وردة بلا أشواك
سامية فتاة آية في الجمال، وهَبَها الخلَّاق العظيم قوامًا ممشوقًا جذابًا، ووجهًا في استدارة القمر. كان كل ما فيها مليحًا؛ ولذلك راح الرجال يَتكالَبون عليها، كلٌّ يريدها زوجةً له؛ لما تمتاز به من حُسْن ساحر، وينطبق عليها ما قاله الشاعر الولهان:
بيد أنَّ سامية، الغادة الحسناء هذه، كانت من نصيب الدكتور مهران؛ إذ وجدت فيه بغيتها من شبابٍ وصحة ومركز، فزُفَّت إليه واستقرت في بيتها وكرَّست حياتها لإسعاده، وأشرَفَت على راحته بكل ما أُوتِيَت من طاقة … صحيح، أنها لم تتزوج الدكتور مهران إلا بعد أنْ تأكَّدت من حُبِّه الشديد لها، ومن أنها أحبَّتْه من أعماق قلبها، فحسدَتْها بناتُ جلدتها على حظها الرائع؛ إذ كان الدكتور مهران من أُسرة طيبة شريفة المَحتِد، ميسورة الحال. ولم يَنجُ الدكتور مهران نفسه من الحسد؛ لأنه تزوج ملكة الجمال هذه ذات العينين النجلاوَيْن الفَتَّاكَتَي اللِّحَاظ.
مضى العام الأول من زواجهما، وتاقَت سامية إلى طفل يحمل اسم أبيه وتَقَر به عينها، ولكنَّها فُوجِئَت بعدم رغبة الدكتور مهران في الإنجاب، وهكذا بدأت أول مشكلة تنغص عليها حياتها الهادئة.
أخذَت سامية تسأل نفسها: لماذا تزوَّجَني ما دام لا يريد أنْ يكون له أطفال مِنِّي؟ وما جدوى هذا الزواج؟ أريد إشباع ما بداخلي من عاطفة الأمومة … وكاد النوم يطير من عَيْنَي سامية وهي تستعرض مَصيرها مع زوجها إخصائي أمراض النساء والولادة … تُرى، أهناك علاقة بين عمله كطبيب نساء، وبين كراهيته للإنجاب؟
حاولت سامية جهدها أنْ تُقنع زوجها بضرورة الإنجاب؛ لأن هذه سُنَّة الله في خلقه، وجُعل الزواج للمحافظة على بقاء الجنس … لا يتزوج الناس لمجرد المتعة الجنسية، وإنما ليُنجِبوا ذرية تخلِّد ذِكْرَهم، وترث ممتلكاتهم وتسعدهم، وتكون سببًا في الاستقرار العائلي … ولكنه كان عنيدًا في هذه الناحية … لا يريد إنجاب أطفال بأية حال من الأحوال.
مضَت خمس سنوات كاملة، على زواج سامية بالدكتور مهران. أجهضها خلالها مرتين، رغمًا منها، وهي تبكي … ثم شاءت الظروف أنْ سافر الدكتور مهران في مُهمَّة إلى الخارج، استغرقت شهرين. فلما عاد، فوجئ بزوجته سامية تخبره بأنها حامل … فغضب وثار، وهاج وماج، وأصرَّ على أنْ يجعلها تتخلص من الجنين.
غير أنَّ سامية أصرَّت على بقاء الجنين، مَهما يكلفها بقاؤه … وهنا احتدَم الخلاف بين الزَّوجَين، فاضطرَّت سامية إلى ترْك منزل الزوجية، وذهبتْ إلى بيت أمها غاضبة من الدكتور مهران العنيد … فاستقبلَتْها أمها مُرحِّبة، وشجَّعتْها على الإنجاب؛ إذ كانت تتوق هي أيضًا إلى أنْ تصير جدة من ابنتها الوحيدة سامية، أجمل فتيات حي العباسية.
بعد سبعة شهور من بقاء سامية في بيت أمها، جاءها المخاض، فذهبت إلى مستشفى حيث وضعت طفلة جميلة، تحكي جمال أمها، فسمَّتها «وردة» … وبعد فترة بقائها بالمستشفى، انتقلتْ إلى بيت أمها، فأسرعَت إلى طلب زوجها الدكتور مهران بالتليفون، تزُفُّ إليه البشرى السعيدة بأنه صار أبًا لابنة فاتنة، اسمها «وردة».
ما كان من الدكتور مهران المتعنِّت، عند سماعه هذا النبأ، إلا أنْ أقفل التليفون في وجه زوجته، بعد أنْ أفهمها أنَّ هذه الوردة ستكون سبب فِراقِه عنها طول حياته.
وبعد فترة قصيرة، من المناقشات والجدال والشد والجذب، بالتليفون، رماها الدكتور مهران بيمين الطلاق، فاستقبلَتْه راضية بصدر رحب.
ما هي إلا بضعة أشهر، حتى بلغ سامية نبأ زواج الدكتور مهران من صديقتها الحميمة «أزهار»، التي كانت تعتبرها أختها، وليس مجرَّد صديقة … فحزَّ هذا عميقًا في قلبها الذي امتلأ بكراهية الرجال والدنيا. وآثرت أنْ تعيش بمعزل عن الناس، وتتفرغ تمامًا لتربية وردة، التي كانت تشبه الوردة في حُمرة خديها ونعومة بَشرَتها وابتسامتها الحلوة … لم يُغضِبها زواج مهران، وإنما أغضبها أنْ تَقبَل صديقتها أزهار بأنْ تتزوَّج مُطَلِّق صديقتها سامية … هذه خيانة ما بعدها خيانة، ونذالة سافرة. واعتبرتْ أنَّ أزهار إنما فعلت هذا، لتغيظها وتكيد لها وتشمت فيها، غير عالمة بأنه:
استمر زواج أزهار بالدكتور مهران مدة عامين، لم تنجب خلالها أية أطفال. ولما أبدت له رغبتها في الإنجاب، أعاد على مسامعها نفس قصته مع سامية، وأكد لها رغبته في عدم إنجاب أطفال، مَهما تكن العاقبة. وذكر لها أنه لم يطلِّق سامية، رغم حبه الشديد لها، إلا لكونها تشبَّثتْ بالحمل وأبقْتِ الجنين في أحشائها مخالِفةً مبدأه.
رفضت أزهار قَبول مَنطِق زوجها، مما أدَّى إلى الخلاف المستمِر بينهما، فاختصرت الطريق، وطلبت الطلاق، قبل أنْ يَحدُث لها ما حدَث لصديقتها السابقة سامية.
تم الطلاق بين مهران وأزهار التي شَمتت في سامية، فلَقِيت نفس مصير مَن شَمتت فيها … وأرادت أنْ تعود إلى صداقتها مع سامية، بيد أنَّ سامية أبَتْ أنْ تصادقها، وطردتها من بيت أمها شر طردة.
بعد فترة وجيزة من طلاق أزهار، أحس الدكتور مهران برغبة شديدة في أنْ يرى ابنته وردة، بعد أنْ سمع من المُقرَّبِين إليه، وَصْف جمالها الخارق الذي فاق جمال أمها أيام شبابها، وإعجابهم بابتسامتها الجذابة الحلوة، كما أحسَّ بفداحة الجريمة التي اقترفها في حق زوجته الأولى سامية التي أحبها من كل قلبه.
ذهب الدكتور مهران إلى بيت حماته، وطلب منها أنْ يرى ابنته وردة، وكان قد أخذ لها معه الكثير من الهدايا واللعب الجميلة الثمينة، رغم أنها لم تبلغ، بعد، الثالثة من عمرها، فما إنْ أبصر ابنَتَه حتى انهال عليها تقبيلًا، وأُعجِب بها أيَّما إعجاب، وأحس بعاطفة الأبوة تتحرك في أحنائه، وتسري في دمائه، وهنا تضاعَف حبه لزوجته الأولى سامية، وندم على تطليقها وهو في سورة غضبه.
أبدَى الدكتور مهران رغبته في إعادة سامية إلى عِصمَته، وذَكَر لها أنَّ كل ما حدث، كان بدافع الغضب، فقالت له حماته: ليس لي أنْ أفرض إرادتي على سامية، فهي سيدة كاملة ذات عقل راجح، وليست قاصرًا، وعلى العموم، بوسعي أنْ أستدعيها لك، وهي تتكلم بنفسها، أما من جهتي فأعلم أنَّ الصلح خير، لا سيما بعد أنْ أنجبتما هذه الطفلة البريئة، وليس من العدل أنْ تَتربَّى بعيدًا عن أبيها … هذا رأيي، ولكني لا أستطيع إملاء إرادتي على سامية، وخصوصًا؛ لأنها تعيش معي في بيتي، وربما تظنني قد تضايقتُ من وجودها عندي.
جاءت سامية، فسلَّمت على مهران كما لو كان رجلًا غريبًا لا تعرفه، ولا سبق أنْ رأَتْه وعاشرَتْه، ففاتَحَها الدكتور مهران في رغبته في العودة إلى سابق عهدهما، وأن يردَّها إلى عِصْمَته، وأبدى لها نَدَمه وأَسَفه الشديد على ما بدَر منه، وأن هذا كله لم يكن سوى وقفة الشيطان لعنه الله، وأقسم لها بأغلظ الأيمان على أنْ يكون لها نِعْم الزوج، ولوردة نعم الأب، وأنه ما عاد يُغضِبها، وقال إنه على استعداد لفعل كل ما تريده، وما تطلبه ترضيةً لها، واعتذر لها عن زواجه الأحمق بأزهار، صديقتها الزائفة التي قضى معها أيامًا كان يحس فيها بوخز الضمير، كالأشواك تلهب جسمه وعقله، وكبده وقلبه، وما كان منه إلا أن استدعى المأذون بالتليفون إلى منزل حماته فردَّ سامية إلى عصمته رسميًّا.
وهكذا صحب مهران سامية ووردة إلى بيته، وعادت المياه إلى مجاريها … فزغردَت أمها بملء فِيها كما لو كانت ابنتها عروسًا تُزَف إلى عريسها … ولكن الواقع أنَّ وردة هي التي كانت عروس الحفل؛ إذ هي التي استطاعت بجمالها الفذ أنْ تعيد أباها إلى صوابه.
عاشت سامية بقية حياتها مع الدكتور مهران، سعيدة، وذهبت وردة إلى المدرسة وتقدَّمَت في دراستها حتى تخرجت طبيبة أمراض نساء وولادة مثل أبيها … وتزوجت وأنجبَت، وصار الدكتور مهران الذي رفض أن يكون أبًا، صار جدًّا عن طيب خاطر، وسبحان من يغيِّر ولا يتغيَّر.