فرحة ما تمَّت
حسام موظَّف بسيط كل مؤهلاته شهادة الدراسة الثانوية، مات أبوه وترك له ثلاثة إخوة في مختلف مراحل التعليم، وكذلك أمه، ولم يترك لهم أية مدخرات؛ لذا كان على حسام أنْ يتكفل بنفقات أسرته من مرتبه الذي لا يكاد يكفي إيجار الشقة التي يقيمون فيها، والقوت الضروري لخمسة أفواه.
كان لا بد لإخوته الثلاثة من أنْ يتمُّوا تعليمهم وقد بدءُوه. ولكن من أين يحصل حسام على أثمان الكتب اللازمة لهم، علاوة على الملابس والمواصلات وما إلى ذلك؟ فتقدمت أمه بطلب معاش السادات كي يستمر أولادها في مدارسهم. وبعد الكثير من الإجراءات المُعقَّدة والمُضنِية، في الوقت ذاته، قرر ذوو الشأن معاشًا لهذه الأرملة، ولم يكن سوى بضعة جنيهات لا تسمن ولا تغني من جوع. ولكن كما يقول المثل: «نواية تسند الزير.» وبذا تمكَّن أولادها الثلاثة من مواصلة تعليمهم. وكان ابنها حسام يقتر على نفسه كي يرعى إخوته ويضطلع بسير الأمور في تلك الأسرة البائسة إلى أنْ يقضي الله أمره.
تسكن في بيت قريب من بيت حسام فتاة، تصغره بسنين معدودات … كانت «مُنى» هذه فاتنة جذابة الملامح والتقاطيع يراها حسام يوميًّا تقريبًا فيعجب بجمالها وبِسمُو أخلاقها، فَهامَ بحبها … والحب كما يعرف العُشَّاق، يجد طريقه من حيث لا يدري صاحبه. فصارح حسام منى بحبه إيَّاها حبًّا استولى على كل حواسه وعقله ولُبِّه وجَنانه. وكان صادقًا في هذا التعبير؛ إذ شُغِف بها وحبها أكثر من حبه أمه، بل ونفسه. فلا يهنأ له بال إلا إذا رآها وتحدث إليها … وشعرت منى بحب حسام يتعمق في قلبها وقد تأكَّدَت من أنه حب شريف سينتهي بالزواج والاستقرار في عش يضمهما معًا. فأبدَت له ما يختلج في قلبها من لواعج الحب، وما تتخيله من آمال لمستقبل سعيد، وأحلام بيت الزوجية.
وذات ليلة حاول حسام أنْ ينام، ولكن النوم استعصى عليه، فلم يغمض له جفن، ولم يستقر في الرقاد على أي جنب من جنبيه. وإنما كان يتقلب يمنةً ويسرةً عسى أنْ يغلبه النعاس، الذي أقسم على ألا يزوره في تلك الليلة الليلاء؛ لأن الأفكار كانت تشغل بالَه وتملأ رأسه … ماذا عساه أنْ يفعل وقد تَوتَّر الجو بينه وبين محبوبته منى، قبل أنْ يذهب إلى بيته في المساء. فقد صَرَّحت له بأن الانتظار والتسويف كاد يقضيان على حبها إيَّاه، وينزعانه من قلبها … ماذا وراء هذا الحب، وهي الفتاة الشريفة المتمسكة بدينها، إنْ كان حسام لا يتقدم لطلب يدها من أمها، ويحدد يومًا للزواج والاستقرار؟ فقد مات أبوها وهي ما زالت رضيعة في مهدها، فقامت أمها بتربيتها تربية قويمة على أساس من الحشمة والعفة والتدين، إلى أنْ صارت فتاة رائعة الفتنة والجمال، كَعَب نَهْداها ونَضِجت أنوثتها وغَدَت قِبْلَة الأنظار أينما ذهبت وحيثما أقامت.
قال: لا يمنعني طلب يدك، يا منى، إلا قِصَر ذات اليد.
قالت: ولماذا لا تخطبني؟ ليست الخطبة مشكلة، ولا تتطلب نفقات كثيرة.
قال: ليس عندي ما أخطبك به الآن، وأنت أدرى الناس بحالتي الحاضرة … اصبري، وما صبركِ إلا بالله. فليس من المعقول أنْ أقدم لك «دبلة» ليست من الذهب وإن كانت تبدو كالذهب!
قالت: الغاوي يفعل المستحيل. وإذا عزمت على أنْ تخطبني جاءك المال من عند الله، الذي يقول: «اجر يا عبد وأنا أجري معك.» كِلانا فقير، يا حسام، وإني لأعترف بأنك تعاني ماديًّا أكثر من معاناتي، من حيث الدخل والمسئوليات.
قال: أنتِ تعلمين أنَّ أبي مات تاركًا لي أسرة من خمسة أفراد، ثلاثة منهم بالمدارس ومُرتَّبي لا يتبقَّى منه أي شيء في آخر الشهر … أما أنتِ، يا منى، فابنة وحيدة تعيشين مع أمكِ التي تعمل، ويأتيها معاش عن أبيكِ، بينما أمي لا تعمل ومعاش السادات الذي تحصل عليه في كل شهر عبارة عن مبلغ ضئيل.
قالت: إذن، فلا بد لي من أنْ أنتظر عشر سنوات حتى يكبر إخوتك الصغار ويتخرجوا ويعملوا … مطلوب مني أنْ أظل عانسًا طيلة هذه السنوات، وبعد ذلك تتقدم فتطلب يدي. وربما خطفتك منِّي فتاةٌ أخرى، والمرء لا يعلم الغيب، ولا ما يخبئه له القدر … كلَّا، يا حسام … أنت من هنا وأنا من هنا، ونحن في بداية سُلَّم الحياة.
قال: أمامي خمس سنوات على الأقل حتى أحقق الأمل الذي نصبو إليه.
قالت: إذًا، فمع السلامة مؤقتًا، يا حسام … وأعدك بأنني لن أراك ولن تراني إلا بعد هذه السنين الخمسة، للسؤال عن صحتك الغالية وصحة والدتك الكريمة، وإخوتك المحروسين.
نزلت هذه الألفاظ على حسام كالسهام، فتألَّم لقسوتها، وهو يعلم أنَّ منى على حق في كل ما تفوَّهَت به … وراح يلوم القدر الذي خلقه فقيرًا مكبَّلًا بأسرة لا يد له فيها، وإنما وجد نفسه فجأة مسئولًا أمام الله وأمام ضميره وأمام المجتمع، عن كل فرد فيها بعد أنْ مات العائل، في عنفوان صحته وقوته؛ إذ صدَمَته سيارة، فأَردَتْه قتيلًا.
بدأ الشيطان يسيطر على تفكير حسام المُشتَّت ويوسوس له.
أخذ حسام يتذَكَّر طفولته الحلوة التي عاشها مع منى في شارع واحد، وكيف كان يلعب معها في براءة وهو لا يفكر قط في أنه سيقع في غرامها يومًا ما، وكيف أَلِفَ رؤيتها طوال مدة التلمذة، فقد كانت أمه صديقة أمها وتتزاوران كثيرًا وهما في حي عابدين، وكانت الزيارة بينهما متواصلة لا تنقطع.
تذكر تلك الساعات التي كانا يجلسان فيها معًا يلعبان الورق، ويتراهنان في لعبة «الكومي» و«البَصْرَة» وكيف كانت تتهلل وتصفق عندما كانت تغلبه، فيتوسل إليها أنْ تتنازل عن الرهان، فإذا ما وافقت، قدم إليها بسكويتة مما تصنعه أمه، فتتقبلها منه وتأكلها في سعادة عارمة.
راحت الذكريات تتوالى في مخيلة حسام، فتذكر ذلك اليوم الذي رأى فيه غلامًا يعاكس منى، فانقضَّ عليه يصفعه. وتماسكا بالأيدي، فأخذ يكيل له اللكمات والركلات والروسيات. لكنه عانى بعد ذلك من ألم بسبب ورم حدث في رسخ يده اليمنى؛ إذ لوى الفتى يد حسام بكل قوته، فسقط بعدها على الأرض واتَّسخَت ملابسه، غير أنه نهض من على الأرض منتصرًا ظافرًا، فبصق على وجه الفتى وهدَّده بالضرب المبرح إنْ حدَّثَته نفسه بعد ذلك، أنْ يعاكس صديقته منى أو يتعرَّض لها بأي شكل من الأذى.
سرح خيال حسام في الماضي، فتذكر أول لقاء بينه وبين منى، حبيبته العزيزة … كان في عصر يوم خميس، إذ جلسا على كورنيش النيل، بالقرب من كوبري قصر النيل، واشترى لها كوزًا من الذرة المشوية، كانت كالعسل حلوة وطرية. أخذت تأكله على مهل وهي تتلذذ بطعم الذرة التي لم تذق مثل حلاوتها من قبل؛ إذ كانت أول هدية من حبيبها … وبعد أن انتهت من تناوُل الذرة وهي تُعبِّر له عن طعمها الحلو، وعن كونها طازجة، اشترى لها «قرطاسًا» من الترمس، وراحَا يتسامران، ويتحدثان عن آمال المستقبل ويخططان له، تبعًا لتصاريف الأيام، وإمكانيات أسرتها المحدودة، وأسرته الكبيرة بأفرادها العديدين. وكان عزاؤها أنَّ كليهما يتيم من ناحية الأب. وهذا هو أقوى ما يجمعهما معًا؛ إذ حُرما حنان الأب ورعايته. ومع ذلك، شكرَا الله على أنه لم يحرمهما نعمة حنان الأم وعطفها الذي لا حدود له.
أحسَّ حسام بأن الدنيا قد ظلمته وسلبته حنان الأب ومساعدته. فلو كان أبوه حيًّا، لاضطلع هو بموضوع زواج ابنه بمن يهواها، من جميع نواحيه، ولعجَّل بالزواج وقام بالنفقات. ولكن هكذا إرادة الله جَلَّت حكمته: «ولو علمتم الغيب لاخترتم الواقع.» والإنسان مُصَيَّر لا مُخَيَّر. وها هي الدنيا تسلبه اليوم حب معشوقته التي عوَّل على أنْ يتخذها شريكة حياته، وأم أولاده، ومن تقف إلى جانبه وسط صروف الدهر … وهكذا تضاعفت الغُصَّة في قلبه. وانتهى تفكيره السقيم، إلى أنَّ الفقر وضيق ذات اليد، هما سبب عزوف منى عنه.
قرر حسام، ووضع في ذهنه أنْ يأتي بالمال من أي مصدر، حتى ولو كان مصدر غير شريف.
قال في نفسه: لماذا يملك بعض الناس عدة ملايين من الجنيهات. ويملكون العمارات الشاهقة، وينفقون الأموال بغير حساب، بينما لا يجد غيرهم ما يقتات به أو يصلح به أموره … هذا ظلم … وكما قال المنفلوطي: «ما بَخِلَت السماء بمائها، ولا ضَنَّت الأرض بخيراتها، بل حسد الغنيُّ الفقيرَ عليهما، فاحتجَزَهما دونه.» لا بد أنْ يُقاسِم حسام الغني خيراته، ويسلبه بعض ما يمتلك. فاحترف سرقة السيارات الفارهة، وتغيير معالمها وأرقامها وأرقام محركاتها ثم بيعها. وبذلك يحصل على الألوف من الجنيهات.
بدأت الأموال تجري بين يدي حسام، فتقدم لخطبة منى، وقدم لها شبكة ثمينة أذهلت منى نفسها، فسألته من أين جاء بكل تلك الأموال، فأجاب بأنها تأتيه عن طريق العمل. غير أنها لم تصدقه، وترددت في قبول هذه الشبكة، وإن قبلت مبدئيًّا فكرة الخطوبة التي طالما حثته عليها.
أقام حسام حفل الخطوبة على نفقته الخاصة، فوُضِعَت الزينات داخل بيت منى وخارجه، وأُضِيئَت واجهاته بالمصابيح الكهربية الملونة. ومُدَّت مائدة فخمة عليها كل ما لذَّ وطاب، من طعام وشراب. وبذا أدخل السرور على نفس منى وأمها، وعلى نفس أمه هو وإخوته، وحدد يومًا قريبًا للزفاف.
ذات صباح، أمسكت منى بصحيفة الأهرام، فهالها أنْ أبصرت صورة حسام مكبلًا بالأصفاد. فقرأت الخبر، فإذا البوليس يقبض على حسام وهو يحاول سرقة سيارة … فطوت الصحيفة واستسلمت للبكاء، وقالت بصوت حزين: «يا فرحة ما تمت.» وخلعت الدبلة والشبكة وألقَت بهما عُرْض الحائط.