كيف نعلم مِمَّ تتكون الأشياء، وما الذي وجدناه إلى الآن؟
تمكِّننا أدوات على غرار الميكروسكوبات ومعجلات الجسيمات من بَسْط نطاق رؤيتنا إلى ما وراء نطاق الضوء المرئي، بحيث نرى ما بداخل العالم الصغير دون الذري. وقد كشف لنا هذا عن البنية الداخلية للذرة؛ من إلكترونات وجسيمات نووية، وكواركات.
***
الطاقة والموجات
كي تعرف مِمَّ يتكوَّن شيء ما، يمكنك أن (أ) تنظر إليه، أو (ب) تسخنه ثم ترى ما سيحدث، أو (ﺟ) تهشمه بقوة عاتية. ثمة صورة مغلوطة مفادها أن مختصي الفيزياء العالية الطاقة، أو فيزيائيي «الجسيمات»، يفعلون الأمر الأخير. لكن هذه الصورة تأتينا من الأيام التي كانت فيها معجلات الجسيمات تُعرَف باسم «مهشمات الذرات». وفي الواقع، من الناحية التاريخية كان هذا ما يحدث بالفعل، لكن اليوم باتت المقاصد والطرق أكثر تعقيدًا وتقدُّمًا بكثير. سنناقش هذا بالتفصيل لاحقًا، لكن كبداية، دعونا نركِّز على الخيارات الثلاثة التي ذكرناها، خاصةً أنها جميعًا تشترك في سمة عامة مشتركة؛ أَلَا وهي أنها جميعًا تستخدم الطاقة.
أنت ترى هذه الكلمات لأن الضوء يسقط على الصفحة ثم بعدها ينتقل إلى عينيك، والفكرة العامة هنا هي أن هناك مصدرًا للإشعاع (الضوء)، وجسمًا خاضعًا للدراسة (الصفحة)، وكاشفًا (عيناك). داخل النقطة التي تنتهي بها هذه العبارة هناك ملايين من ذرات الكربون، ولن تتمكَّن من رؤية الذرات المنفردة أبدًا، وإن استخدمت أقوى العدسات المكبرة؛ فهذه الذرات أصغر حجمًا من الطول الموجي للضوء «المرئي»، ومن ثَمَّ يستحيل كشفها بأي عدسة مكبرة أو ميكروسكوب.
الضوء شكل من أشكال الإشعاع الكهرومغناطيسي، وأعيننا تستجيب فقط لجزء صغير من الطيف الكهرومغناطيسي الكامل، لكن يمكن باستخدام معدات خاصة الوصول إلى بقية هذا الطيف. الضوء المرئي هو أقوى أنواع الإشعاع الآتية من الشمس، وقد تطوَّرت أعين البشر بحيث تستجيب فقط لهذا النطاق المحدَّد. النطاق الكامل للطيف الكهرومغناطيسي موجود بالفعل، وهو ما يمكننا توضيحه بتشبيه الأمر بالصوت. تتضمن المسافة الموسيقية الواحدة تقليل الطول الموجي بمقدار النصف (أو زيادة الذبذبة الصوتية بمقدار الضعف) من نغمة صوتية بعينها (لنقل العلامة «أ» البالغ شدتها ٤٤٠ هرتزًا) إلى المسافة الصوتية الأعلى منها (العلامة «أ» البالغ شدتها ٨٨٠ هرتزًا). الأمر مشابه في قوس قزح؛ فهو بمنزلة «مسافة موسيقية» في الطيف الكهرومغناطيسي. وبينما تنتقل من الضوء الأحمر إلى الأزرق، يقل الطول الموجي بمقدار النصف، ومن ثَمَّ يبلغ الطول الموجي للون الأزرق نصف مقدار الطول الموجي للون الأحمر (أو على نحو مماثل، يتزايد المعدل الذي تتذبذب به المجالات الكهربية والمغناطيسية جيئة وذهابًا بمقدار الضعف في حالة الضوء الأزرق مقارَنَةً بالأحمر). يمتد الطيف الكهرومغناطيسي أكثر من ذلك في كلا الاتجاهين، وخلف الأفق الأزرق — حيث نجد الأشعة فوق البنفسجية والأشعة السينية وأشعة جاما — تكون الأطوال الموجية أصغر مما الحال عليه في الضوء المرئي، وعلى النقيض، عند الأطوال الموجية الأطول في الاتجاه المقابل، ما وراء اللون الأحمر، نجد لدينا الأشعة تحت الحمراء وأشعة الميكروويف وموجات الراديو.
يمكننا استشعار الطيف الكهرومغناطيسي فيما وراء الضوء المرئي، فأعيننا تعجز عن رؤية الأشعة تحت الحمراء لكن جلودنا يمكنها الشعور بها على صورة حرارة. وبإمكان كاميرات التصوير بالأشعة تحت الحمراء الحديثة أن «ترى» المعتدين من خلال الحرارة التي تبثها أجسادهم. إن العبقرية البشرية هي التي مكَّنَتْ من صنع آلات يمكنها بسط نطاق رؤيتنا عبر النطاق الكامل للطيف الكهرومغناطيسي، ومن ثَمَّ الكشف عن الحقائق الخفية لطبيعة الذرة.
الأشعة السينية هي ضوء ذو طول موجي قصير، وبذا يمكنها التشتُّت بواسطة بنى على المستوى الجزيئي، على غرار تلك الموجودة في البلورات. الطول الموجي للأشعة السينية أكبر من حجم الذرات المنفردة، لذا تظل الذرة خفية، إلا أن المسافة بين الأسطح المتجاورة في المصفوفة المعتادة داخل البلورة مقاربة للطول الموجي للأشعة السينية، ولهذا تبدأ الأشعة السينية في تمييز المواضع النسبية للأشياء داخل البلورات. يُعرَف هذا باسم «دراسة البلورات بالأشعة السينية».
يمكن العثور على تشبيه ملائم إذا فكَّرنا للحظة في موجات الماء بدلًا من الموجات الكهرومغناطيسية؛ فإذا أسقطت حجرًا في ماء راكد فستنتشر التموجات، وإذا عرضت عليك صورة لهذه الأنماط الدائرية فستتمكن من استنتاج الموضع الذي أُلقِي فيه الحجر. وإذا ألقيت مجموعة من الأحجار في تناغم فسينتج عن هذا نمط أكثر تعقيدًا للموجات، تتخلله قمم وقيعان في مواضع التقاء الموجات وتداخُلها. ومن النمط الناجم يمكنك أن تستنتج — بقدرٍ من الصعوبة نُقِرُّ به — المواضعَ التي أُسقِطت فيها الأحجار في الماء. تتضمن دراسة البلورات بالأشعة السينية الكشفَ عن الموجات العديدة المشتتة من طبقات معتادة في البلورة، ثم تفسير النمط الناتج من أجل استنتاج البنية البلورية. وبهذه الطريقة، جرى استنتاج شكل وهيئة بعض الجزيئات البالغة التعقيد، على غرار الحمض النووي.
لسبر أغوار الذرات المنفردة سنحتاج إلى أطوال موجية أقصر من هذا، ومن الممكن عمل ذلك ليس باستخدام الضوء وحده، وإنما باستخدام حزم من الجسيمات على غرار الإلكترونات. لهذه الجسيمات مزية خاصة تتمثل في أنها ذات شحنة كهربية، ومن ثَمَّ يمكن التحكُّم فيها وتعجيلها بواسطة مجالات كهربية، وبهذا تُمنَح كميات كبيرة من الطاقة. يمكِّننا هذا من استكشاف مسافات أقصر، لكن لفهم السبب علينا التحوُّل عن سبيلنا قليلًا للتعرف على كيفية ارتباط الطول الموجي بالطاقة.
الطاقة | الطول الموجي (متر) |
---|---|
١ إلكترون فولت | ١٠−٦ |
١ كيلو إلكترون فولت | ١٠−٩ |
١ ميجا إلكترون فولت | ١٠−١٢ |
١ جيجا إلكترون فولت | ١٠−١٥ |
١ تيرا إلكترون فولت | ١٠−١٨ |
تعجيل الجسيمات
كانت هذه هي المقاصد المبكرة لتلك التجارب الهادفة لسبر أغوار نواة الذرة عن طريق قصفها بحِزَم من الجسيمات العالية الطاقة. وطاقة الجسيمات الموجودة في هذه الحِزَم هائلة (على مقياس الطاقة المحتواة داخل نواة منفردة، والتي تُبقِي على تماسك النواة)، ونتيجة لذلك تنزع الحزم إلى تهشيم الذرة وجسيماتها إربًا، وهو ما ينتج عنه إنتاج جسيمات جديدة خلال العملية. هذا هو السبب الكامن خلف التسمية القديمة «مهشمات الذرات»، لكننا اليوم نفعل ما هو أكثر من هذا؛ لذا لم يَعُدْ هذا الاسم صالحًا.
الإلكترون والبروتون
استُخدِمَت حِزَم الإلكترونات منذ القرن التاسع عشر، رغم أنه لم يعلم أحد وقتَها ماهيتَها؛ فحين مُرِّر التيار الكهربي عبر الغازات تحت ضغط منخفض للغاية، أمكن رؤية حزمة رفيعة كالقلم الرصاص. هذه الحزم كانت معروفة باسم «أشعة الكاثود»، ونعلم الآن أنها تتكون من إلكترونات. والمثال المألوف على هذه الأداة جهاز التليفزيون الحديث، حيث الكاثود هو السلك الساخن الموجود في الخلف، والذي تنبعث منه حِزَم الإلكترونات كي تظهر على الشاشة عندما ترتطم بها.
كانت مفاجأة عظيمة في القرن التاسع عشر حين اكتُشِف أن الأشعة يمكنها المرور عبر المادة الصلبة كما لو أن شيئًا لا يعترض طريقها. كان في هذا تناقض ظاهري؛ فالمادة الصلبة الملموسة صارت شفافة على المستوى الذري. وقد علَّق فيليب رينارد — الذي اكتشف هذا الأمر — قائلًا: «المساحة التي يشغلها متر مكعب من البلاتين الصلب خاوية، مثلها مثل الفضاء النجمي الموجود خارج الأرض.» قد تكون الذرات فضاءً خاويًا في معظمها، لكن هناك ما يمنحها كيانها، ويمنح الكتلة لكل الأشياء. وقد صار من الجلي أن هناك ما هو أكثر من الفضاء بفضل أعمال إرنست رذرفورد في السنوات الأولى من القرن العشرين، وقد تحقَّق هذا بعد اكتشاف الإلكترون والنشاط الإشعاعي، وقد وفَّرَ هذان الاكتشافان الأدوات الضرورية للكشف عن البنية الداخلية للذرة.
اكتُشِف الإلكترون وتحدد بوصفه مكونًا أساسيًّا للعناصر الذرية على يد جوزيف جون طومسون في عام ١٨٩٧. إن الإلكترونات، السالبة الشحنة الكهربية، موجودة داخل الذرة منذ أن تكوَّنَتِ الأرض، ومن السهل استخلاص الإلكترونات؛ إذ إن كل ما نحتاجه هو درجات حرارة قدرها بضعة آلاف درجة مئوية وحسب. ستعجل المجالات الكهربية الإلكترونات، وتمنحها طاقة، وبهذا تمكن حزم الإلكترونات العالية الطاقة من استكشاف البنى الصغيرة الحجم.
ليس الإلكترون هو الجسيم الذري الوحيد المستخدَم في هذا الغرض؛ فهناك البروتون الذي يحمل شحنةً كهربية موجبة تعادل شحنة الإلكترون السالبة، لكن كتلة البروتون أكبر على نحو واضح؛ إذ تبلغ نحو ألفَيْ مرة قدر كتلة الإلكترون. صارت البروتونات الخيارَ المفضَّل لعمليات الاستكشاف دون الذري، لكن في البدء كان هناك كيانٌ آخَر مشحون كهربيًّا أدَّى دورًا رئيسًا، ونعني بهذا جسيم ألفا.
نعلم في وقتنا الحالي أن جسيم ألفا ما هو إلا نواة ذرة الهليوم؛ تجمُّع مضغوط من بروتونين ونيوترونين، ومن ثَمَّ فهو موجب الشحنة وأثقل بنحو أربع مرات من ذرة الهيدروجين المنفردة. سبب أهمية هذا الجسيم يرجع إلى أن أنوية العديد من العناصر الثقيلة تطلق جسيمات ألفا تلقائيًّا، ومن ثَمَّ توفِّر مصدرًا مجانيًّا لهذه المستكشفات ذات الشحنة الكهربية. تتكون أنوية العناصر الثقيلة من عدد كبير من البروتونات والنيوترونات المحتشدة معًا على نحو محكَم، وتحدث ظاهرة نشاط ألفا الإشعاعي حين تسعى النواة الثقيلة لاكتساب الاستقرار بأن تُطلِق تلقائيًّا كُتَلًا صغيرة تتكون من بروتونين ونيوترونين. لا تهمنا تفاصيل هذه العملية هنا، لكن يكفينا القبول بأنها موجودة، وأن جسيم «ألفا» يظهر حاملًا طاقة حركة، ويمكنه اقتحام ذرات المواد المحيطة. وبهذه الطريقة تمكَّنَ إرنست رذرفورد ومساعداه جايجر ومارسدن من أن يكتشفوا لأول مرة وجود نواة الذرة.
حين قابلت جسيمات ألفا الذرات، تشتتت جسيمات ألفا بصورة عنيفة إلى حدٍّ ما، بل إنها في بعض الأحيان ارتدَّتْ عائدةً من حيث أتت. هذا هو ما يحدث حين تكون الشحنة الموجبة للعنصر الثقيل، الذهب مثلًا، متركزةً في كتلة مركزية مضغوطة. لقد صُدَّتْ جسيمات ألفا الموجبة الشحنة بواسطة نواة الذرة الموجبة الشحنة، وارتدت عنها مثلما يرتدُّ جسم خفيف، ككرة التنس، عند ارتطامه بجسم آخَر ثقيل، ككرة القدم.
بفضل هذه التجارب التي أُجرِيت في السنوات الأولى من القرن العشرين، ترسَّخت الفكرة الأساسية للذرة النووية. وإجمالًا نقول إن الطريقة التي تشتَّتت بها جسيمات ألفا عن الذرات ساعدت في ترسيخ صورة الذرة التي نعرفها منذئذٍ: تكمن الشحنة الموجبة داخل مركز مضغوط كثيف — نواة الذرة — بينما تطوف الإلكترونات السالبة الشحنة عن بُعْد في المحيط الخارجي للذرة.
ظلت البروتونات، الموجبة الشحنة، هي المفضلة لما يزيد على الخمسين عامًا؛ وذلك لأنها تضرب بقوة كبيرة. ومع ذلك، للإلكترونات مزايا خاصة، وأغلب معارفنا الحالية حول بنية نواة الذرة — بل حتى معارفنا بشأن البروتونات والنيوترونات المكونة للنواة — ناتجة عن التجارب التي تستخدم حزم الإلكترونات.
عام ١٩٦٨ مكَّنَنَا المعجل الخطي البالغ طوله ثلاثة كيلومترات في ستانفورد، من إلقاء أول نظرة واضحة داخل نواة الذرة، واكتشاف أن ما نعرفه باسم البروتونات والنيوترونات ما هو إلا كرات من «الكواركات» المحتشدة.