رحلة إلى مركز الكون
مقدمة عامة إلى الجسيمات، والمادة، والكون بصورة عامة.
***
المادة
آمَن الإغريق القدماء بأن كل شيء يتكوَّن من حفنة قليلة من العناصر الأساسية. كانت فكرتهم صحيحةً في جوهرها، أما التفاصيل فلم تكن كذلك؛ إذ إن العناصر الأساسية — الأرض والهواء والنار والماء — التي رأوا أن كل شيء يتألَّف منها، تتألَّف هي الأخرى بدورها مما نعرفه اليوم باسم العناصر الكيميائية. فالماء الصافي يتألف من عنصرين كيميائيين؛ هما الهيدروجين والأكسجين، والهواء يتألف في معظمه من النِّتروجين والأكسجين، مع مسحة من الكربون والأرجون. تحتوي قشرة الأرض على معظم العناصر التسعين الموجودة في عالمنا بصورة طبيعية، وأبرزها الأكسجين والسليكون والحديد، والمختلطة بالكربون والفسفور والكثير من العناصر الأخرى التي لم يسبق لك على الأرجح أن سمعتَ بها على غرار الروثينيوم والهولميوم والروديوم.
تتفاوت العناصر من حيث وفرتها تفاوتًا عظيمًا، وكقاعدة عامة، فإن أول العناصر التي تتبادر إلى ذهنك هي من أكثر العناصر شيوعًا، بينما تلك التي لم يسبق لك أن سمعتَ بها من قبلُ قطُّ، هي العناصر الأندر. ومن ثَمَّ فإن الأكسجين هو أول ما يتبادر إلى ذهنك؛ فمع كل شهيق، يدخل جسدَك ملايينُ مليارات المليارات من ذرات الأكسجين، وهو ما يفعله الخمسة مليارات شخص الذين يعيشون على سطح الكوكب، إضافةً إلى عدد لا يُحصَى من الحيوانات، كما يتبقَّى الكثير والكثير من ذرات الأكسجين لتأدية أعمال أخرى. ومع الزفير، تخرج هذه الذرات من جسدك بصحبة ذرات الكربون، مكوِّنةً جزيئات من ثاني أكسيد الكربون؛ ذلك الوقود الذي تعيش عليه الأشجار والنباتات. أعداد هذه الذرات هائلة، ويشغل عنصُرَا الأكسجين والكربون مكانًا في القاموس اللغوي لكل شخص. قارِنْ هذا بعناصر كالأستاتين أو الفرانسيوم؛ فحتى لو كنتَ قد سمعتَ بهذين العنصرين من قبلُ، فمن غير المرجَّح أن تكون قد صادفت أيهما في الطبيعة؛ إذ يقدَّر أن ثمة أقلَّ من أوقية واحدة من الأستاتين في قشرة الأرض، أما الفرانسيوم فقد زُعِم أنه في أي لحظة بعينها لا يوجد منه إلا نحو ٢٠ ذرة على الأرجح في العالم حولنا.
الذرة هي أصغر جزء من العنصر يمكن التعرُّف منه على هوية هذا العنصر. وأغلب هذه العناصر — على غرار الأكسجين الذي تتنفَّسه والكربون الموجود في جلدك — تَكوَّن في النجوم منذ نحو خمسة مليارات عام، حين كانت الأرض في طور التكوين. الهيدروجين والهليوم أقدم من ذلك؛ فأغلب ذرات الهيدروجين تكوَّنَتْ بعد الانفجار العظيم بوقت يسير، ثم وفَّرَتْ بعد ذلك الوقود للنجوم، التي تكوَّنَتْ داخلها بقية العناصر الأخرى.
فكِّرْ ثانيةً في نَفَسٍ من الأكسجين وما يدخل إلى رئتيك من ملايين مليارات المليارات من الذرات. هذا من شأنه أن يمنحك فكرةً عن مدى صغر حجم الذرة. ثمة سبيلٌ آخَر ويتمثَّل في النظر إلى النقطة التي تنتهي بها هذه العبارة؛ يحتوي الحبر الذي تتكون منه هذه النقطة على ١٠٠ مليار ذرة كربون، ولرؤية إحدى هذه الذرات بالعين المجردة، ستحتاج إلى تكبير النقطة حتى يصل قُطْرها إلى ١٠٠ متر.
منذ مائة عام كان من المعتقد أن الذرات أجسام غير قابلة للاختراق، وكأنها كرات بلياردو ضئيلة الحجم، لكننا نعرف اليوم أن كلَّ ذرة لها بنية داخلية معقَّدَة. في مركز الذرة هناك النواة الكثيفة المضغوطة، التي تمثِّل كتلة الذرة كلها تقريبًا وتحمل شحنة كهربية موجبة. في النطاق الخارجي للذرة هناك جسيمات خفيفة بالغة الصغر تُسمَّى «الإلكترونات». للإلكترون شحنة سالبة، والجذب المتبادل بين الشحنتين المتعارضتين هو ما يُبقِي الإلكتروناتِ السالبةَ الشحنةِ على دورانها حول النواة المركزية الموجبة الشحنة.
انظر إلى النقطة التي تنتهي بها العبارة مرة أخرى. ذكرت سلفًا أنك كي ترى إحدى الذرات بالعين المجردة ستحتاج إلى تكبير النقطة حتى يصل قطرها إلى ١٠٠ متر. هذا حجم هائل، لكن من الممكن تصوُّره. لكن كي ترى نواة الذرة، ستحتاج إلى تكبير النقطة إلى أن يصل قطرها إلى ١٠ آلاف كيلومتر؛ أي يصير قطرها مماثلًا لقطر الأرض من القطب للقطب.
المساحة بين النواة المركزية المضغوطة والإلكترونات البعيدة التي تدور حولها تتألف في الأغلب من فضاء خاوٍ. هذا ما تؤكِّده كُتُبٌ عدة، وهو أمر صحيح من منظور الجسيمات التي تؤلِّف الذرات، بَيْدَ أن هذا نصف القصة وحسب. فهذا الفضاء مليء بمجالات كهربية ومغناطيسية قوية لدرجة تجعلها قادرة على منعك تمامًا من محاولة دخول فراغ الذرة، وهذه المجالات هي ما تعطي المادة صلابتها، حتى رغم «الخواء» الذي يُفترض أن تكون عليه ذراتها. وبينما أنت جالس تقرأ هذه الكلمات، يفصل بين جسدك وبين ذرات الكرسي الذي تجلس عليه مسافة قدرها ذرة واحدة بفعل هذه القوى.
رغم ما عليه هذه القوى الكهربية والمغناطيسية من شدة، إلا أنها تافهة للغاية مقارنةً بالقوى العاملة بالفعل داخل نواة الذرة. فإذا تمكَّنَّا من خلخلة تأثيرات هذه القوى العاتية فسيكون بمقدورنا إطلاق العِنان للقوة النووية، وإذا تمكَّنَّا من خلخلة القوتين الكهربية والمغناطيسية فسنحصل على تأثيرات الحياة الكيميائية والبيوكيميائية المحيطة بنا في كل مكان. هذه التأثيرات اليومية تحدث بسبب الإلكترونات الموجودة في النطاقات الخارجية للذرات، بعيدًا عن النواة. قد تتبادل الإلكترونات الموجودة في الذرات المتقاربة أماكنها، وبذا تتكون الجزيئات. إن الأعمال المذهلة لهذه الإلكترونات هي عصب علم الكيمياء، وعلم الأحياء، والحياة إجمالًا. هذا الكتاب لا يدور حول هذه الموضوعات التي تتعامل مع السلوك الجمعي للذرات المتعددة، بل على العكس، نحن نريد أن نُبحِر داخل الذرة ونفهم ما يوجد بها.
داخل الذرة
يبدو الإلكترون جسيمًا أساسيًّا غير قابل للتقسيم بحق، ولم يحدث بعدُ أن اكتشفنا أي بنية أصغر خاصة به. لكن النواة المركزية تتكون من جسيمات أخرى أصغر، هي «البروتونات» و«النيوترونات».
البروتون موجب الشحنة، وهو مصدر الشحنة الموجبة الإجمالية للنواة، وكلما زاد عدد البروتونات الموجودة داخل النواة زادت شحنتها، وبالتبعية زاد عدد الإلكترونات التي يمكنها الدوران حولها، وذلك من أجل تكوين ذرَّة تتساوى فيها الشحنتان الموجبة والسالبة، بحيث تصير شحنتها الكليَّة متعادلة. ولهذا رغم شدة القوى الكهربية العاملة داخل الذرات التي تتكون منها أجسادنا، فإننا لا نعيها تقريبًا، وليس للجسم البشري شحنة كهربية. تتكون ذرة أبسط العناصر — الهيدروجين — من بروتون واحد وإلكترون واحد. وعدد البروتونات داخل النواة هو ما يميِّز أي عنصر عن غيره؛ فتتكون نواة الكربون من ستة بروتونات، ونواة الحديد من ستة وعشرين بروتونًا، ونواة اليورانيوم من ٩٢ بروتونًا.
الشحنات المتباينة تتجاذب، بينما الشحنات المتشابهة تتنافر؛ لذا من قبيل العجب أن تتمكَّن البروتونات — التي تتنافر مع بعضها بفعل هذه الشحنة الكهربية — من البقاء معًا في حيِّز النواة. سبب هذا هو أنه عندما يتلامس بروتونان، فإنه يمسك بعضُهما ببعض بإحكام بفضل ما يُعرَف باسم القوة النووية الشديدة (أو التفاعل القوي)، هذه القوة الجاذبة أقوى كثيرًا من التنافر الكهربي، ومن ثَمَّ فهي السبب الذي يجعل أنوية ذراتنا لا تنفجر على نحو تلقائي. ومع ذلك، ليس من الممكن حشد عدد كبير للغاية من البروتونات في مساحة ضيقة؛ ففي النهاية يصير التنافر الكهربي عظيمًا لدرجة لا تُحتمَل. وهذا أحد الأسباب وراء احتواء نواة أثقل العناصر الموجودة بصورة طبيعية — اليورانيوم — على ٩٢ بروتونًا فقط في كل نواة، فإذا حشدت المزيد من البروتونات معًا فلن تتمكن النواة من البقاء. وفيما وراء اليورانيوم هناك عناصر أخرى عالية النشاط الإشعاعي، على غرار البلوتونيوم الشهير بعدم استقراره.
تحتوي أنوية العناصر كلها، خلا الهيدروجين، على نيوترونات إلى جانب البروتونات. والنيوترونات هي نسخة محايدة الشحنة الكهربية من البروتونات؛ إذ إنها تضاهي البروتونات حجمًا، كما أن كتلتها تقترب حتى كسر بسيط من المائة من كتلة البروتونات. تتماسك النيوترونات معًا بنفس القوة التي تتماسك بها البروتونات، ولأنها متعادلة الشحنة فإنها لا تعاني من أي خلل كهربي، على العكس من البروتونات. نتيجةً لذلك، تضيف النيوترونات إلى كتلة النواة، وإلى القوة النووية الشديدة الجاذبة الكلية، وبهذا تساعد في استقرار النواة.
حين تكون النيوترونات في هذه البيئة — كما الحال حين تكون جزءًا من ذرة حديد — يمكنها البقاء دون تغيُّر لمليارات الأعوام. لكن بعيدًا عن مثل هذا التجمُّع المتماسك، يتسم النيوترون المنفرد بعدم الاستقرار. فهناك قوة واهنة تسمى القوة النووية الضعيفة (أو التفاعل الضعيف)، من تأثيراتها تدمير النيوترون وتحويله إلى بروتون. ويمكن أن يحدث هذا حين يُحشَد الكثير من النيوترونات إلى جانب البروتونات داخل النواة. وتأثير هذا التحويل هو تغيير نواة عنصر إلى نواة عنصر آخَر. هذا التحويل هو أساس النشاط الإشعاعي والقوة النووية.
إذا عمدت إلى تكبير النيوترون أو البروتون آلاف المرات، فستلحظ أن لهما بنية داخلية غنية. فالبروتون والنيوترون يشبهان سرب النحل، الذي حين يُرَى عن بُعْد يُعتقَد أنه بقعة واحدة داكنة، بينما حين يُرَى عن قرب يتبيَّن أنه سحابة تعجُّ بالطاقة. فعند التصوير على طاقة منخفضة سيبدوان أشبه بنقاط بسيطة، لكن عند النظر إليهما بميكروسكوب عالي الدقة، يتضح أنهما يتألفان من عناقيد من جسيمات أصغر تُسمَّى «الكواركات».
لنستعِنْ بتشبيه النقطة الموضوعة في نهاية العبارة مرةً أخيرة. لقد تعيَّنَ علينا تكبيرها إلى قطر ١٠٠ متر حتى نرى الذرة، وإلى قطر كوكب الأرض حتى نرى النواة، لكن للكشف عن الكواركات سنحتاج إلى تكبير النقطة حتى المسافة إلى القمر، ثم تكرار ذلك عشرين مرةً. باختصار: البنية الأساسية للذرة تتخطى حدود الخيال.
من واقع معرفتنا الحالية، لقد وصلنا أخيرًا إلى الجسيمات الجوهرية للمادة، فالإلكترونات والكواركات تشبه أبجدية الطبيعة؛ أي القطع الأساسية التي منها يتألف كل شيء آخَر. وإذا كان هناك وجود لشيء أكثر جوهرية، مثل النقطة والشرطة التي تتألف منها شفرة مورس، فلسنا نعلم على وجه اليقين ماهيته. يرى البعض أننا لو كبَّرنا الإلكترون أو الكوارك بمقدار مليار مليار مرة، فسنكتشف أن شفرة مورس الكامنة هي أشبه بالأوتار التي تتذبذب في كونٍ به من الأبعاد ما هو أكثر من الأبعاد الثلاثة المكانية والبعد الزمني المألوفة لدينا.
لا يزال إثبات هذا الافتراض أو نفيه أمرًا يحمله المستقبل، لكني أود أن أخبرك شيئًا عن الكيفية التي تعرَّفنا بها على الإلكترون والكوارك؛ عن ماهيتهما، وكيفية تصرفهما، وعن الأسئلة التي تواجهنا.
القوى
إذا أمكن تشبيه الإلكترون والكوارك بالحروف، فثمة تشبيه مماثل للقواعد اللغوية؛ تلك القواعد التي تربط بين الحروف لتحوِّلها إلى كلمات، وعبارات، وأدب. وفي كوننا، ذلك الرابط هو ما نسميه القوى الأساسية. هناك أربع قوى أساسية، أشهرها قوة الجاذبية، والجاذبية هي القوة المهيمنة على المادة الكثيفة (المادة في أحجامها الكبيرة). تترابط أجزاء المادة بعضها ببعض بواسطة القوة الكهرومغناطيسية، وهذه القوة هي التي تُبقِي على الإلكترونات داخل الذرات وتربط بين الذرات بعضها ببعض لتكوين الجزيئات والبنى الأخرى الأكبر. أما داخل النواة وحولها فنجد القوتين الأخريين: القوة النووية الشديدة، والقوة النووية الضعيفة. تربط القوة النووية الشديدة بين الكواركات لتكوِّن الكريات الصغيرة التي نسمِّيها البروتونات أو النيوترونات، وهذه البروتونات والنيوترونات تتماسك بدورها في إحكامٍ مشكِّلَةً نواة الذرة. أما القوة النووية الضعيفة فتغيِّر الجسيم من نوع إلى آخَر، كما يحدث في بعض صور النشاط الإشعاعي؛ فتستطيع هذه القوة تغيير البروتون إلى نيوترون — أو العكس — وهو ما يؤدي إلى تحويل العناصر. وأثناء قيامها بذلك هي أيضًا تحرِّر جسيمات تُعرَف باسم النيوترينوات. والنيوترينوات جسيمات خفيفة متعادلة الشحنة سريعة الزوال، لا تستجيب إلا للقوة النووية الضعيفة وقوة الجاذبية. تمر ملايين من هذه الجسيمات خلالك في هذه اللحظة، ويأتي بعضها من النشاط الإشعاعي الطبيعي للصخور الموجودة تحت قدميك، فيما يأتي أغلبها من الشمس بعد أن تكوَّنت داخل أتونها النووي المركزي، بل إن مصدر بعضها هو الانفجار العظيم نفسه.
فيما يخص المادة الموجودة على الأرض، وأغلب ما يمكننا رؤيته في الكون، هذه هي الشخصيات الرئيسة التي ستحتاج إلى مقابلتها. فلتكوين كل شيء موجود حولنا، سنحتاج إلى تلك المكونات الأساسية المتمثِّلة في الإلكترونات والنيوترينوات، إضافةً إلى نوعين من الكواركات هما الكواركات العلوية والسفلية، وهما أساس النيوترونات والبروتونات التي تتألف منها نواة الذرة. تؤثِّر القوى الأساسية على هذه الجسيمات الأساسية بطرق انتقائية، بحيث تبنى المادة الكثيفة إلى أن تصل في النهاية إلى تكوين البشر أمثالك وأمثالي، والعالم حولنا، وأغلب الكون المرئي.
لما كانت الصورة تغني عن ألف كلمة، سألخِّص لك القصة التي حكيناها إلى الآن في هذين الشكلين اللذين يوضحان البنية الداخلية للذرة وقوى الطبيعة.
كيف نعرف هذا؟
جزء مهم في قصتنا يتمثَّل في كيفية معرفتنا بهذه الأشياء. للتعرُّف على كوننا على جميع المستويات — بدايةً من المسافات الشاسعة التي تفصلنا عن النجوم، وحتى المسافات الصغيرة على نحو يستحيل تخيُّله الموجودة داخل نواة الذرة — سنحتاج إلى مضاعفة حواسنا بمساعدة بعض المعدات. تمكِّننا التليسكوبات من النظر بعيدًا، بينما تكشف الميكروسكوبات عما تكون عليه الأشياء على مسافات صغيرة. بَيْدَ أن النظر داخل نواة الذرة يتطلَّب نوعًا خاصًّا من الميكروسكوبات يُعرَف بمعجِّلات الجسيمات التي يتم داخلها — بواسطة المجالات الكهربية — تعجيل جسيمات ذات شحنة كهربية على غرار الإلكترونات أو البروتونات إلى سرعات عالية تناهز سرعة الضوء، ثم جعلها تصطدم بأهداف محدَّدة من المادة أو حتى تصطدم بعضها ببعض. يمكن لنتائج عمليات الاصطدام هذه أن تكشف عن البنية العميقة للمادة. وهي لا تكشف فقط عن الكواركات التي تمثِّل أساس نواة الذرة، بل تكشف أيضًا عن أشكال مذهلة من المادة ذات أسماء عجيبة — على غرار الكواركات الغريبة والساحرة والقِمِّية والقاعية — إضافةً إلى ما يبدو كأنه أشكال أثقل للإلكترون، تُعرَف بالميوون والتاوون. لا تلعب هذه الجسيمات دورًا واضحًا في المادة التي من المعتاد أن نجدها على الأرض، وليس من المفهوم تمامًا بعدُ سببُ استخدامِ الطبيعة لها. وتُعَدُّ الإجابة على مثل هذه التساؤلات من التحديات التي تجابهنا في الوقت الحالي.
رغم أن هذه الأشكال العجيبة من المادة ليست هي السائدة اليوم، يبدو أنها كانت وفيرة في اللحظات الأولى من عمر الكون عقب الانفجار العظيم، الذي أذِنَ ببداية كوننا المادي. وهذه الفكرة جاءتنا أيضًا من نتائج تجارب الجسيمات العالية الطاقة، إضافةً إلى الإدراك العميق لما تقوم به هذه التجارب. فلخمسين عامًا ركَّزَتْ فيزياءُ الجسيمات العالية الطاقةَ على الكشف عن البنية الداخلية العميقة للمادة، وفهم الأشكال العجيبة للمادة التي ظهرت على نحو غير متوقَّعٍ. وفي الربع الأخير من القرن العشرين، طوَّرنا نظرة عميقة للكون مفادها أن الكون المادي الذي نراه اليوم ظهر نتيجةَ انفجارٍ عظيم حار، وأن اصطدام الجسيمات دون الذرية قادرٌ على أن يُعِيد بصورة لحظية إنشاء الظروف التي كانت سائدةً في تلك الحقبة المبكرة للغاية من عمر الكون.
وبناءً عليه، ننظر اليوم إلى الاصطدامات بين الجسيمات العالية الطاقة باعتبارها وسيلةً لدراسة الظواهر التي سادت الكون حين كان وليدًا. فبإمكاننا دراسة الكيفية التي نشأت بها المادة، واكتشاف أنواع المادة المختلفة التي كانت موجودة وقتها؛ واستنادًا إلى هذه المعرفة يمكننا بناءُ النظرية الخاصة بكيفية تطوُّر الكون المادي من ذلك المرجل البدائي الحار وصولًا إلى الظروف الباردة الموجودة على الأرض اليوم، حيث تتألف المادة من إلكترونات، دون الحاجة إلى ميوونات وتاوونات، وحيث تتألف نواة الذرة من كواركات علوية وسفلية فقط، دون الحاجة للكواركات الغريبة أو الساحرة.
بصورة عامة للغاية، هذه قصة ما حدث. تكوَّنت المادة التي وُلِدت أثناء الانفجار العظيم من كواركات وجسيمات أشبه بالإلكترونات. فيما يخص الكواركات، تتسم الكواركات الغريبة والساحرة والقِمِّية والقاعية بعدم الاستقرار الشديد، ومن ثَمَّ فقد فَنَتْ في غضون كسر بسيط من الثانية، وحوَّلَتْها القوة الضعيفة إلى أشكال أكثر استقرارًا؛ وهي الكواركات العلوية والسفلية التي واصلت البقاء حتى يومنا هذا. وقد حدث أمر مشابه مع الإلكترون ونسختيه الأثقل؛ الميوون والتاوون. فالميوون والتاوون يتَّسِمان هما أيضًا بعدم الاستقرار، ومن ثَمَّ فقد فنيَا بفضل القوة الضعيفة وبقي الإلكترون وحده. خلال عمليات التحلل هذه أُنتِجت كميات هائلة من النيوترينوات والإشعاع الكهرومغناطيسي، وهي لا تزال تغمر أرجاء الكون بعد مرور نحو ١٤ مليار عام على مولده.
ظلت الإلكترونات والكواركات العلوية والسفلية باقيةً بينما كان الكون وليدًا حارًّا، ومع برودة الكون، التصقت الكواركات بعضها ببعض، مكوِّنةً البروتونات والنيوترونات. وقد تسبَّبت قوى الجذب المتبادلة بين هذه الجسيمات في تجميعها على صورة سُحُب شكَّلت النجوم البدائية. وبينما اصطدمت هذه الجسيمات بعضها ببعض في قلوب تلك النجوم، كوَّنت البروتونات والنيوترونات بذرة العناصر الأثقل. صارت بعض النجوم غير مستقرة وانفجرت، مُطلِقة هذه الأنوية الذرية في الفضاء، حيث حاصرت الإلكترونات مكوِّنة ذرات المادة كما نعرفها. هذا ما نعتقد أنه حدث منذ نحو خمسة مليارات عام، حين كانت المجموعة الشمسية في طور التكوُّن، فتلك الذرات الآتية من المستعرات العظمى البائدة منذ زمن بعيد هي ما يشكِّل أجسامنا اليوم.
ما يمكننا عمله اليوم في تجاربنا هو عكس هذه العملية وملاحظة المادة وهي تعود إلى صورها البدائية الأصلية. فإذا سخَّنَّا المادة إلى بضعة آلاف درجة فستتأيَّن ذراتها؛ أي ستنفصل الإلكترونات عن الأنوية المركزية. هكذا الحال داخل الشمس؛ فالشمس بلازما؛ أي سُحُب من الإلكترونات والبروتونات ذات الشحنة الكهربية التي تدور على نحو مستقل. وفي درجات حرارة أعلى من تلك، مماثلة للظروف التي يمكن الوصول إليها في معجلات الطاقة العالية الصغيرة نسبيًّا، تتفكك الأنوية إلى مكوناتها الأساسية من بروتونات ونيوترونات. وفي ظل درجات حرارة أعلى من تلك، «تذوب» هذه الجسيمات بدورها متحوِّلة إلى بلازما من الكواركات الحرة الحركة.
كيف حدث كل هذا؟ وكيف نعرفه؟ وما الذي اكتشفناه؟ هذه الأسئلة هي محور هذه المقدمة القصيرة جدًّا.