، وحزن عليه حزنًا ممضًّا، وانطوى على نفسه عدة أيام يجتر أحزانه هو وزوجته، لموت ابنهما المسكين المُعوَّق. ولكنه تحلَّى بالصبر، ورضخ إلى إرادة ربه خالق السموات والأرض وما عليها … ولو علمتم الغيب لاخترتم الواقع، وقضاء أخف من قضاء. ربما أتته مصيبة أفدح من هذه، وربما تعذَّب هذا الغلام بعد موت أبيه وأمه دون وجود من يرعاه.
كان عزاء العم مصطفى، أنَّ ابنته شويكار قد أوشكت على الانتهاء من دراستها الثانوية، وأنها صارت فتاة جميلة جذَّابة المنظر معتدلة القوام، تُسَر لرؤيتها العيون. وعلاوة على ما وهبها الذي خلق فسوَّى، من فتنة وملاحة، كانت مطيعة لوالديها، مؤدَّبة ورقيقة، وتؤدي الصلاة والصيام بانتظام، وتعرف كل شيء في إدارة المنزل إدارة تامة، كذلك كان علاء، الابن الأصغر لمصطفى متقدِّمًا في حياته المدرسية، ويشهد له جميع أساتذته وأترابه بحسن الخلق والسلوك الحميد، والأدب الجم، والتواضع ومحبته زملاءه ومساعدتهم بكل ما يملك من وسائل.
ما إنْ حصلت شويكار على الشهادة الثانوية حتى عمَّ الفرح قلب أبيها وأمها، ونَسِيا مصابهما في موت منير … وتضاعَف هذا الفرح عندما تقدَّم المدرس الذي كان يعطيها الدروس الخصوصية، يطلب يدها من أبيها العم مصطفى. فوافق الأب كما وافقت الأم على الفور؛ إذ كانا يعرفان أخلاق ذلك المدرس.
هكذا سُمِعت الزغاريد، لأول مرة، في دار العم مصطفى المتواضعة. وبعد بضعة أشهر، عُقِدَ عَقْدُ الزواج، وزُفَّت شويكار إلى الأستاذ جلال، وذهبت لتعيش معه في بيت أسرته مع حميها وحماتها اللذين أحبَّاها واعتبراها ابنتهما؛ إذ لم يرزقهما الله سوى جلال.
اشتدَّت العلة بالعم مصطفى ونال منه مرض السكر، وظهرت مضاعفاته التي أسفَرَت عن إصابته بالعمى بسبب الضغط العالي للدم، ففقد مصطفى نور عينيه كلتيهما، لإهماله صحته وعجزه عن استشارة الأطباء وشراء الدواء.
عاد الهم والغم يعتصران الأسرة الصغيرة، وبكَت سناء وعلاء، كما بكى مأمون وشويكار، واستسلموا جميعًا إلى قضاء الله وإرادته، ولا رادَّ لقضاء الله.
كان مأمون يعمل في بلدة بعيدة، حيث يعيش مع زوجته. فلما رأى ما أصاب أباه مصطفى، وأقعده في عقر داره عاجزًا عن القيام بأي عمل يدر عليه ربحًا ينفق منه، آلى على نفسه أنْ يرسل إلى أبيه هذا ربع مرتبه في أول كل شهر، كما تكرَّم الأستاذ جلال بأن خصص لحميه مبلغًا شهريًّا يساعده على الحياة، أما علاء، أصغر الأبناء، فلم يجد بدًّا من أنْ ينقطع عن الدراسة، ويعمل ليعول أباه وأمه، بعد أنْ أَجبَر العمى والده على البقاء في البيت بدون عمل. وهكذا ذهب علاء إلى الحاج حسين ليساعده في إيجاد عمل له لديه أو لدى أحد معارفه.
رحَّب الحاج حسين بعلاء، وتحدَّث إليه ببعض كلمات تُذهِب عنه ألمه لِما أصاب أباه مصطفى، وألحقه بالعمل محل أبيه وبنفس مُرتَّبه. فشكره علاء على هذا الجميل والوفاء لوالده الضرير.
ما هي إلا سنوات حتى مات العم مصطفى بالذبحة الصدرية، وذهب إلى مثواه الأخير بعد أنْ قام بواجبه نحو أسرته خير قيام … فلم يترك علاء أمه، وإنما بقي معها يواسيها ويعزيها. وكان يود ألا يتزوج كي يتفرَّغ للإنفاق على أمه وتلبية طلباتها واحتياجاتها. ولكنه وجد أنَّ أمه سيدة عجوز، لا تستطيع القيام بخدمة البيت وإعداد الطعام وغسل الملابس وما إلى ذلك. فاضطر إلى أنْ يتزوج كي تقوم زوجته بخدمته وخدمة أمه العجوز، حتى تُقابل الرفيق الأعلى
وهكذا تزوَّج علاء ابنة خالته، وكانت فتاة متوسطة الجمال، لكنها على خلق كريم ومتدينة فعاشت معه ومع خالتها، تخدمها عن طيب خاطر وبإخلاص. لا سيما وأن أمها، خالة علاء، كانت توصي ابنتها دائمًا، بالعناية بحماتها وخدمتها.
أنجبتْ زوجة علاء ذكرًا وأنثى توأمَين، سماهما باسم أخيه مُنير، وأخته شويكار، وظل بارًّا بوالدته حتى دفنها بنفسه.