يحيا الحب مع الحرية
ملأت الأفكار الكثيرة رأس سَمير وهو سائر في الطريق متجهًا إلى بيته، متعَبًا ومنهوك القُوى مِن عمله الشاق، الذي يبدأ في الثامنة صباحًا، ولا ينتهي قبل الساعة الرابعة بعد الظهر؛ لذا كان يسير مبلبل الفكر، مشغول الخاطر بتلك الأفكار التي تؤرِّقه ليلًا، وتنفي النوم عن عينيه. ولكنه، رغم هذا، إذا تذكر حبيبته سهير، هانت عليه كل هموم الدنيا.
تعرَّف سمير بسهير في الجامعة الأمريكية … وكانت فتاة حلوة القَسَمات، عذْبَة البَسمات، في غاية الأناقة والفتنة ورقَّة الحديث وسمو الخُلق.
وذات يوم، ابتسمت سهير لسمير، ابتسامة ملكت عليه لُبَّه وفؤاده، وشجَّعَته على أنْ يتقدم إليها ويتحدث معها، ووجد منها استجابة مشجعة؛ فدعاها إلى أنْ تتناول معه قدحًا من الشاي في كافيتريا الجامعة حيث عرَف طرفًا من ظروفها، وحكى لها بعضًا من ظروفه وقلبه قد اشتعل بالميل إليها، بل وبحبها حبًّا جارفًا من أول لقاء … فأفضى إليها بما يعتمل في نفسه نحوها من حب، فأجابته بأن نفس الشيء حدث لها … وهكذا أحب كل من سمير وسهير الآخر، وتوطدت عرى الغرام الشديد بينهما.
لعب التليفون دورًا هامًّا، في حياة هذين العاشقين. فما كان يحلو لسمير أنْ يخاطب حبيبته هذه في التليفون، إلا بعد منتصف الليل، والأهل عنده وعندها نيام، ولا يكون ساهرًا في ذلك الوقت سوى أجفانه وأجفانها، وبذا يمكن لكل منهما أنْ يُسِرَّ إلى حبيبه بمكنون صدره، ويبثه لواعج الحب والهيام، دون رقيب ولا دخيل.
هكذا تحابَّا … وتقابلَا … واختلَيَا … ونَهلَا من كئوس الحب مُتْرَعة؛ إذ تمكَّن العشق من قلبيهما وسَعِد سمير بهذا الحب، كما لم يسعد بشيء من قبل.
بينما سمير سائر والهواجس والأفكار تُراوده وتَشغَله، إذ لمح بالقرب منه فتاة تمشي مع شاب، يتأبَّط ذراعها بشدة ويحاول أنْ يَجُرها جرًّا.
جُنَّ جنون سمير؛ إذ كانت سهير هي تلك الفتاة التي أبصرها تمشي مع ذلك الشاب … حاول أنْ يكذِّب عينيه … ولكنَّ دافعًا جعله يسرع الخطى، حتى مرق بجوارهما، وحدَجها بناظريه … فكانت الطامَّة الكبرى؛ إذ كانت هي سهير بعينها، وبلحمها ودمها، إنها نفس سهير حبيبة قلبه.
دارت الدنيا أمام عيني سمير، وكاد يقع على الأرض مغشيًّا عليه من هول تلك الصدمة التي أصابته؛ إذ كان يعتقد تمامًا أنَّ سهير لا تحب أحدًا سواه، وأنه أول شخص في حياتها الغرامية … إذن، سهير تخونه … وفي وضح النهار علنًا … على عينك يا تاجر … والتاجر هو سمير صاحبنا وصاحبها … ومع من؟ مع شاب أصغر منه سنًّا وأقل أناقة وسماحة، إنه «سنكوح» بالنسبة له.
فكَّر سمير في أنْ يُقدِم على عمل طائش، مما يفعله العشاق في لحظة الهياج والانفعال، ثم يندمون، فراجع نفسه ورأى أنْ يتريث، وأوحى إلى نفسه بأن هذا الشاب قد يكون أخاها أو ابن عمها، ووجودهما معًا بريء … وأقنع نفسه بأن يرجئ الحساب إلى ما بعد منتصف الليل بالتليفون.
ما إنْ دقت ساعة الحائط التي بحجرة نوم سمير، تعلن الثانية عشرة مساءً، حتى أدار قرص التليفون بأرقام تليفون معشوقته، وقال: ألو … سهير؟
– ألو … نعم، يا سمير.
– ما هذا الذي رأته عيناي اليوم؟
– ماذا رأيت، يا حبيبي؟
– رأيت شابًّا، في مقتَبل العمر، يتأبط ذراعك بشدة، ويكاد يُقبِّلك في وسط الشارع أمام عيون الناس.
– أين كان ذلك، يا سمير؟
– في ميدان الفلكي.
– ولكنني لم أزر ميدان الفلكي اليوم، ولا أمس، ولا حتى طوال الأسبوع الماضي كله.
– أتنكرين ما شاهدتُه بعيني رأسي، ولم يخبرني به أحد؟ ألم تكوني مع شابٍّ يتأبط ذراعك، ويحاول أنْ يجرَّك نحوه، ربما لِيقبِّلك أو ليعانقك؟
– لَمْ يتأبطني.
– إذًا، كنتِ مع شاب.
– نعم … هذا صحيح.
– ولمَ تنكرين؟ أتكذبين عليَّ، رغم أنني مررت بجواركما، وحدَجتُك بنظرة ذات معنى التقطَتْها عيناك، وعرفتِ تمامًا، ما أقصد؟
– لقد كنتَ جريئًا، في هذه الحركة، يا سمير … إذ سألني ذلك الشاب عمَّن تكون؟ وعمَّا إذا كان بيني وبينك أية علاقة؟ ودار بيننا حديث طويل؛ لأنه أراد أنْ يعرف نوع هذه العلاقة.
– لا يهمني ماذا قال لكِ ذلك الشاب، ولكن يهمني أنْ أعرف ما هي علاقتك به؟ وكيف سمحتِ لنفسكِ بأن تتركيه يتأبط ذراعك، ويسير إلى جانبك بتلك الصورة على رءوس الأشهاد في شارع من أشهر شوارع القاهرة؟
– أنا حُرة … أفعل ما أريد وما يحلو لي، فلستُ قاصرة أحتاج إلى وصِي.
– وما موقفي منك، وأنت تعرفين حق المعرفة مدى حبي إيَّاكِ؛ إذ أحبك من أعماق قلبي، وأغار من النسيم أنْ يلمس خديك، ومن الثياب أنْ تلتصق بجسمك. أنسيتِ ما بيننا من حب شديد؟ أم أنك ضربتِ بهذا الحب عُرض الحائط، وانتقلتِ إلى حب جديد؟
– كلَّا، يا عزيزي سمير … لم أنسَ حُبَّنا، ولن أنساه، إنه ما زال قائمًا في أغوار فؤادي.
– إذًا … من كان ذلك الشاب الذي راح يجرك في الطريق بكل جرأة؟
– وهل يهمك أنْ تعرف من كان ذلك الشاب؟
– طبعًا … يهمني كثيرًا.
– إذن، فأمسِكْ أعصابك وتمالَكْ نفسك.
– من هو؟ قولي.
– إنه زوجي … نعم، زوجي.
– أحقًّا ما تقولين؟
– كل الحق … كان زوجي، ثم طلَّقَني، ويريد الآن أنْ يَردَّني إلى عِصْمته … كان يشدني ويجرني؛ لأنني كنت أقاومه، ولا أريد الرجوع إليه.
– ولماذا لم تخبريني بأنه قد سبق لكِ الزواج، ثم الطلاق؟
– هذه قصة أردتُ أنْ أنساها تمامًا؛ ولذا دخلت معك في غرام جديد، أُعوِّض به سابِق حُبِّي لمطلِّقي هذا … أريد حبًّا علاقته نظيفة بلا قيود ولا تعقيدات أو ارتباطات، وبلا عقود ولا زواج … علاقة لا تتضمن كلامًا فارغًا، بعد ما مر بي من تجربة قاسية. فإن زواجي بمصطفى لم يَطُل أكثر من شهر، ثم رماني بيمين الطلاق بكل بساطة، ناسيًا الحب، وما كان بيننا من حب قبل الزواج.
– أراكِ تتكلمين عن مصطفى بلوعة وأسًى وحَنَق شديد، لا بد أنه أغضبكِ غضبًا لا مزيد عليه.
– نعم، إذ أسعدتُه في زواجي بما لم تُسعِده امرأة أخرى زوجها … تفانَيت في إمتاعه بجميع الوسائل والطرق، ولكنه خائن، نسي ما حظي به معي من لذة وسعادة وطلقني بدون سبب … كانت نزوة طارئة ندم عليها فيما بعد، ولَاتَ ساعةَ مَندَم. لقد كرَّهَني في الرجال، ولكنك يا سمير، أعَدْتَ إليَّ الثقة بهم؛ لذا أريد أنْ نظل معًا في حب دونه حبي مصطفى قبل أنْ يطلِّقني. وسترى مني، يا سمير كل حب ووفاء وإخلاص، وسنظل أحباء طول العمر، دون أنْ يفكر أيُّنا في الزواج بالآخَر، طالما كانت تلك عاقبة الزواج … وأرجو، يا حبيبي سمير، أنْ تنسى ما رأيتَه اليوم، لنعيش سويًّا حبيبين، قلبًا وقالبًا وروحًا.
– سأنساه تمامًا، يا حبيبتي سهير، كأنه لم يكن، وكأنني لم أبصرك بصحبة مصطفى، نعم، سيكون حبًّا طليقًا حرًّا، وكما يقولون: يحيا الحب مع الحرية!
– نعم، يحيا الحب مع الحرية … سيكون حبًّا دونه حب ليلى وقيس، أو كُثَيِّر وعَزَّة، أو بُثينة وجَميل بن مَعْمَر … سأُسعِدك وأُمتِّعك؛ يا حبيبي سمير بما لم يَسْعَد به مصطفى نفسه. سنعيش إلْفَيْن متآلفَين بلا عُقد زواج، ولا ارتباطات الزواج المُعقَّدة، سترى مني كل حب ووفاء، وكل عشق يتصف بالنقاء، دون ما مَكْر ولا خداع ولا دهاء … أشر إليَّ بإصبعك تجدني أُلبِّي النداء، في شوق وولاء، بغير تملُّق ولا رياء، قُدْني كما تشاء، أُسلِّمك اللواء … أقف إلى جانبك باستمرار في السراء والضراء. وسأتفانَى في الاحتفاظ بجمالي ليمتعك وتراني دائمًا مَليحة حسناء. لا أقول إنك ستنهل من قُبلاتي وحدها، بل ستنال مني كل ما تشاء، دون ما خجل ولا حياء … فنحن شخص واحد وسنظل كذلك طول حياتنا، في الصباح والمساء، وستجد مني ما لا تجده من سائر النساء.
– هل يدور بخلدك أنني كنتُ سأرتكب جريمة اليوم، في ميدان الفلكي؟
– هل كنتَ ستقتلني؟
– لستِ أنتِ وحْدَك، بل كنتُ سأقتلكما كليكما.
– ليتكَ قتلتَني، فهو أهون وأرحم من أنْ يقتلني مصطفى.
– هل هدَّدكِ وتوعدكِ بالقتل؟
– نعم، وقال أكثر من ذلك … قال إنَّه سيفصل رأسي عن جسمي؛ ظنًّا منه أنني على علاقة بشاب جديد، أتمتَّع معه بما يغنيني عنه، هكذا علَّل سبب رفضي العودة إليه. كأنه كان يقرأ الغيب، أو أنَّ شخصًا ما لمَحَنا معًا، فأخبره.
– إذن، فقد كنتِ اليوم هدفًا للقتل، سواء مني أو من مصطفى، ولكنَّ الله تعالى تَحنَّن علينا كلينا بأن نجَّاك من القتل لنحظى معًا بالحب العميق الأصيل، ويعيش كل منا لا يعرف غير صاحبه ولا يحب غيره أو يفكر في أنْ يحب سواه.
– بيد أنَّ الموت على يديك أرحم، يا سمير … على الأقل، أنت تُحبني وتُقدِّر هذا الحب، أما هو فيريد أنْ أعود إليه، ليس حبًّا لي وإنما ليمنعني أنْ أحب غيره، وأحظى مع ذلك الحبيب بالمتعة والسعادة، بينما هو يحب غيري ويسعد معها. يريد التضييق على غيره، والتفريج على نفسه. هذه أنانية بغيضة جُبِلت عليها نفسه. ربما طلقني إرضاءً لمعشوقته، فلما تَنمَّرتْ له أراد العودة إليَّ، ولكن هيهات.
– هل أفهم من كلامك هذا، أنك لا تحبين مصطفى، ولا تميلين إليه؟
– الواقع أنني كنتُ أحبه، أما بعد الطلاق، فانقلب الحب إلى كراهية وبغضاء، وما عدتُ أطيقه أو أطيق رؤيته، ذلك المُحِب لنفسه.
– إذن، فلماذا تزوجْتِه؟
– قلتُ لك، إنَّني كنتُ أحبه إلى أنْ طلَّقَني، ولذلك الحب قصة طويلة، وتاريخ مضى واندثر.
– شكرًا، يا أحلى وألذ سوسو في الدنيا.
– وأنتَ يا أحلى ميمو في العالم كله.
– إذن، فإلى اللقاء غدًا … سأنتظر لقاءك وأنا على أحر من الجمر.
– بإذن الله … وداعًا … وإلى اللقاء.