أسئلة تنتظر الإجابة في القرن الحادي والعشرين
في هذا الفصل سنناقش السؤال التالي: إلى أين سنذهب بعد ذلك؟ وسنتعرض للموضوعات التالية: المادة المظلمة في الكون. بوزون هيجز، ما هو؟ ولماذا نهتم بشأنه؟ وكيف يمكننا العثور عليه؟ قياسات الدقة المجراة على الجسيمات العجيبة الثقيلة. هل هناك أبعاد أخرى أكثر من تلك التي نتقبَّلها في وقتنا الحالي؟ كيف ستُظهِر هذه الأبعاد نفسها في التجارب؟ سنستعرض أيضًا مستقبل المعجلات. هل ستكون هناك نهاية لفيزياء الجسيمات العالية الطاقة؟
***
المادة المظلمة
البروتونات وأنوية الذرات العادية هي أساس كل أشكال «المادة الساطعة» التي تظهر في جميع مشاهداتنا الفلكية. ومع ذلك، فإن حركة المجرات الحلزونية مثلًا، تبيِّن أن المادة الساطعة المرصودة لا تفسِّر وحدها قوة الجذب المؤثرة على هذه المجرات. إن أكثر من ٩٠ بالمائة من المادة لم يُرصَد بعدُ، ويبدو أن الكون الذي نراه بواسطة إشعاعاته الكهرومغناطيسية أقل بكثير في الحجم من تلك المادة المظلمة الغامضة التي لا تظهر مطلقًا على أي طول موجي في تليسكوباتنا.
لو أن هناك وجودًا ﻟ «أجرام الهالة الهائلة المضغوطة»، التي يمكن أن تَكُون أجرامًا في حجم كوكب المشتري، لكنها ليست كبيرة بما يكفي كي تكون نجومًا ساطعة أو ثقوبًا سوداء؛ فسيكون من الممكن رصدها من خلال التقاط صور ثنائية أو متعددة للنجوم أو المجرات البعيدة، وذلك بفضل تأثير عدسة الجاذبية، إلا أن البحث بهذه الوسيلة لم يتمخض بعدُ عن عدد كافٍ من أجرام الهالة الهائلة المضغوطة بحيث يفسِّر المقدار الهائل من المادة السوداء التي يبدو أن الكون يحتوي عليها؛ ولهذا تحوَّلَ الفيزيائيون الفلكيون وعلماء الكونيات إلى فيزياء الجسيمات للحصول على المزيد من الفِكَر.
من الأفكار المحتملة المثيرة للاهتمام فكرة أن المادة المظلمة قد تتكوَّن من كميات هائلة من الجسيمات دون الذرية التي لا تتفاعل تفاعلًا كهرومغناطيسيًّا (وإلا لكنَّا رصدنا الإشعاع الكهرومغناطيسي الصادر عنها). أحد الجسيمات المرشحة بقوة هو النيوترينو، الذي يمكن أن تتسبَّب كتلته الطفيفة، لكن غير الصفرية، في جَعْل سحب ضخمة من هذا الجسيم يجذب بعضُها بعضًا وتساعد على البدء في تكوين المجرات.
في الحقبة المبكرة من عمر الكون، كان من شأن هذه النيوترينوات أن تتحرك بنشاط فائق، بحيث تضاهي سرعتُها سرعةَ الضوء. وفق المصطلحات المتخصصة تُوصَف هذه الكيانات الطائرة بصفة «الحارة»، وتظهر عمليات المحاكاة الحاسوبية لتطور المجرات في كون مليء بهذه «المادة السوداء الحارة» أن المجرات تتكون في عناقيد كثيفة ذات فراغات كبيرة فيما بينها، ومع ذلك لا تبدو النماذج الحاسوبية للكون مشابهةً لما يرصده الفلكيون في الواقع.
كان تطور المجرات سيسير على نحو مختلف تمامًا لو أن هذه المادة السوداء تكوَّنت من جسيمات ضخمة بطيئة الحركة، ومن ثَمَّ «باردة». مشكلة هذا الطرح هي أنه لا وجود لمثل هذه الكيانات في النموذج المعياري؛ لذا إذا كان هذا هو حل مشكلة المادة المظلمة، فمن شأنه أن يستدعي سؤالًا آخَر: ما هي هذه الجسيمات؟
يأخذنا هذا إلى الأفكار الحالية بشأن ما يكمن خلف النموذج المعياري. تطرح إحدى النظريات المفضلة فكرةَ وجود جسيمات «فائقة التناظر»، وأخف هذه الجسيمات يتضمن أشكالًا لا تستجيب للقوة الكهرومغاطيسية أو القوة الشديدة، لكن يمكن أن تكون أثقل بمئات المرات من البروتونات. قد تملك التصادمات التي تحدث في أعلى معجلات الجسيمات طاقةً — وتحديدًا المعجل تيفاترون في مختبر فيرميلاب ومصادم الهادرونات الكبير في سيرن — الطاقةَ الكافية لإنتاج هذه الجسيمات، وإذا تم العثور على مثل هذه الجسيمات، فسيكون التحدي هو دراسة خصائصها تفصيلًا، وتحديدًا معرفة ما إذا كان بإمكانها أن تكون عناقيد كبيرة الحجم من المادة المظلمة في الحقبة المبكرة من عمر الكون.
وهذا ينقلنا إلى السؤال التالي: ما هو التناظر الفائق؟
التناظر الفائق
رأينا أن الفرميونات — الكواركات واللبتونات — تظهر وحدة عميقة، والأمر عينه ينطبق على البوزونات الحاملة للقوى. لماذا تتألف «جسيمات المادة» (ظاهريًّا) من فرميونات ذات لف مغزلي قدره ١ / ٢، بينما تُنقَل القوى بواسطة بوزونات ذات لف مغزلي قدره واحد صحيح؟ هل يمكن أن يكون هناك تناظر إضافي بين القوى وجسيمات المادة، بحيث يكون للفرميونات المعروفة نظراء من بوزونات جديدة، ويكون للبوزونات المعروفة نظراء من فرميونات جديدة، وبحيث تُنقَل قوى جديدة بواسطة هذه الفرميونات؟ هل يمكن لهذا أن يؤدي إلى توحيدٍ أكثر اكتمالًا بين القوى والجسيمات؟ وفق النظرية المعروفة باسم التناظر الفائق، الإجابة هي نعم.
في نموذج التناظر الفائق، هناك عائلات من البوزونات ترافِق الكواركات واللبتونات المعروفة، وهي تُعرَف باسم «الكواركات الفائقة» و«اللبتونات الفائقة». لو كان التناظر الفائق دقيقًا على نحو تام، فسيكون لكل نوع من اللبتونات أو الكواركات الكتلة عينها التي يملكها نظيره الفائق. سيكون لكلٍّ من الإلكترون والإلكترون الفائق الكتلة عينها، وبالمثل سيكون للكوارك العلوي والكوارك العلوي الفائق الوزن نفسه، وهكذا. لكن في الواقع، لا تسير الأمور على هذا النحو؛ فالإلكترون الفائق، لو كان له وجود، فستبلغ كتلته قدرًا أكبر بكثير من ١٠٠ جيجا إلكترون فولت، وهو ما يعني ضمنًا أنه سيكون أثقل بمئات آلاف المرات من الإلكترون. والأمر عينه ينطبق على الكواركات الفائقة واللبتونات الفائقة.
المزحة المعتادة، والفاترة أيضًا، هي أن التناظر الفائق لا بد من أن يكون صحيحًا؛ إذ إننا وجدنا نصف الجسيمات بالفعل. بعبارة أخرى، لم يحدث بعدُ أن عثرنا على أي دليل قاطع على وجود أي كوارك فائق أو لبتون فائق، ولا أي فوتينو أو جلووينو أو وينو أو زينو. ويحتل البحث عن هذه الجسيمات في الوقت الحالي أولويةً عظمى.
في ظل هذا النقص في الأدلة على وجود الجسيمات الفائقة، قد يتعجَّب المرء من سبب إيمان المنظرين بنموذج التناظر الفائق من الأساس. يتضح لنا أن مثل هذا التناظر أمر طبيعي للغاية، على الأقل من الناحية الحسابية، في ظل طبيعة الزمان والمكان كما تتضمنها نظرية النسبية لأينشتاين وطبيعة نظرية الكم. فالنمط الناتج من الجسيمات الفائقة يحل بعضًا من المشكلات الفنية في الصياغة الحالية لفيزياء الجسيمات، ويضفي التوازن على نظريات الكم الخاصة بسلوك القوى المختلفة على الطاقات العالية واستجابات الجسيمات لهذه القوى. باختصار، دون نموذج التناظر الفائق، تؤدي محاولات بعينها لبناء نظريات موحَّدة إلى نتائج عبثية، على غرار إمكانية أن تقع أحداث معينة باحتمالات لا نهاية لها، ومع ذلك فإن التفاوتات الكمية، التي فيها يمكن للجسيمات والجسيمات المضادة أن تظهر لحظيًّا من الفراغ قبل أن تتلاشى مجدَّدًا، يمكن أن تتأثر بجسيمات نموذج التناظر الفائق إلى جانب تأثُّرها بالجسيمات المعروفة الأخرى. ومن دون الإسهامات التي يقدِّمها نموذج التناظر الفائق، تعطي بعض العمليات الحسابية نتائج عبثية، على غرار الاحتمالات اللانهائية التي ذكرناها سلفًا، لكن حين تُدرَج إسهامات هذا النموذج، تظهر نتائج أكثر معقولية. وتشجِّع حقيقةُ أن تلك النتائج المجافية للمنطق قد اختفت ما إن تم استخدام نموذج التناظر الفائق؛ آمالَ العلماء في أن التناظر الفائق موجود بالفعل في نظام الطبيعة. لا شك في أن التخلص من النتائج العبثية أمر ضروري، لكننا ما زلنا لا نعرف ما إذا كانت النتائج المعقولة تتوافق بالفعل مع الطريقة التي تسير بها الأمور داخل الطبيعة أم لا؛ ومن ثَمَّ فإن لدينا على أفضل التقديرات لمحاتٍ عن أن نموذج التناظر الفائق يعمل بنجاح، وإن كان يعمل على نحو خفي علينا في الوقت الحالي. والتحدي هو إنتاج جسيمات تناظرية فائقة في التجارب العملية، وهذا من شأنه إثبات النظرية وتمكين الفهم المفصل لها من الظهور، من واقع دراسة خصائص هذه الجسيمات.
قد يكون التناظر الفائق مسئولًا على الأقل عن بعضٍ من المادة المظلمة التي تبدو وكأنها تهيمن على الكون المادي. فمن واقع حركة المجرات وغيرها من القياسات الكونية، يمكن الخلوص إلى أن نحو ٩٠ بالمائة من الكون يتكون من مادة «مظلمة» غامضة، ومظلمة هنا تعني أنه ليس لها أي سطوع، وهو ما قد يرجع إلى أن القوة الكهرومغناطيسية لا تؤثِّر بها. في نموذج التناظر الفائق، إذا كانت أخفُّ الجسيمات الفائقة متعادلة الشحنة الكهربية، على غرار الفوتينو والجلووينو مثلًا، فيمكنها أن تكون شبه مستقرة؛ ومن ثَمَّ يكون بمقدور هذه الجسيمات تكوين مجموعات كبيرة الحجم بفضل قوى الجذب المتبادلة بينها، وذلك على نحو أشبه بالطريقة التي تكوَّنَتْ بها النجوم في بداياتها. لكن بينما تتكون النجوم من الجسيمات العادية — ويكون بإمكانها المرور بعملية الاندماج النووي وأن تستشعر الضوء بفضل استشعارها القوى الأربع كافة — فإن البوزونات الفائقة لن يكون بوسعها ذلك. وحين تُكتشف جسيمات التناظر الفائق — إن اكتُشِفت من الأساس — فسيكون من المثير معرفة ما إذا كانت الجسيمات المتعادلة المطلوبة هي بالفعل أخف الجسيمات، وما إذا كانت تملك الخصائص المطلوبة، وإذا تبيَّنَ أن الأمر كذلك بالفعل، فسنكون بصدد أجمل تلاقٍ يمكن أن يحدث بين مجال فيزياء الجسيمات العالية الطاقة والكون إجمالًا.
النيوترينوات الضخمة
في النموذج المعياري للجسيمات، يُفترض أن تكون النيوترينوات عديمة الكتلة، وسبب هذا الافتراض هو أنه لم يتمكن أي شخص من أن يقيس قيمة محدَّدة لأي كتلة قد تحملها هذه النيوترينوات، فمقدار كتلتها ضئيل للغاية لدرجة أنه من الممكن أن تساوي صفرًا. ومع ذلك، لا يوجد مبدأ أساسي نعلمه ينصُّ على أن تكون النيوترينوات عديمة الكتلة، بل في واقع الأمر، بتنا نعرف الآن أن النيوترينوات لها كتلة، كتلة ضئيلة للغاية مقارنةً حتى بكتلة الإلكترون، لكنها رغم هذا ليست صفرية.
هناك ثلاثة أنواع معروفة من النيوترينوات: النيوترينوات الإلكترونية، والنيوترينوات الميوونية، والنيوترينوات التاوونية، وهي تحمل هذه الأسماء نظرًا لأنها تُنتَج برفقة هذه الجسيمات ذات الشحنة الكهربية التي تتقاسم معها اسمها. تطلق التفاعلات الاندماجية التي تجري داخل الشمس نيوترينوات من النوع الأول.
في ميكانيكا الكم، للجسيمات خصائص شبه موجية، ومثلما تتخذ تذبذبات المجال الكهرومغناطيسي سمات شبه جسيمية — الفوتونات — تتخذ أيضًا جسيماتٌ كالنيوترينوات تذبذباتٍ شبه موجية بينما تنتقل عبر الفضاء؛ ومن ثَمَّ فهي تكون موجة ذات احتمالية متغيرة. والنيوترينو الذي بدأ رحلته كنيوترينو إلكتروني قد تتغير احتماليته مع تحركه، بحيث يتحوَّل من نيوترينو إلكتروني إلى نيوترينو ميووني أو نيوترينو تاووني، بينما يبتعد عن المصدر الذي انطلق منه. لكن كي يحدث هذا الأمر، على النيوترينوات أن تمتلك كتلًا متباينة، وهو ما يعني ضمنًا أنه ليس من الممكن أن تكون جميعها عديمة الكتلة.
على امتداد عدة عقود قِيست شدة النيوترينوات الإلكترونية الآتية من الشمس، وفي ضوء معرفتنا بالطريقة التي تعمل بها الشمس، أمكن حساب عدد النيوترينوات الإلكترونية التي أُنتِجت، ومن ثَمَّ حساب شدتها حين وصلت إلى الأرض. لكن حين أُجرِيت الحسابات، وجدنا أن شدة النيوترينوات الإلكترونية الآتية إلى الأرض أقل بمعامل قدره اثنان أو ثلاثة عن المتوقع. كانت هذه أول بادرة على أن للنيوترينوات الإلكترونية كتلة، وأنها تتغير إلى أنواع أخرى وهي في الطريق. رُصِدت مواطن شذوذ أخرى مشابهة في خليط النيوترينوات الإلكترونية والنيوترينوات الميوونية المنتجة حين تصطدم الأشعة الكونية بطبقة الغلاف الجوي العليا، وقد أكدت سلسلة من التجارب المكرَّسة لهذا الغرض أُجرِيت في نهاية القرن العشرين أن النيوترينوات لها بالفعل كتلة، وأنها تتأرجح من شكل إلى آخَر أثناء حركتها.
لم تتمكن تجربة أُجرِيت في مرصد ساندبري للنيوترينوات (أونتاريو) من أن ترصد النيوترينوات الإلكترونية الآتية من الشمس (والتي شهدت قلة في أعدادها) فحسب، بل تمكنت أن تحصي أيضًا العدد الإجمالي لكل الأنواع (وهو ما أكَّد أن العدد الإجمالي كان مماثلًا لذلك الذي جرى التنبؤ به). أوضح هذا الكشف أن النيوترينوات الإلكترونية تغيَّرَتْ بالفعل، بَيْدَ أنه لم يوضِّح النوع الذي فضَّلت النيوترينوات أن تتغيَّر إليه.
ثم بدأنا في تجارب «الخط القاعدي الطويل». ففي مختبرات على غرار سيرن، وفيرميلاب، وكيه إي كيه في اليابان، تُنتَج حزم من النيوترينوات تحت السيطرة، وتقاس طاقة النيوترينوات وشدتها وتركيبتها (النيوترينوات الميوونية بالأساس) عند المصدر، ثم تُوجَّه عبر الأرض كي يتم رصدها على بُعْدِ عدة مئات من الكيلومترات في مختبر بعيد تحت الأرض. وعن طريق مقارنة تركيبة الحزمة عند وصولها بتركيبتها لدى انطلاقها، يصير من الممكن تحديد أي النكهات تحولت إلى نكهات أخرى، ومدى السرعة التي يجري بها هذا الأمر، وانطلاقًا من ذلك يكون من الممكن أن نحسب الكتل النسبية لكل نوع (من الناحية الفنية، الفارق المربع بين كُتَلها هو ما يتم تحديده بهذه الطريقة).
خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين من المنتظر أن نحصل على ثروة من المعلومات بشأن النيوترينوات الغامضة، وذلك بفضل هذه التجارب. إن تحديد نمطِ كُتَل النيوترينوات سيمدنا ببعض المؤشرات المفقودة بالنموذج المعياري، فنحن لا نعلم السبب الذي يجعل الكواركات واللبتونات المشحونة تمتلك كتلًا بهذه المقادير تحديدًا، وإن امتلاك هذه الجسيمات لتلك القيم لَأمرٌ محوري للغاية بالنسبة لوجودنا؛ ولذا فإن فهم هذا الأمر من شأنه أن يمثِّل طفرة علمية كبيرة. ويمكن لتحديد كتل النيوترينوات أن يمدنا بأدلة حاسمة تساعدنا في كشف النقاب عن هذه الأحجية.
يمكن أيضًا أن يكون لكتل النيوترينوات تأثير على علم الكونيات. فالنيوترينوات الضخمة من الممكن أن تكون قد لعبت دورًا في تكوين البذور الأولى للمجرات، ويمكنها أن تلعب دورًا ما في تفسير طبيعة المادة المظلمة المنتشرة في كل مكان بالكون، كما يظل السبب وراء انتهاك التفاعل الضعيف لمبدأ التكافؤ، أو التناظر الانعكاسي، مستعصيًا عن الحل. توفِّر النيوترينوات مدخلًا خاصًّا لاستكشاف التفاعل الضعيف، ومن ثَمَّ قد تؤدي الدراسة المتزايدة لخصائصها إلى اكتشافات غير متوقَّعة.
إن تحديد قِيَم كُتَل النيوترينوات لَهو أحد التحديات الكبرى التي يواجهها فيزيائيو الجسيمات في وقتنا الحالي، وهذا يؤدي بنا على نحو طبيعي إلى سؤال أكبر: ما هي طبيعة الكتلة نفسها؟
الكتلة
مثلما تنتج المجالات الكهرومغناطيسية الحِزَمَ الكمية التي نسميها الفوتونات، من المفترض أن يتجسد مجال هيجز في بوزونات هيجز. في نظرية هيجز الأصلية كان هناك نوع واحد فحسب من بوزون هيجز، لكن لو صَحَّتْ نظرية التناظر الفائق فمن المفترض أن تكون هناك عائلة من هذا النوع من الجسيمات.
بلازما الكواركات والجلوونات
لو صَحَّتِ الصورة التي نملكها عن منشأ المادة، فلا بد أن الكواركات والجلوونات — الحبيسة في كوننا البارد داخل البروتونات والنيوترونات — كانت وقت حدوث الانفجار العظيم على درجة من الحرارة تمنعها من التماسك بعضها ببعض. بدلًا من ذلك، كانت هذه الجسيمات موجودة داخل «حساء» غليظ نشيط يُعرَف باسم «بلازما الكواركات والجلوونات».
هذه الحشود المتداخلة من الكواركات والجلوونات تشبه حالة المادة المعروفة بالبلازما، على غرار تلك الموجودة في قلب الشمس، والتي تتألف من غازات مستقلة من الإلكترونات والأنوية التي يمنعها نشاطها البالغ من الاتحاد معًا لتكوين ذرات متعادلة الشحنة.
يسعى العلماء لإنتاج بلازما الكواركات والجلوونات من خلال ضرب أنوية الذرات الضخمة بعضها ببعض على طاقات عالية للغاية، لدرجة أن البروتونات والنيوترونات تنضغط معًا. إنهم يأملون أن الأنوية سوف «تذوب»؛ أي إن الكواركات والجلوونات سوف تتدفق خارجةً من النواة بدلًا من أن تظل «متجمدة» على صورة نيوترونات وبروتونات منفردة.
في مختبر سيرن، أُطلقت حِزَمٌ من الأنوية الثقيلة على أهداف ساكنة من عناصر ثقيلة. وقد بنى «مصادم الأيونات الثقيلة النسبوية» في مختبر بروكهافن الوطني بالولايات المتحدة آلةً مخصَّصة لهذا الغرض تتصادم فيها الأنوية الثقيلة بعضها ببعض على نحو مباشِر. ومثلما الحال في تصادمات الجسيمات الأبسط، على غرار الإلكترونات والبروتونات، فإن المزية العظيمة لآلة تصادم الحزم هي أن كل الطاقة المكتسبة من عملية تعجيل هذه الجسيمات تدخل في التصادم. وسيفوق مصادمُ الهادرونات الكبير الموجود في سيرن مصادمَ الأيونات الثقيلة من حيث الطاقة، وسوف يعمل على مصادمة أيونات الرصاص بطاقة إجمالية قدرها ١٣٠٠ تيرا إلكترون فولت. عند هذه المستويات المتطرفة من الطاقة — المشابهة لتلك التي كانت معتادة في الكون حين كان عمره أقل من جزء من تريليون جزء من الثانية — من المفترض أن تصير بلازما الكواركات والجلوونات شائعةً، ومن ثَمَّ سيتمكن القائمون على التجربة من دراسة خصائصها تفصيلًا.
المادة المضادة والشحنة السوية
يبدو أننا نعيش داخل حيز من المادة يبلغ قطره ما لا يقل عن ١٢٠ مليون سنة ضوئية، واستنادًا إلى الاختلافات الطفيفة في سلوك المادة والمادة المضادة على مستوى الجسيمات الأساسية (ما يُعرَف من الناحية الفنية باسم «تناظر الشحنة السوية»)، يحبِّذ الفيزيائيون الفكرة التي تذهب إلى أن ثمة تناظرًا دقيقًا بين المادة والمادة المضادة إجمالًا، وأنه بعد الانفجار العظيم مباشَرةً اختلَّ هذا التوازن بحيث صارت المادة هي المهيمنة على الكون. والتحدي الماثل أمامنا الآن هو دراسة هذه الاختلافات تفصيلًا كي نحدِّد أصلها، وربما نتمكن وقتها من تحديد مصدر التناظر بين المادة والمادة المضادة في الكون.
والسؤال الذي يشغل عقول فيزيائيين كُثُر الآن هو ما إذا كانت «مصادفة» الأجيال الثلاثة هي ما أدَّتْ إلى هيمنة المادة على كوننا. تذهب النظرية إلى أن تأثير خرق الشحنة السوية من المفترض أن يكون عظيمًا في حالة الميزونات القاعية، التي تشبه الكاوونات، لكن مع إحلال الكوارك القاعي محل الكوارك الغريب. تخضع منظومة الميزونات القاعية الآن إلى بحث تجريبي مكثَّف، وتم الكشف عن أولى العلامات على وجود تناظر كبير. سينتج مصادم الهادرونات الكبير أعدادًا كبيرة من الجسيمات القاعية، وسيكون بحث تناظر الشحنة السوية لهذه الجسيمات جزءًا مهمًّا من برنامج العمل هناك، وهناك تجربة مكرَّسة لتحقيق هذا الغرض باسم تجربة مصادم الهادرونات الكبير القاعية.
تساؤلات مستقبلية
والآن نأتي للجزء الغريب بحق: وفق أحدث النظريات، ما الأبعاد المكانية الثلاثة والبعد الزمني إلا جزء من كون أعمق من ذلك، فهناك أبعاد تقع خارج نطاق إدراك حواسنا المعتادة، لكن من الممكن الكشف عنها في التجارب المستقبلية العالية الطاقة التي ستُجرَى في مختبر سيرن.
لاستيعاب هذه الصورة تخيَّلْ كونَنا وقد أدركته مخلوقات مسطحة لا تعي سوى بُعْدين فحسب، أما نحن — بفضل وعينا الأفضل منهم — فنعي وجود البُعْد الثالث، وبهذا يمكننا أن نتخيل لوحين مستويين يفصل بينهما مليمتر واحد على سبيل المثال. من الممكن أن تتسرب تأثيرات القوى الواقعة على أحد اللوحين إلى الفجوة، بَيْدَ أن الكائنات المسطحة لن يسعها إدراك ذلك، سيكون بوسعها إدراك التأثيرات اللاحقة، التي ستكون واهنةً مقارَنةً بالتأثيرات المنحصرة داخل كون اللوح المسطح الذي تعيش فيه وتستشعره.
الآن تخيَّلْ أننا نحن تلك الكائنات المسطحة، وأننا نقطن كونًا ذا أبعاد أعلى. الفكرة هنا هي أن قوة الجاذبية تبدو لنا ضعيفة لأنها تأثير لقوى أخرى تتسرب بعيدًا نحو الأبعاد الأعلى لكوننا؛ ولهذا حين نستشعر قوة الجاذبية، إنما نحن نستشعر تأثير القوى الموحدة الأخرى التي تسرَّبت بعيدًا إلى الأبعاد الأعلى، تاركةً أثرًا بسيطًا ليؤدي عمله. بل يمكننا أيضًا تخيُّلُ أحد الجسيمات وهو ينتقل من أبعادنا «المسطحة» إلى أبعاد أخرى أعلى، ومن ثَمَّ فإنه «يختفي» فعليًّا من كوننا كما نعرفه.
وهكذا في التجارب الجديدة التي ستُجرَى في مصادم الهادرونات الكبير في سيرن، سيترقَّب الفيزيائيون العلامات الدالة على ظهور الجسيمات أو اختفائها «تلقائيًّا». وإذا حدث أن رُصدَت مثل هذه الظاهرة على نحو منتظم، فسيمكنها أن تقدِّم لنا الدليل على أننا بحقٍّ كائنات مسطحة، وأن هناك أبعادًا أخرى في الطبيعة غير الأبعاد المكانية الثلاثة والبُعْد الزمني، لكننا لا نعيها في الوقت الحالي.
لقد وصلنا إلى نقطة بات من الصعب فيها التفرقة بين العلم الحقيقي والخيال العلمي، لكن منذ قرن مضى، لم يكن أغلب ما نأخذه كأمور مسلَّم بها اليومَ ليخطر في خيال كاتب الخيال العلمي إتش جي ويلز، وبعد مئات الأعوام من الآن ستحوي المراجع العلمية من المواد ما لم نحلم به بعدُ. منذ نحو خمسين عامًا قرأت كتابًا كان يستعرض عجائب الذرات المكتشَفَة حديثًا وقتها، وكان يناقش أيضًا الجسيمات الغريبة التي كانت تظهر في الأشعة الكونية، وها أنا اليوم أكتب لك عن هذه الأشياء، وربما بعد نصف قرن آخَر تقوم أنت بتحديث هذه القصة بنفسك. أتمنى لك حظًّا سعيدًا.