الزواج الفاشل
نرجس فتاة حسناء يتمنَّى كل شاب أنْ يكون لها زوجًا؛ إذ هي مليحة الوجه والملامح، مَمشُوقة القوام محتشِمَة في ملبسها، ومستقيمة جدًّا في سلوكها، تؤدي فروض ربها من صلاة وصوم ومَحبَّة الناس، والعفو عن المسيء، ومساعدة كل من كان بحاجة إلى مساعدتها … مات أبواها كلاهما، وهي ما زالت طفلة في غضاضة الإهاب، فتولَّت خالتها تربيتها وأرسلتها إلى المدرسة حتى نجحَت في التوجيهية بتفوُّق فاكتفَت بها، ولم تشأ أنْ تلتحق بالجامعة؛ لئلا ترهق خالتها بالنفقات وأثمان الكُتب التي صارت خيالية، فضلًا عن الأجهزة العلمية والملابس والمواصلات، وما إلى ذلك.
أحبَّت نرجس شابًّا اسمه صلاح رغم أنه لم يكن جامعيًّا، ولا ذا مركز سامٍ، ولا ثريًّا. وإنما كان دون المتوسِّط … أحبَّته نرجس ووجدَت أنه الشاب المناسب لأن يكون لها زوجًا تستقر معه، وتخفف العبء عن خالتها … وتمَّت خطوبتها له.
بيد أنَّ دوام الحال من المحال، فقد عادت نرجس إلى بيتها ذات يوم، بعد الخطوبة بوقت قصير، عادت غاضبة حانِقة، تحمل هموم الدنيا كلها فوق رأسها، وقرَّرتْ في نفسها أنْ تفسخ خطوبتها من صلاح؛ إذ تأكدت من أنه لا يصلح زوجًا لها، وأنها خُدِعت فيه قبل الخطوبة، وأدركت أخيرًا أنه ليس بالزوج الذي يمكنها أنْ تعتمد عليه. وعلى أية حال هي في الثامنة عشرة من عمرها، ولا تزال أمامها فسحة من الوقت يأتيها فيها الزوج المناسب.
راح صلاح يزور نرجس في بيت خالتها، ولكنها لم تسترِح إليه بسب العاهة التي تعوقه عن الحركة؛ إذ بساقه اليمنى عرج، ويلبس فيها حذاءً حديديًّا، نتيجة شلل أطفال أصابه وهو في حداثة سنِّه.
ضايقت هذه العاهة نرجس، رغم أنَّها حاولت كثيرًا أنْ تتغاضى عنها، ولكنها لم تستطع ذلك بينها وبين نفسها، وصارحَتْ خالتها بما يعتمل في نفسها من ناحية صلاح، وأبدتْ لها رغبتها في فسخ الخطوبة … غير أن خالتها صدَّتْها وأخبرتها بأنها ترى أنَّ صلاحًا نعم الزوج لها. لا سيما وأنْ نرجس تحس بعصبية شديدة، وتأتيها نوبات من الصرع بين الحين والحين … وعارضتها تمامًا في أنْ تفسخ خطوبتها.
عبثًا حاولت نرجس أنْ تقنع خالتها لكي توافق على فسخ الخطوبة من صلاح … وأصرَّت الخالة، بصفتها بديلة والدة نرجس، على أنْ تستمر الخطوبة ويتم الزواج، سواء رَضِيَت نرجس أو لم ترضَ، خصوصًا وأن صلاحًا وافق على أنْ تعيش نرجس معه في بيت أسرته المكونة من خمسة أفراد: الأب والأم المُسنَّيْن، وشقيقتَيْن صغيرتين، وصلاح، وتكون نرجس هي السادسة.
جهَّزت الخالة كل شيء يلزم لزواج نرجس، واشترَت لها حجرة نوم فخمة، وزوَّدتْها بالكثير من الملابس واتَّفقَت مع صلاح على اليوم الذي يلائمه ليُزَف إلى نرجس. وهكذا تم الزواج، وانتقلتْ نرجس إلى بيت أسرة صلاح، حيث خصصوا لها حجرة تعيش فيها مع ابنهم.
ظنَّت نرجس أنها ستبدأ حياة جديدة مع هذا الصلاح، كلها سعادة وهناء، ووئام وحب متبادَل … وتلْقَى الراحة والمحبة بين أفراد أسرته.
أحس والد صلاح ووالدته وشقيقتاه، بحب صلاح لنرجس؛ فدَبَّت الغيرة في نفوسهم جميعًا؛ لأن صلاحًا هو الابن الوحيد على شقيقتين، في الأسرة، وحسب عقولهم، لا يصح أنْ تأتي واحدة من الخارج فتنتزعه منهم ليحبها ويخلص لها … وتم الاتفاق فيما بينهم على أنْ يناصبوها العداء، ويعتبروها مجرَّد خادمة، أو أقل من خادمة، وأن ينكِّدوا عليها عِيشَتها بمختلف الطرق، وبشتَّى الأساليب، فجعلوها تكنس البيت وتنظفه يوميًّا، وتطهو الطعام للأسرة، وتُعِد الحمام للعجوزَين، وتغسل ملابس ستَّة أشخاص، وتشتري حوائج البيت من السوق، وتضع المائدة لتناول الوجبات، وتغسل الأطباق والأواني بعد كل وجبة، ولم تفكر واحدة من الشقيقتين أنْ تساعدها، ولو في غسيل الأطباق، بل على العكس، إذا عطشتْ إحداهما، أمَرَت نرجس بأن تحضر لها كوب ماء حيث تجلس طالبة الماء.
إلى هنا، وكل شيء يُحتمل ويمكن أنْ يطاق إلا أنَّ ما لا يطاق، هو أنَّهم أوْغَروا صدر صلاح ضد زوجته نرجس، مختلقِين حكايات كاذبة لم تصدر من هذه الفتاة المسكينة، فأخذ صلاح، بدوره، يسيءُ معاملة زوجته، وشيئًا فشيئًا بدأ يتطاول عليها بالشتائم والسباب بأقذع الألفاظ، ثم بالضرب والصَّفع والرَّكل … لم تستطع نرجس أنْ تطيق معاملة زوجها هذه. فضلًا عن اصطدامها مع حماتها العجوز أُم صلاح التي كانت تُمعِن في إذلالها بطرق تدرَّبَت عليها وأجادتها؛ إذ كانت عتيقة في المكائد والأذى والدَّس، وكانت مثال الحماة التي طالما نال من شرورها وأذاها الكثير من الأزواج، وكانت سببًا في كثير من حالات الطلاق والانفصال بين الزَّوجين، وتشريد الأبناء.
وذات يوم، بينما كان جميع أفراد الأسرة جلوسًا إلى مائدة الطعام، إذ شكَتِ الحماة لابنها من تصرفات زوجته نرجس، وكانت الشكوى ملفَّقَة وكيدية، فأراد هذا الصلاح القاسي الغافل أنْ يكسب رضى أمه، ويظهر لها ولاءه، فصَفَع زوجته أمامها صفعة بكل قواه، فكسر إحدى أسنانها، فتركَت المائدة، غاضبة تبكي، فلم يهتم بها أي واحد من الجالسِين … وزيادة على ذلك كالَ لها صلاح الشتائم ووصفها بأحط الصفات أمام والديه وشقيقتيه، والأم تقول له: مَرْحَى يا صلاح، حقيقةً أنت رجل من ظهر أبيك! هكذا تكون شهامة الرجال، تسلم يدك.
لم تحتمل نرجس ما لحقها من إهانة، وتشجيع كل الأسرة لصلاح، وامتداح ما فعله … فجمعَتْ ملابسها، وأصرَّت على ترك البيت ومن فيه، وذهبت إلى بيت خالتها.
حكت نرجس لخالتها كل ما لقيته من أسرة صلاح ومن صلاح نفسه بإيعاز أمه وأختيه، وأقسَمَت لها على أنها لم تَزِد شيئًا قط، بل تركَت الكثير … فتضايقت الخالة؛ لأنها هي التي أرغمت ابنة أختها على الزواج من صلاح والإقامة مع أسرته بعد أنْ أرادَت نرجس فسخ الخطوبة، ولكنها هدَّأت من روع نرجس، وأحسنت وفادتها، ورحَّبت بمقدمها إلى بيتها الذي شَبَّت فيه وترَبَّت منذ الصغر، وشجَّعتها على ألا تعود إطلاقًا إلى هذا الوغد حتى ولو انفصل عن أولئك السَّفَلة واستأجر بيتًا خاصًّا به، كلَّا، لن تعودي إليه حتى ولو أقام الدنيا وأقعَدها، وأطلق الجحيم من عقالها … وحتى إنْ جاء وركَع تحت قدميكِ وقبَّلهما مستغفرًا تائبًا.
ما هي إلا أسابيع، حتى بَرَز بطن نرجس وتحرَّك الجنين في أحشائها، ولما فحصَها الطبيب أخبرها بأنها حامل في الشهر الثالث.
أشارَت الخالة على نرجس بضرورة التخلُّص من هذا الجنين؛ إذ لو عاش لاضطُرَّت إلى أنْ تعود إلى زوجها صلاح كي يتربَّى الطفل عند أبيه الذي لا يستحق أنْ تكون نرجس زوجته وأم أولاده، فرغم أنها خدمت أهله خدمة لا تقوم بها أية خادمة، إلا أنه أساء معاملتها وأهانها ترضيةً لأمه الحيزبون.
وافقَتْ إحدى طبيبات أمراض النساء، على أنْ تقوم بعملية إجهاض نرجس من الجنين الذي في بطنها، لا سيما وهو في الشهر الثالث، أي في أوائل مراحل نموه.
شاء سوء الحظ أنْ تموت نرجس في هذه العملية … وعاشتْ خالتها معذَّبَة طول حياتها؛ لأنها كانت السبب فيما حدث لابنة أختها، يتيمة الأبوين، التي ربَّتْها إلى أنْ صارت عروسًا.
حزن صلاح على ما حدث لزوجته، واغتمَّ كثيرًا، ولام نفسه على ما بدَر منه في حقها، وأصيب بنوع غريب من الاكتئاب، فَكَرِهَ نفسه وكَرِه الدنيا بأسْرِها، واعتبر نفسه المسئول الوحيد عَمَّا حدث لزوجته وحبيبته نرجس، وقرر أنْ ينتحر، فشَرِب السم، ومات. وماتَت مِن بعده أمه؛ حزنًا على ولدها … كما أصيب أبوه بالعمى كمدًا … ووجدَت الشقيقتان الشريرتان نفسيهما بلا عائل، فاضْطُرَّتا إلى أنْ تَعملا خادمَتَين في البيوت لتكفُلا نفسيهما وأباهُما الضرير.