يا وارث! من يرثك؟
يعمل محسن في مصنع للسيارات بإحدى ضواحي القاهرة، يخرج من بيته في الصباح فيذهب إلى مقر عمله بسيارته الفيات ١٣١، فلا يعود إلى بيته إلا في المساء حاملًا ما يلزم لأسرته من الطعام وغيره.
تتكون أسرة محسن من زوجته الوفية وابنته مَحاسن البالغة من العمر اثني عشر ربيعًا، وابنه علاء ويبلغ سبع سنوات. يعيشون جميعًا في سعة ورخاء، وسعادة وهناء؛ إذ تُعنى الأم بتربية طفليها والعناية بالبيت من تنظيف وترتيب، وتُعِد الطعام على أحسن ما يكون الإعداد. ولا يخلو الأمر من أنْ تخيط لأسرتها بعض الملابس البسيطة؛ إذ لا تجيد الخياطة كما تجيد الطهو.
مَحاسن طالبة بالمرحلة الإعدادية، وعلاء بالمرحلة الابتدائية غير أنَّ مَحاسن لم تهتم بدروسها قدر اهتمامها بنفسها وبمظهرها؛ إذ كانت متوسطة الجمال وتريد أنْ تبدو أمام الناس على قدر وافر منه. أما علاء، وهو في الصف الثاني الابتدائي، فكان على عكس شقيقته، مُجِدًّا في دروسه، تبدو عليه مَخايل الذكاء بما أدهش جميع مُدرِّسِيه، فكان دائمًا الأول في فصله، ولم يهمل واجباته في أي يوم.
ما تجيده مَحاسن إجادة تامة، هو استخدام الأصباغ والمساحيق والعطور، وبذا بدَت رائعة المَلاحة وفِتنةً للناظرِين، يُعجَب بجمالها وسحرها شُبَّان الحي كله.
ذات يوم، بينما كان مُحسن عائدًا إلى بيته في ساعة متأخِّرة من الليل، والظلام يسود الطريق الريفي بين الضاحية التي يعمل فيها والقاهرة، سقطَت سيارته في حفرة عميقة لم يَفطَن لها بسبب شدة الظلام؛ فتحطَّمَت السيارة ومات محسن.
بَخَع الحُزن أسرة محسن؛ إذ كان عائلها الوحيد ولم يترك لها مُدَّخَرات تعيش منها، إذ كان مَذهب محسن: «رزق يوم بيوم، والنصيب على الله.» ففكرت الأم في أنْ تعمل في تنظيف البيوت لتكسب ما يقوم بنفقات الأسرة، غير أنَّ محاسن لم تتركها لتنفذ ما اعتزمت عليه لمواجهة مُتطلَّبات الحياة، وعوَّلت على أنْ تعمل هي وتَعول أُمها وأخاها ونفسها.
ظلَّت محاسن تبحث عن عمل حتى حَفِيت قدماها، وأخيرًا وجدت عملًا كخادمة لدى أسرة تتكون من رجل عجوز وامرأته الطاعنة في السن، فقبِلت العمل عن طيب خاطر، ولكنها لم تُخبِر أمها بحقيقة عملها، بل قالت لها إنها تعمل مُربِّية لطفل صغير في أسرة تتكون من أب وأم. فوافقَت أمها على هذا العمل الحقير، ما دام مُرتَّبه كافيًا لأسرتها.
تخرُج مَحاسن من بيتها في منتصف الساعة الثامنة صباحًا، مُتبرِّجة بصورة مُلفِتة للأنظار، ولا تعود إلى بيتها إلا في الساعة الثامنة مساءً.
سارت الأمور رتيبة على هذا النحو، وفي آخر كل شهر تَتسلَّم الأم مُرتَّب ابنتها مَحاسن فتدير به بيتها وترعى مصالح ابنها وابنتها وهي قانعة راضية بما قسم الله لها من رزق عوَّضها على زوجها.
كبرت محاسن، والْتفَّ عُودها، وظهرت مفاتنها، فكَعَب نَهْداها، وتناسقت أعضاء جسمها البَض. وكانت متوسطة القَوام: لا هي بالرفيعة النحيلة، ولا بالسمينة البدينة، ولكنها صارت تَتفانَى في مكياجها لتبدو أجمل فتاة في منطقتها كلها، وقد أُعجِب بها جميع فِتيان الحي الذي تقيم فيه، وأخذوا يسيرون خلفها يُطرُون مَحاسنها ويُلقُون على مسامعها عبارات الغزَل والغرام، ولكنها لا تلتفتُ لأي واحد منهم، كأن كلامهم ليس لها، بل تسير في طريقها إلى محطة الأوتوبيس، فتركبه إلى مَقر عملها.
وشيئًا فشيئًا صارت مَحاسن تتأخر في عملها إلى ما بعد الثامنة مساءً، ثم إلى ما بعد التاسعة، وأحيانًا إلى ما بعد العاشرة، ومن آنٍ إلى آخر كانت تستأذن أمها في أنْ تذهب إلى السينما لتُرفِّه عن نفسها بعد عناء العمل، فلا تعود إلى بيتها إلا في منتصف الليل، والأم راضية على كُرْه منها؛ لأن محاسن هي التي تقوم بنفقات البيت ولا يصح أنْ تغضبها وهي شابَّة، والشَّباب أهوج، قد يفعل المستحيل غير مُكترِث لغضب الكبار، ما دام الشيطان يُزيِّن له ما يفعله.
كثُرَت الأقاويل حول محاسن، ولَاكَت الألسنة سِيرتها، وحامَت حولها الشُّبهات، ولكنها لم تَكترِث لأقوال الناس، ومَضت في التَّبرُّج ما شاءت أنْ تتبرَّج، مما شجَّع أهل شارِعها على مُضاعَفة الشائعات، واختلاق القصص الكاذبة حولها وحول سَيْرها السيِّئ؛ إذ لا يَعرِف أحد إلى أين تذهب، ولا أين تتأخر، وإذا حاول البعض أنْ يتعقبوها راوغتهم بركوب التاكسيات، وإذا سألتها أمها عمَّا تسمع من الأقوال، تجيب بأنَّ لهم الحق في أنْ يتقوَّلوا؛ لأنَّ الغيرة تنهش قلوبهم؛ فهي أجمل فتاة في الحي، وأشرف امرأة إذْ لو تقدم شاب يريد التحدث إليها صدَّته وصمَّت أذنيها عن سماع كلماته كما لو كان يَهذي، أما النساء فيحَسُدْنها على ما هي فيه من جمال وأناقة، والحسد موجود في العالم منذ القدم.
تعمل محاسن لدى تلك الأسرة الواسعة الثراء، الرجل مُسِن ولكنه في منتهى الصحة والقوة، والمرأة عجوز دَردَبيس، أكل عليها الدهر وشرب وبال، وخبَا جمالها وما عادت تَصلُح لمتعة الزوج. فوجدت مَحاسن الجو مهيئًا لها لكي تلعب بعواطف ذلك الغني، كي يقع في غرامها، ويتزوجها، وعمَّا قريب يموت فترث نصف أمواله وما يملكه من عمارات ومزارع. وربما ماتت زوجته قبله، فتئُول إليها جميع الأموال والمُمتلكات، وبذا تستطيع أنْ تتزوج شابًّا جميل المُحيَّا غنيًّا، أو ذا مركز مرموق، والشُّبان في هذه الأيام يَسعَون وراء الثراء، ثم إنَّ جمالها ليأسر كل شابٍّ، ولا سيما وهي الفتاة اللعوب التي تعرف من أين تُؤْكَل الكتف، وكيف تلعب بالقلوب.
تتجمل محاسن كي تمعن في التضليل، وكان مخدومها يشجعها على ذلك؛ لأنه كان يرى فيها غانية يشتهيها لنفسه ويُسعِده أنْ يراها تعمل شبه عارية، فما إنْ تبدأ محاسن عملها، حتى تخلع فستانها وتظل بالقميص والسروال الشفافين، وبذا كان ذلك الثري ينظر إليها كثيرًا وهي تعمل وتأتي بحركات تبرز مفاتن جسمها، وكانت سيدتها توَدُّها كذلك كي يظل زوجها في سعادة وبهجة أمام ناظريها، بدلًا من أنْ يتزوج ويأتي لها بضُرَّة تُنغِّص عليها عَيْشها وحياتها، بعد أنْ حرمها الزمن نعمة الشباب والجمال وإنجاب الأولاد.
استمرأَت محاسن هذه الحياة السَّهلة الممتعة في ظِل هذا الرجل الشهواني. وأحيانًا، كانت الزوجة تطلب من محاسن أنْ ترقص أمامها وأمام زوجها وهي بالقميص الشفَّاف، فتقوم محاسن على الفور، ترقص في حركات مثيرة وبفَن أصيل كأنها راقصة في مَلهًى، فيجد سيِّدها لذَّة عارمة في رؤيتها كذلك، كما تُسَر سيدتها لسعادة زوجها بمشاهَدة مَحاسن وهي ترقص وتهز أردافها وتغمز له بعينيها غمزات لا يفهمها إلا العشاق، وعلى ذلك كان سيدها يُغدِق عليها الهدايا الثمينة توطئة للإيقاع بها لينال منها مرامه.
لاحظت السيدة العجوز ميل زوجها نحو محاسن، فعَوَّلت على أنْ تساعده على ذلك، وهو أخَفُّ الضرَرَين، بدلًا من أنْ يتزوج، فكانت تخرج لزيارة الأقارب، وتترك زوجها مع مَحاسن كي يخلو لهما الجو، فيتمتع الزوج معها كما يحلو له.
ذات يوم، والسيدة العجوز في زياراتها المتعَمَّدة، طلب زوجها من مَحاسن أنْ ترقص له. فوجدت الفرصة سانحة لكي تثير عواطفه؛ إذ كانت تراعي بعض الاحتشام وهي ترقص في حضرة سيدتها أما الآن، فهي ترقص دون ما حياء ولا خجل؛ إذ ليست سيدتها أمامها، وهي وحدها مع سيدها الذي عوَّلت على أنْ تأسره بشتَّى الطُّرق.
كانت حركات مَحاسن وهي ترقص تنادي مَن يهوى التمتع بها. فلم يتمالك الرجل العجوز نفسه، فهجم على مَحاسن، وضمها إلى صدره متلهفًا، وطوَّقها بذراعيه بشدة حتى كاد يعتصرها، وهو في غير حواسِّه، وانهال على فمها يُقبله بحرارة، ويمص رُضابها الحلو … ثم أخذ يتحسس جسمها، فاستسلمت له راضية مطيعة. فلما رأى الصيد مذعنًا لرغباته، تمادى في عبثه، ولم يتركها إلا بعد أنْ سلبها أغلى ما تعتز به الفتاة.
تكرر هذا العمل مرات ومرات. فكلما كانت سيدة محاسن تزور أقاربها، كان سيدها يزورها في مخدعها يتمتع بجسمها، ويشفي غليله منها كما لو كانت زوجته، ومحاسن لا تمانع، بل تشكر الظروف التي تساعدها على تحقيق خطتها التي رسمتها لنفسها وأحكمت تنفيذها.
تحرك الجنين في رحم محاسن، وبرز بطنها وتكوَّر، فأخبرت سيدها بذلك في حضور سيدتها التي كانت تدرك كل ما كان يدور بين زوجها وخادمتها، وخيرته بين أمرين؛ إما أنْ يتزوجها شرعيًّا ليمحو عارها أمام أمها وأخيها والجيران، وإما أنْ تلجأ إلى البوليس ليأخذ لها حقها منه، فنصحته زوجته بأن يعقد عليها ويتزوجها؛ درءًا للفضيحة والسجن، فوافق الزوج على ما أشارت به زوجته، وحدَّد موعد عقد الزواج بعد أسبوع.
شاهَد أهل الحي بروز بطن محاسن، فكثرت الأقاويل، وانتشرت الشائعات والقصص. كما شاهدت الأم تكور بطن ابنتها محاسن فسألتها عن ذلك في حضور ابنها علاء. فصارحت محاسن أمها بعلاقتها الآثمة مع سيدها، وبأنها لم تعمل مُربِّية، وإنما كانت خادمة لدى هذين العجوزين، وبأنها استسلمت لأغراضه الدنيئة كي يتزوجها مكرهًا، فتَرِث الأموال والعمارات والمَزارع، ثم تجد من يتهافت على طلب يدها، وقد غدَت واسعة الثراء.
فقال علاء: إذن، يا محاسن، فالطفل الذي في بطنك «ابن حرام».
قالت: هو كذلك الآن، ولكنه سيصير ابن حلال بعد أسبوع واحد.
تظاهَر علاء بأنه استحسن فعلة محاسن، وتسلل إلى المطبخ: فأخذ سكينًا شحذها، وعاد إلى أخته بحضور أمه، وغيب نصل السكين في قلب محاسن.
سقطَت محاسن على الأرض جثة هامدة قبل أنْ تحقق ما كانت تحلم به من ميراث، وصدق المثل: «يا وارث! من يرثك؟»