رحماك يا رب فأنتَ أرحم الراحمين
انصرف منتصِر من عمله حزين النفس، مهموم الخاطر، تتضارب الأفكار في رأسه. فقد كان بينه وبين السعادة التي ينشدها ويتوق إليها، أميال وأميال … فكل شيء في حياته لا يَسُر، وكل شيء في عمله لا يرضي عدوًّا ولا حبيبًا … كل شيء في أسرته مضطرب سقيم، والأهم من كل هذا وذاك، أنَّ جيبه يشكو الخلو ليل نهار.
لقد ماتت زوجة منتصِر، التي كانت تحمل عنه عبئًا ثقيلًا في تربية الأولاد والمساعدة في نفقات المَعيشة؛ إذ كانت موظَّفة في إحدى الشركات بمرتَّب يمكن أنْ يسهم في لوازم البيت والأولاد والحياة … ماتت وتركَت له أربعة أولاد، أكبرهم في الرابعة عشرة من عمره.
وجد منتصِر نفسه مسئولًا عن بيته وأولاده، ولا بد له من أنْ يقوم بدور الأب ودور الأم معًا.
كان أولئك الصغار في غاية «الشقاوة» والشيطنة، ولا تقف طلباتُهم عند حد، وكلها في حدود المعقول، ولكن لا تسدها إلا حافظة عامرة بالنقود باستمرار. في حين أنه يشكو دائمًا من فراغ في اليد والجيب والوِفاض … فمُرتَّبه الذي يتقاضاه من وظيفته الحكومية لا يمكث في يده إلا يومين أو ثلاثة أيام على الأكثر، في بداية الشهر، وبعد ذلك يبدأ في شراء ما يلزمه على الحساب، من البَقَّال والخُضري وبائع الفول المدمس والخبَّاز. أما الجزار فقد أوقف التعامل معه تمامًا بعد أن ارتفع ثمن اللحم إلى ما فوق طاقته، بأسعار خيالية غير معقولة ولا مقبولة … وهكذا، حرَّم منتصر دخول اللحم بيته، وحرَّمه على عياله المساكين المظلومِين الذين لا ذنب لهم فيما يدور حولهم، خصوصًا بعد أنْ حُرِموا عطف الأم التي كانت تلبِّي طلباتهم بنفس راضية، كما حُرِموا حنانها الذي لا يمكن تعويضه بحال ما.
وذات يوم، بينما كان منتصر عائدًا إلى بيته من عمله، إذ تذكر فجأة أنَّ ابنه الأصغر حُسينًا قد ناشده أنْ يحضر له ثمرة من ثمار المانجو التي سمع عنها ولم يرها أو يذقها، وذلك لكي يثبت وجوده في هذه الدنيا، وكان منتصر قد وَعَد ابنه هذا بأن يُحضِر له ما طلب مَهما يكلفه.
راح منتصر يقول لنفسه: لا بد أنْ يأكل جميع أولادي المانجو، ولا يجوز أنْ يفوز حسين بثمرة مانجو، بينما ينظر إليه إخوته الثلاثة الآخرون في حسرة وألم … ليست عيونهم من حجر!
دفع منتصر كل ما في جيبه من نقود ثمنًا لكيلو مانجو يتألف من أربع ثمرات صغار، وهو مسرور مغتبط النفس. وفي البيت، عمَّ السرور قلب حسين، ومراد، ومنير، وسمير؛ فنال كل واحد منهم ثمرة، أخذ يقشرها، ويلحس لحمها بلسانه أولًا، ثم يأكل قطعة قطعة في لذة ما بعدها لذة، وشهدوا جميعًا بأن المانجو ألذ فاكهة في الدنيا، بل هي سيدة الفواكه في العالم. وبذا زادت معلوماتهم بمعرفة المانجو، وامتلأ قلب منتصر بالبهجة والسرور، وشعر براحة نفس، رغم ما تكلَّف من نقود كان في أشد الحاجة إليها، إذ استطاع أنْ يُدخِل السرور والفرح على نفوس أولاده وفلذات كبده الذين لم يَذوقُوا جزءًا من ألف جزء مما ذاقه هو في صِغره. وقال في نفسه إنه لو بقي على الطَّوى بقية حياته، ولم يأكل أي شيء، فهو لا يزال متفوقًا على أولاده من حيث الطعام والشراب؛ فقد نَعِم بخيرات، في طفولته وصباه، لم ينعم بها أولاده، أو حتى يسمعوا عنها.
لم يبقَ في جيب مُنتصر سوى بضعة قروش اشترى بها لأولاده قليلًا من الطعمية والبصل. وهكذا بعد أنْ ذاقوا حلاوة المانجو، كأولاد الأعيان والأثرياء، عادوا إلى الطعمية والفول والبصل، التي أَلِفوها، وغدَت طعامهم اليومي الذي ينقذهم من الموت جوعًا.
بعد ذلك ببضعة أيام، قال سمير، وهو ابنه الأكبر: أبتاه! بَلِي حذائي المَطَّاطي تمامًا، وقدمي تخرج منه، فيرى جميع زملائي بالمدرسة أنني ألبس الحذاء بدون جورب.
فقال الأب: أهكذا فجأة؟
قال سمير: كلَّا … بل من طول الاستعمال؛ فليس عندي غيره، كما تعرف، وله في قدمي مدة سنتين بل أكثر.
وقال منير: وأنا أيضًا، بنطلوني ممزَّق، وأحتاج إلى بنطلون جديد؛ إذ شكلي لا يَسرُّ من ينظر إليَّ، والأولاد في المدرسة يسخرون مني، ولا يريد أي واحد منهم أنْ يصادقني بسبب رثاثة ثيابي.
وقال مراد: وأنا أيضًا بحاجة إلى قميص جديد؛ لأن قميصي ممزَّق ومرقوع بأكثر من رقعة، ومهلهَل. ومُدرِّس التربية البدنية، المشرف على نظافة التلاميذ أمرني أنْ أشتري قميصًا جديدًا، وإلا طردني من المدرسة.
وقال حسين: أما أنا، يا أبي، فأريد حقيبة جديدة للكتب؛ إذ تمزقت حقيبتي تمامًا، وصرتُ لا أستطيع استعمالها؛ لأن يدها انقطعت وضاعت، وتمزَّقت جوانبها، فتسقط منها الكتب والأقلام.
لم ينم منتصِر طول اليوم وهو يفكر في طلبات أولاده وكلها معقولة وصحيحة وضرورية، ولكن من أين تأتيه النقود التي يشتري بها هذه الطلبات الأربعة؟ لا بد له من عشرات الجنيهات في حين أنه لا يملك جنيهًا كاملًا. فأحس بالعجز الشديد، وزاد سخطه على الحياة، وتذكَّر قول الإمام علي بن أبي طالب إذ قال: لو كان الفقر رجلًا لقتلته … فلعن الدنيا التي تعطي من تشاء بالملايين، وتمنع من تشاء. وهكذا تحامل على الأقدار.
طرد منتصِر من رأسه فكرة الزواج بامرأة أخرى كي ترعى أولاده وترعاه وتساعده على الحياة، ولكنه أدرك أنَّ من يتزوج بامرأة ثانية يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار. فما إنْ يعرف طعم حلاوتها حتى يقع أسيرها، فتبدأ تشكو من أولاده عشرات الشكاوي واحدة منها صادقة والباقي كذب وبهتان، وظلم وعدوان، فيقع في حيص بيص، يدرك المثل العامي: «كنت مرتاحة، جبت لي حاحة.» فقد طُبعت زوجات الآباء على كراهية أولادهم من الزوجات السابقة، ويعمَلْن على الانفراد بالأزواج كي يَقْدِرْن على التمتع باللذة كاملة … فإذا تزوج منتصِر خسر أولاده، بل خسر راحته واضْطُر إما إلى تطليق الزوجة الثانية أو طرد أولاده من الأولى … ثم أين له بالمال الذي يتزوج به؟
عوَّل منتصر على أنْ يبحث عن عمل آخَر يُدر عليه بعض ما يساعده على مواجهة طلبات أولاده من طريق شريف.
ظل منتصر يبحث ويبحث عن عمل إلى أنْ عثر على عمل سائق تاكسي لدى أحد الأشخاص … ينزل من بيته عند الفجر، ولا يعود إليه قبل منتصف الليل مع ساعة راحة واحدة، من الثالثة إلى الرابعة بعد الظهر حيث يلتقي بأولاده ويُلبِّي طلباتهم.
اعتلَّت صحة حسين، وما هي إلا أيام حتى مات … فَتكهْرَب جوُّ البيت، وحزن منتصِر كل الحزن على وفاة ولده الأصغر، واعتبر نفسه مسئولًا عن وفاته؛ إذ أهمل عَرْضه على طبيب؛ ظنًّا منه أنه أصيب بإنفلونزا، عما قليل تنقشع. ولكن الصبي مرض بالحمَّى التيفودية التي تصيب الأمعاء … كما أنه كان يتركه في الفراش دون مراعاة، لانشغاله بالتاكسي.
اغتم منتصر وتشاءم من عمله الجديد الذي تسبب في موت ابنه الحبيب «آخر العنقود» فترك ذلك العمل غير نادم ولا متذمر.
نسي الأولاد طلباتهم السابقة، وفرحوا كثيرًا بعودة أبيهم إليهم ليرعى شئونهم، وشكروا المولى — عز وجل — على ما هم فيه من شَظَف العيش مع وجود أبيهم معهم، واكتفوا بتكاتُفهم والتئام شملهم … وكانوا ينظرون إلى السماء، ويقولون جميعًا في نفس واحد: رحماك يا رب … تَحنَّن على أبينا … حسبنا الله ونعم الوكيل … وكان أبوهم يقول وراءهم: آمين، آمين، يا رب العالمين … أنت وحدك السميع المجيب المعين!