الانسحاب التام
انحدَرَت سميرة من أُسرة مُتحابَّة يحب كل واحد فيها الآخر، ويساعده بكل ما لديه من حَوْل وطَوْل ويضحي ببعض مصالحه الخاصة من أجل إسعاد أخيه. فهذه سميرة الطالبة بالمرحلة الثانوية، اجتهدَت بمجهودها الذاتي حتى حصلت على شهادة التوجيهية. ولكنها لم ترغب في مواصلة الدراسة بالجامعة، كي تفسح المجال لأختها زينب لتتم دراستها بكلية الحقوق، ورضِيَت بالبقاء في البيت تخدم الأسرة وتوفر لهم أسباب الراحة، وكانت هذه الأسرة المتحابة تعيش على مُرتَّب الأخ الأكبر من عمله كمحاسب بأحد بنوك القاهرة، وما يكسبه من عمل ليلي آخر، يُمسِك حسابات مَتجَر كبير قريب من البنك الذي يعمل فيه.
قدَّمَت سميرة هذا التنازل كخدمة تبرَّعَت بها لتتمكن أختها من مواصلة الدراسة بالجامعة إلى أنْ تحصل على الليسانس الذي يؤهلها للعمل في وظيفة مُحترَمة تكسب منها ما يساعد الأسرة على الحياة، خصوصًا وأن أخاها الأكبر قد ارتبط بفتاة من أسرة عريقة، وخطبها تمهيدًا لأنْ يتزوجها، وعندئذ سيترك الأسرة ليعيش مع زوجته، فتنقطع مساعدتُه أُمَّه وأخواته، فيُحكَم عليهن بالموت جوعًا؛ إذ ليس لهن عائل سواه.
نجحَت زينب بتفوُّق في كلية الحقوق، وحصلت على الليسانس، وأخذت تسعى هنا وهناك وحفِيَت قدماها في البحث عن عمل تَرتزِق منه ويَكفُل الحياة لأسرتها. وأخيرًا كلَّل الله المُتحنِّن الرحيم مَسعاها بالنجاح، فالتحقَت بوظيفة في قسم الشئون القانونية بالبنك الذي يعمل فيه أخوها.
لمَّا وجدَت سميرة أنَّ زينب تعمل وتكسب، فكَّرَت في العودة إلى الدراسة مرة أخرى. غير أنه كان لا بد لها من أنْ تحصل على شهادة التوجيهية مرة أخرى، كما تقضي بذلك قوانين الجامعات حتى يمكنها الالتحاق بأية كلية توصلها إلى أنْ تصبح مثل أختها زينب، خريجة جامعية، وبذا يمكنها الإسهام في أعباء نفقات الأسرة المُتحابَّة المكافحة، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
شجَّع الأخ الأكبر سميرة، كما شجَّعتها أختها على المُضِي قدمًا فيما اعتزمَت عليه من العودة إلى التعلم لتلتحق بالجامعة؛ إيمانًا منهما بأن سميرة تستحق كل خير لما قدَّمَته من تضحية بعد حصولها على الشهادة التوجيهية، مؤْثِرة أنْ تتمكن أختها زينب من إكمال دراستها الجامعية.
كانت أختهم سميحة تعمل بإحدى الشركات بمرتَّب لا بأس به، وبذا تمُد يد العون للأسرة. وذات يوم تقدَّم لخطبتها وطلب يدها، زميل لها بالشركة التي تعمل بها، توطئة لأنْ يتزوجها؛ ففرح أفراد هذه الأسرة وسعدوا، ولم يبق من شيء لاكتمال سعادتهم، إلا أنْ تلتحق سميرة بكلية ما، كي تغدو خريجة جامعية.
مضى على بقاء سميرة في البيت سَنتان بعد حصولها على الشهادة الثانوية العامة فنَسِيت كثيرًا مما تعلمته، وكلنا نعلم أنَّ «آفة العلم النسيان.» وبذا احتاجت إلى أنْ تلجأ إلى المُدرِّسين الخصوصيين يشرحون لها ما نسيته إلى أنْ تستوعبه.
أحضرت سميرة مدرِّسِين خُصوصيِّين، في كل المواد تقريبًا، ما عدا اللغة الإنجليزية التي يتعذر عليها العثور على مدرس كفء في تلك اللغة التي قد نَسِيت كل شيء عنها، وما عادت تستطيع تركيب جملة صحيحة من ناحية القواعد الإنجليزية، أما بقية المواد، فكلها باللغة العربية التي تفهمها وتجيدها، وبذلك يمكنها التغلب على تلك المواد وفَهْمِها وحفظها في سهولة ويسر.
تبرَّعت إيمان، جارة سميرة في الحي الذي تقيم فيه، بأن تساعد صديقتها سميرة في تحقيق هدفها الذي تصبو إليه، لا سيما وأن إيمان نفسها سبق لها الرسوب في التوجيهية ثلاث مرات، حتى فقدت الأمل في الحصول عليها. فلما وجدت في سميرة الإصرار والعزيمة على الرجوع إلى الدراسة، انتهزت هذه الفرصة، وتركَت أمها العجوز، لتقيم بصفة دائمة مع سميرة، وتستذكر معها الدروس. وبذا تساعد كل منهما الأخرى في فَهْم ما نسيته، كما تشترك معها في دفع أتعاب المدرِّسِين الخصوصيين.
رحَّبَت والدة سميرة بوجود إيمان مع ابنتها، كي تُحمِّسها وتُخفِّف عنها أعباء نفقات الدروس الخصوصية … وإمعانًا في التغلب على جميع العقبات التي تقف في طريقهما، التحقتا بمدرسة مسائية لحضور المواد التي لا تَتلقَّيان فيها دروسًا خصوصية.
أحضرَت إيمان لسميرة مدرسًا قديرًا للغة الإنجليزية يمتاز بالمهارة الفائقة في هذه اللغة، وبالأمانة في تلقينها؛ عرفته إذ كان يدرِّس صديقتها هناء، فنجحَت هذه على يديه من أول امتحان وحصلَت على الدرجة النهائية تقريبًا، في الإنجليزية، وبذا ارتفع مجموع درجاتها ودخلَت كلية مرموقة.
تحوَّل بيت سميرة إلى مدرسة خاصة … هذا المدرِّس داخِل، وذاك خارِج، وصينية القهوة في حركة دائبة، ذهابًا وإيابًا إلى حجرة الدرس؛ إذ يطلب بعض المدرسين القهوة بنفسه مرتين في الحصة الواحدة، ومنهم من يطلب الشاي … وهكذا راحت الفتاتان تبذلان أقصى جهودهما في الاستذكار والاستيعاب وتَسهران كل يوم إلى ما بعد منتصف الليل تستذكران وتشجع كل منهما الأخرى.
لاحظت إيمان، أنَّ سميرة مُعجَبة بمدرس اللغة الإنجليزية الذي استطاع أنْ يعيد الثقة إلى نفسها وقلبها، كما أنها اهتمَّت بهذه المادة كل الاهتمام لخوفها الشديد من عواقب الإهمال، أو التهاون، أو الاسترخاء في دراسة هذه اللغة الأجنبية التي تعلم يقينًا أنها ضعيفة فيها، ولا بد لها من بذل أقصى جهدها في استعادة ما نَسيَته من مقرَّرات وقواعد ومصطلحات هذه اللغة.
دبَّت الغيرة في نفس إيمان، ولامَت نفسها على إحضار هذا المدرِّس الماهر، وغاظَها إعجاب سميرة به، فربما نشأَت بينهما علاقة حب تتطور إلى خطوبة وزواج … فعوَّلت إيمان على أنْ تفعل شيئًا تهدم به ما بنته بنفسها، وتُحبِط آمال صديقتها سميرة التي غدَت منافستها الآن في كل ناحية. فانتهزت فرصة اندماجها الشديد في حياة سميرة، وثِقة هذه الأخيرة بها؛ إذ كانت تأكل معها، وتنامان سويًّا على سرير واحد … فأفهمَتْها ذات ليلة عندما ذهبتَا إلى الفِراش، أنها كانت على علاقة عاطفية بأستاذ اللغة الإنجليزية هذا، وأن هذه العلاقة ما زالت قائمة بينهما، رغم أنه حاول مرة أنْ يعتدي عليها، ولكنها صدَّتْه بقوة وقاومَتْه بكل عنف، فصدَّقَتها سميرة.
لم تكتفِ إيمان بهذه القصة المُختلَقة، وهذا التشهير والتشنيع المَقِيتَين بسمعة ذلك الأستاذ البريء، فاتصلَت تليفونيًّا به، وقالت له إنها لا تستطيع مواصلة الدرس؛ لأن أخلاق سميرة لا تعجبها؛ إذ اكتشفت أنها على علاقة آثمة بمحامٍ صديق أخيها، يأتي لزيارتها في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ولا يصحُّ أنْ يحدث هذا مع فتاة لا تزال طالبة بالمرحلة الثانوية.
تكَهْرَب الجو، وتخلَّف الأستاذ عن حضور حصة اللغة الإنجليزية، وطال انتظار الصَّديقَتَين إيَّاه، دون جدوى … فاتَّصلَت به سميرة هاتفيًّا، تسأله عن سبب انقطاعه. فأخبرها بكل ما قالته له إيمان، ولم يترك منه شيئًا، وبعزم إيمان على التوقف عن مواصلة الدرس، لما لمَستْه من اعوجاج في سلوك سميرة، وخافَت على سُمْعَتها هي نفسها أنْ تلوكها الألسن.
جُنَّ جنون سميرة واغتاظت لما بدَر من إيمان التي تتظاهر بصداقتها، ونفَتْ عن نفسها كل ما سمعته من ذلك الأستاذ، ثم أخبرته بما قالته إيمان عنه وعن محاولته الدَّنِيئة، وعن علاقتها العاطفية به منذ زمن بعيد؛ لذا أحضرته لإعطاء الدرس كي تلتَقِي به وتُسِر إليه بما تريده، عندما تذهب سميرة لإحضار كتاب أو غيره … فكذَّب الأستاذ كل هذه الادعاءات الباطلة، ونفى عن نفسه أية علاقة بهذه الدسَّاسة المجرِمة، وبذا عوَّلت على الانتقام، بشدة من إيمان، وإن كيدهن عظيم.
ما هي إلا أيام قلائل، حتى استدعى البوليس إيمان إلى القسم، للتحقيق معها. فلما مثلت أمام الضابط المُحقِّق، أخبرها بأن سميرة تتهمها بسرقة زوج من الأساور الذهبية المُرصَّعة بالجواهر، وقِرطين ثَمينَين من الذهب، تبلغ قيمة ما سرَقَته ألفي جنيه، وذلك أثناء إقامتها معها في منزلها.
وُضِعَت إيمان في السجن بقسم البوليس، وسط السارقات والمجرمات، فضلًا عما لَقِيَته من الضرب المبرح لكي تعترف … وهكذا حُجِزَت بالسجن مدة ليلتين ذاقَت فيهما العذاب، إلى أنْ توسَّل أهل إيمان إلى سَميرة بأن تنقذ صديقتها القديمة، فذهبت معهم إلى قسم البوليس، وأبدت رغبتها في التنازل عن بلاغها، بناءً على رجاء أهل إيمان، وإكرامًا لخاطر صداقتها السابقة، فحُفِظ التحقيق، وخرجت إيمان من السجن. وعادت تستذكر دروسها مع سميرة من جديد، بعد أن اعترفت لها بذنبها، وكذَّبت ما قالته عن المدرس وعنها، ونَسبت كل هذا إلى الإرهاق الشديد الذي أصاب جسمها وعقلها من جراء الاستذكار وكثرة السهر.
بعد أسابيع، حدَث ما لم يكن في الحسبان: غَضِبت سميرة من إيمان مرة أخرى، ولكن غضبتها في هذه المرة، كانت غضبة مضرية، تهتك حجاب السماء إلى أنْ تقطر دمًا … فبينما كانت سميرة نائمة مع إيمان في سرير واحد، استيقظَت على أصوات عاطفية ففتحت عينيها، فإذا بها ترى أخاها يَحتضِن إيمان فقفَزَت من الفِراش مذعورة، وأحضرَت عصا من الخيزران، بسرعة. وانهالت بها على الفاسِقَين كليهما بكل ما أُوتِيَت من قوة.
ما كان من الأخ إلا أنْ نهض بسرعة وهرَب إلى حجرته، كأن شيئًا لم يحدث … أما إيمان فنالت أكثر الضرب وظلَّت آثار العصا على فَخِذيها وساقيها مدة طويلة بعد ذلك، ولكنها لم تستطع الشكوى لأي إنسان أو البوح بما حدَث لأقرب المُقرَّبِين إليها، وإلا اتَّهمَت نفسها وانطبق عليها المثل: «جحا اشتكى روحه.»
هكذا انفصلَت الصديقتان، وقرر مدرس اللغة الإنجليزية أنْ يُلغِي هذا الدرس اللَّعين، رغم أنَّ سميرة حاولتْ أنْ يكون الدرس لها وحْدَها، كما عرضت عليه إيمان نفس الشيء … ولكن هذا المدرِّس وجد أنَّ الرائحة فاحَت، وتعقَّدَت الأمور بما يُوجِب الشك فيه وفي علاقته بهاتين الفتاتين التي فسقَت إحداهما علنًا … فأراد أنْ ينفذ بجلده لخطورة الموقف وصلته به، وما قد يترتب عليه من اتهامات، لا سيما وهو رجل أعزب، وآثر الانسحاب التام. وهكذا فعل.