كرامة المرأة الفاضِلة فوق كل اعتبار
نِهاد طالبة جامعية بإحدى الكليات النظرية، تمتاز عن مُعظَم طالبات الجامعات في كونها لا تفكر في الحب ولا تميل إلى مُصادَقة زملائها الطلبة الذكور. كانت مثال الاستقامة، من البيت إلى الكلية، ومن الكلية إلى البيت حيث تُساعِد أمها في أعمال المنزل ثم تستذكر دروسها. إذا جلسَتْ في الكافيتريا إبَّان الفترات بين المحاضَرات، لا تراها إلا وحْدَها تقرأ كتابًا أو تدوِّن بعض المذكِّرات عن المحاضَرة السابقة.
وعصام طالب بكلية الطب، في السنة النهائية. لاحَظ نِهاد وهي تخرج من كليتها متوجِّهة إلى بيتها، لا تنظر يَمنةً ولا يَسرة؛ فأحبها من أعماق قلبه دون أنْ يعرف عنها شيئًا. وكان له صديق زميل لنهاد بكليتها، فكلَّفه بمراقبتها وإعطائه تقريرًا مفصَّلًا عنها، فجاء التقرير على نحو ما ذكرنا عن سلوك نهاد.
وذات يوم أراد عصام، بعد أنْ تخرَّج طبيبًا وأمضى فترتي الامتياز والتكليف، أراد أنْ يتعرَّف بنهاد فلم يستطع أنْ يحظى منها بكلمة واحدة، ولما ضاقت به الحيلة، تعقَّبها من مسافة، وهي لا تدري، حتى أبصرها تدخل دارها، فذهب إلى بواب العمارة وسأله عنها، فأخبره بأنها ابنة موظَّف كبير في الدولة، وذكر له رقم شقتها واسم والدها، وبذا عرَف رقم تليفونها.
اتصل الدكتور عصام بوالد نهاد تليفونيًّا، وعرَّفه بنفسه وبرغبته في زيارته بمنزله لأمر هام، فوجد التَّرحيب من والد نهاد، وحدَّد موعدًا للزيارة.
التقى عصام بوالد هذه الفتاة المستقيمة، وعرَّفه تفصيليًّا بمركزه وبمركز أُسرَته وبأنه إنما جاء ليطلب يد ابنته التي لا يعرف اسمها.
طلب والد نهاد من عصام أنْ يمهله أسبوعًا ليتشاور في هذا الأمر البالغ الأهمية، مع زوجته ومع ابنته، وأن يعود لزيارته في مثل هذا اليوم من الأسبوع التالي في نفس الميعاد.
كُلَّما سأل والد نهاد أي واحد ممن لهم احتكاك ومعرفة بالدكتور عصام، جاء الثناء عاطرًا على خُلق عصام، وعلى عَراقة أُسرته ومَحْتِده. فهو من أُسرة مُوسِرة شريفة متديِّنة، يلهج الجميع بمدحها. فلما عاد الدكتور عصام إلى والد نهاد، لقي الترحيب والموافَقة … وبعد الإجراءات التي لا بد منها، تزوَّج الدكتور عصام، نهاد في حفل عائلي بسيط … وكانت نهاد قد تخرَّجت في كليتها وأرادت أنْ تعمل، فرفض الدكتور عصام السماح لها بالعمل، لكي تهتم بشئون بيتها وبتربية أولادها إنْ رزقهما الله أولادًا.
عاشت نهاد سعيدة مع زوجها الطبيب، غير أنَّ حياتهما كانت مضطربة من الناحية المالية في السَّنتَين الأولَيَيْن؛ إذ كانت عيادته لا تُدِر عليه دخلًا، رغم أنه خفَّض الكشف على المرضى بما يتَّفِق ومستوى الحي الشعبي الذي به العيادة … وفضلًا عن هذا، كان عليه أنْ يدفع شهريًّا أَجْر الممرِّض والخادم، والنور وإيجار العيادة … ولذا أراد أنْ يعمل في إحدى الدول الشقيقة عساه يحظى بدخْل يقوم بجميع نفقاته ويدخر منه جزءًا للمستقبل.
وأخيرًا، اطمأنَّت نهاد؛ لأن زوجها عَثر على ضالَّته المنشودة؛ إذ وجد عملًا في إحدى الدول العربية، ولكن ما لبثت فرحتها أنْ تلاشَت لقيام بعض العراقيل، فاضطر الدكتور عصام إلى أنْ يبيع عيادته بمحتوياتها، ويعمل مع والده في المَطبعة التي يمتلكها ذلك الوالد، لكي يستطيع أنْ يَعول زوجته ومولودها عبد العزيز، رغم الشهادة الجامعية المحترَمة التي كان قد بذل الجهد والعرق، وسهر الليالي، حتى حصل عليها بامتياز، ثم أضاف إليها شهادة الماجستير في طب «الأنف والأذن والحنجرة».
حَزَّ في نفس والِد عصام، الألم الشديد؛ إذ رأى ابنه الطبيب يعمل في تجليد الكتب، ومراجعة «البروفات»، تاركًا علمه ودراسته وما أَعدَّ نفسه له من مستقبَل باهر … ولام نفسه على أنه أسرع بتزويج ولده بمجرَّد أن انتهى من دراسته الجامعية قبل أنْ يُكوِّن نفسه ويستقر ماليًّا. ولكنه عاد فقال في نفسه: إنَّ الخيرة فيما اختاره الله؛ إذ لو بقي بغير زواج، فربما عرف طريق الفساد والغواية، وبذا يشذ عن خُلق أسرته المتمسكة بالفروض الدينية؛ لذا قرَّر لولده الطبيب مرتَّبًا كافيًا لنفقاته ونفقات أُسرته نظير مساعدته في أعمال المطبعة.
حَبَا الله سبحانه وتعالى، الدكتور عصام بزوجة صالحة تقية طيبة، ذات خلق سامٍ. فلم تَشكُ يومًا واحدًا شَظَف العيش، ولا مما هي فيه من عَنَت الحياة، بل كانت تبذل قصارى جهدها في أنْ تستقبل زوجها وهو عائد من الخارج، هاشَّة باشَّة، على ثَغْرها ابتسامة حلوة تنسيه كل ما هو فيه من هموم. كما كانت ابتسامة عبد العزيز تفعل دورها في نفس أبيه، فينسى مَتاعب حياته، ومع ذلك، كان يشكر ربه باستمرار على هذه الحياة.
جاء اليوم الذي لاح فيه أنَّ القدر بدأ يبتسم للدكتور عصام؛ إذ شاءت المقادير أنْ يتعرف برجل سعودي ثَرِي، صاحب مستوصف خاص بالمملكة العربية السعودية، يضم جميع أقسام الطب للأمراض الباطنية، وأمراض القلب، والعيون، والأسنان والجراحة، وأمراض العظام، والأذن والأنف والحنجرة، وأمراض النساء والتوليد، والأمراض الجلدية والتناسلية، وغير ذلك من شتَّى فروع الطب، وكذلك مختلف أنواع التحاليل والكشف بالأشعة وكل ما يمكن أنْ يضمه الطب … فتعاقَد معه الدكتور عصام بمرتَّب كبير جدًّا، على أنْ يسافر إلى الرياض في بحر أسبوع، تاركًا زوجته نِهاد، وابنه عبد العزيز، إلى أنْ يُدبِّر أموره في السعودية فيستدعيهما.
ملأتِ الفرحة قلب نهاد، وشكرَتْ خالِقَها المُنعِم. وهكذا رحل الدكتور عصام وهو يُودِّع زوجته الصَّالِحة، وابنه الصغير، بالقُبُلات والأحضان وهي تدعو له بالتوفيق، وطلبَت منه ألا يقطع عنها رسائله ويُعلِمها بأخباره أولًا بأول، بالمحادَثات التليفونية اليومية، إنْ أمكن ذلك.
سافر الدكتور عصام على بركة الله، واطمأنَّت زوجته إلى ما انتهى إليه من عمل، ومن مُرتَّب كبير ما كان ليحلم به إلا بمعجزة، وقد حدثَت المعجزة أخيرًا، بفضل الله الرزَّاق.
مضى عام كامل على الدكتور عصام في عمله الجديد بالمملكة العربية السعودية … كان في شهوره الأُولى، يرسل الخطابات بانتظام إلى زوجته، ويتصل بها تليفونيًّا كلما سَنحَت له الظروف … إلا أنه في الشهور الأخيرة، كاد يقطع عنها خطاباته وأخباره؛ فحارَت نهاد، وساورتها شتى الظنون والمخاوف، وبدأت الشكوك تتلاعبُ في عقلها الباطن: تُرَى هل عصام مريض؟ … هل هو مشغول؟ … هل هو في طريق العودة إليها وإلى ولده عبد العزيز، كي يفاجئها بعودته وقد امتلأ جيبه بالدولارات، ويحمل إليها وإلى ابنه أنفس الهدايا؟ … هل … هل.
زاد الأمر على حد المعقول. وكل ما زاد على حَدِّه انقلب إلى ضده، فلعب الفأر في عب نهاد فأصرَّت على أنْ تسافر مع ولدها إلى زوجها، ولا شك في أنَّ شوق الدكتور عصام إلى لقائهما سيكون قويًّا … فأرسلَتْ إليه برقِيَّة أنْ ينتظرها في مطار الرياض في موعد حدَّدتْه.
سافرتِ الزوجة إلى السعودية، وقلبُها يكاد يطير من شدة الفرح؛ إذ ستلتقي أخيرًا بزوجها الحبيب بعد أن انقطعت عنها أخباره مدة طويلة.
توقَّعَت نهاد أنْ يستقبلها الدكتور عصام بالعناق والقُبلات وبأحسن ما يكون عليه الترحيب. ولكن … حدث العكس … قابَلها بفتور كأنها امرأة غريبة لا يعرفها ولم يعاشرها، وبدلًا من أنْ يصحبها هي وولده إلى بيته الذي يقيم فيه، أصرَّ على أنْ تنزل بأحد فنادق المدينة، بعيدًا عن مسكنِه الرسمي … ولم تَفهَم نهاد السر الكامن وراء هذا التصرف الغريب الشاذ … ولكنها تريَّثَت وتذرَّعَت بالصبر؛ أملًا في أنْ تعرف كل شيء فيما بعد.
ما هي إلا عَشِيَّة وضحاها، حتى جاءها من يخبرها بأن الدكتور عصامًا تزوَّج ممرضة أمريكية، بالمستوصف الذي يعمل به، وكانت فتاةً لعوبًا عرفَت كيف تلعب بعواطفه وتجذبه إليها … فأحبَّها بدوره؛ إذ كانت على قدر كبير من الجمال والفتنة، ولأنه كان يأمل في أنْ تَجِدَ له عملًا بأمريكا، أفضل من عمله بالسعودية، فيعيشَا هناك سعيدَيْن.
نزل هذا الخبر على نهاد نزول الصاعقة، فأصرَّت على الطلاق الفوري، وتشبَّثَت بمطلبها رغم محاولة الدكتور عصام أنْ يثنيها عنه بكافة الطُّرق والوسائل؛ رفقًا بابنه عبد العزيز، إلا أنَّ هذه الأم المصرية الفاضلة أَبَت أنْ تُطعَن في كرامتها التي تُفضِّلها على أي شيء آخر، وأصرَّت على الطلاق.
عادت نهاد إلى مصر، مُطلَّقة، ومعها صغيرها عبد العزيز، عادت إلى بيت أبيها، وطوت نفسها على أحزانها، وعوَّلت على أنْ تتفرغ لتربية ولدها الوحيد، وعلى ألا تتزوج طول حياتها بعد تجربتها الأولى … وأي تجربة!