المعجلات: الكونية والاصطناعية
الأشعة الكونية مجانية، بَيْدَ أنها عشوائية، وقد أدت بنا الحاجة إلى التجارب المجراة تحت السيطرة إلى بناء معجلات الجسيمات. يتناول هذا الفصل عمليةَ قصف أهداف معينة داخل المختبرات بحزم من الجسيمات، إضافةً إلى مصادمة حزم الجسيمات بعضها ببعض على نحو مباشِر، ومزايا كلا الطريقتين. أيضًا، نتناول مصادمة حزم المادة والمادة المضادة؛ الإلكترونات والبوزيترونات في مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير، والبروتونات والبروتونات المضادة، ومصانع الجسيمات.
***
على مدار قرن استُخدِمت حِزَم الجسيمات للكشف عن البنية الداخلية للذرات، وقد تطورت هذه الحزم بدايةً من جسيمات ألفا وبيتا الموجودة طبيعيًّا بفضل النشاط الإشعاعي الطبيعي، مرورًا بالأشعة الكونية، ووصولًا إلى الحزم المركزة من الإلكترونات والبروتونات والجسيمات الأخرى داخل المعجلات الحديثة. وبواسطة قصف هدف محدَّد بحزمة من الجسيمات الأساسية، من الممكن تحويلُ بعض الطاقة إلى جسيمات جديدة، والتي يمكن تجميعها هي الأخرى على صورة حزمة ثانوية. وهكذا جرى إنتاج حزم البايونات والنيوترينوات، إضافةً إلى جسيمات أخرى تُسمَّى الكاوونات والميوونات، إلى جانب جسيمات مضادة على غرار البوزيترون والبروتون المضاد. بل إن ثمة حزمًا من الأيونات الثقيلة — ذرات مجردة من إلكتروناتها — تمكِّننا من دراسة التصادمات العنيفة بين الأنوية الثقيلة.
تسبر الجسيمات المختلفة المادة بصور متكاملة. ومن خلال جمع المعلومات من هذه الطرق المختلفة ظهرت الصورة الثرية التي نملكها في الوقت الحالي. أحيانًا تُوجَّه الحزم صوب أهداف ساكنة، لكن في السنوات القليلة الماضية كانت الاستراتيجية السائدة هي إحداث صدام بين حِزَم الجسيمات وحِزَم الجسيمات المضادة التي تدور على نحو معاكس لبعضها، على غرار مصادمة الإلكترونات والبوزيترونات أو البروتونات والبروتونات المضادة، وذلك على نحو مباشِر. هذه الطرق تمكِّننا من البحث في أسئلة كان من شأن إجاباتها دون ذلك أن تظل مستحيلة، كما سنرى لاحقًا.
هذه أمثلة على ما يُعرَف بالفيزياء غير المعتمدة على المعجلات، التي فيها تكون عمليات طبيعية قد أنتجت الجسيمات ونكشف نحن عن تأثيراتها. هنا على الأرض يمكننا صنع حزم مركزة من الجسيمات العالية الطاقة في المختبرات بواسطة معجلات الجسيمات. وفي هذا الفصل سأركز على الكيفية التي تطورت بها المعجلات وما تتضمنه عملية صنعها. وهذا أيضًا سيعطينا فكرةً عن خطط المستقبل القريب في فيزياء الجسيمات العالية الطاقة.
تُعجَّل الجسيمات ذات الشحنة الكهربية بواسطة قوى كهربية. فإذا سلطت قوة كهربية كافية على الإلكترون، مثلًا، فسيتحرك على نحو أسرع وأسرع في خط مستقيم، كما في المعجل الخطي في ستانفورد بكاليفورنيا، الذي يستطيع تعجيل الإلكترونات حتى طاقات قدرها ٥٠ جيجا إلكترون فولت.
تحت تأثير مجال مغناطيسي، سينحني مسار الجسيم المشحون، وباستخدام المجالات الكهربية لتعجيل الجسيمات، والمجالات المغناطيسية لإحناء مسارها، يمكننا توجيه الجسيمات لتتحرك في دوائر مرارًا وتكرارًا. هذه هي الفكرة الأساسية الكامنة خلف الحلقات الضخمة، كذلك المعجل البالغ طوله ٢٧ كيلومترًا في مختبر سيرن بجنيف.
من السيكلوترون إلى السينكروترون
بدأت عمليات استكشاف الذرات باستخدام جسيمات ألفا وجسيمات بيتا المنبعثة من الأجسام المشعة، لكن هذه الجسيمات المنفردة لها طاقات صغيرة وقدرة محدودة على الولوج داخل البيئة النووية. وقد غيَّرت حِزَم الجسيمات العالية الطاقة كل هذا.
كانت الفكرة الأصلية تقضي بتعجيل الجسيمات إلى طاقة عالية من خلال سلسلة من الدفعات الصغيرة من الجهد الكهربي المتسارع المنخفض نسبيًّا. تتحرك الجسيمات خلال سلسلة من الأسطوانات المعدنية المنفصلة في أنبوب مفرَّغ، داخل هذه الأسطوانات لا يوجد مجال كهربي، وفيها تبحر الجسيمات بحرية، لكن عبر الفراغات التي تفصل بين الأسطوانات تنشأ مجالات كهربية عن طريق جهد كهربي متناوب، والذي يتناوب بين القيم السالبة والموجبة. يتناسب تردُّد الجهد المتناوب مع طول الأسطوانات، بحيث تستشعر الجسيمات على الدوام دفعة، وليس كبحًا، بينما تخرج إلى الفراغ بين الأسطوانات؛ وبهذه الطريقة تُعجَّل الجسيمات في كل مرة تعبر فيها من أسطوانة إلى أخرى. هذه هي آلية العمل الأساسية للمعجلات الخطية الحديثة. في المعتاد، تتسم هذه المعجلات الخطية بأنها آلات منخفضة الطاقة تمتد لمسافات قصيرة، لكن أحيانًا تكون عالية الطاقة وتمتد لمسافات طويلة على غرار معجل ستانفورد الخطي في كاليفورنيا، وعادة ما يشيع استخدامها في المراحل التمهيدية لعملية التعجيل في المعجلات الحلقية الكبيرة القائمة اليوم.
لتعجيل الجسيمات على نحو متواصل، يجب أن يُفتَح المجال الكهربي الموجود في الفجوة ويُغلَق بنفس التردد الذي تُكمِل وفقه الجسيمات دورتها. وهكذا تندفع الجسيمات المندفعة خارجة من مصدر في منتصف الجهاز الدوار على نحو حلزوني إلى الحافة، وتظهر حاملةً طاقةً أعظم بكثير.
عُرِف هذا الجهاز باسم المُعَجِّل الدوراني (السيكلوترون)، وكان قائمًا على مبدأ أن الجسيمات دائمًا ما تأخذ الوقت عينه لإكمال دورة واحدة. لكن من الناحية العملية، ليس هذا صحيحًا إلا على نحو تقريبي؛ فمع زيادة طاقة الجسيمات، تلعب تأثيرات النسبية الخاصة دورًا أكثر أهميةً بكثير، وعلى وجه التحديد، تكون هناك مقاومة متزايدة لعملية التعجيل، حيث تكون هناك حاجة لمزيد من القوة للحفاظ على نفس معدل التعجيل كلما اقتربنا من سرعة الضوء. وهكذا تأخذ الجسيمات المعجَّلة وقتًا أطول لإكمال دورتها، وفي النهاية تصل متأخرة للغاية إلى الفجوة بحيث تفوت عليها فرصة التقاط الجهد الكهربي المتناوب خلال الجزء الخاص بالتعجيل من دورتها.
كان الحل هو ضبط تردُّد الجهد بحيث يظل متوافقًا مع الجسيمات بينما تأخذ وقتًا أطول في دورانها، لكن هناك مشكلة: فالآلة التي تعمل على تردُّد متفاوت لن يعود بمقدورها تعجيل تيار متواصل من الجسيمات، مثلما فعل السيكلوترون، وتغيير التردد كي يتزامن مع الجسيمات العالية الطاقة سيعني أن أي جسيمات لا تزال طاقتها منخفضة لن تجاري نظيرتها عالية الطاقة. بدلًا من ذلك، يأخذ «سيكلوترون متزامن» الجسيماتِ من المصدر دفعة واحدة في كل مرة، ثم يعجلها وصولًا إلى حافة المغناطيس.
تمكَّنَ السيكلوترون المتزامن من تعجيل البروتونات إلى طاقات كافية بحيث أنتجت التصادمات مع الأنوية البايونات؛ أخف الجسيمات التي تتكون، كما نعرف الآن، من كوارك وحيد وكوارك مضاد، ومع ذلك كان قطر الآلة نحو خمسة أمتار، وكان الوصول إلى طاقات أعلى، كتلك المطلوبة لإنتاج الجسيمات الغريبة الأثقل، أمرًا غير عملي.
كان الحل هو زيادة شدة المجال المغناطيسي على نحوٍ متواصل بينما تكتسب الجسيمات الدوارة الطاقة، وبهذا نحافظ عليها في المدار نفسه بدلًا من تركها تندفع إلى الخارج. علاوة على ذلك، من الممكن الاستعاضة عن المغناطيس الواحد العملاق المستخدم في السيكلوترون بحلقة أشبه بالكعكة من المغناطيسات الأصغر، وهذا هو الشكل المألوف لحلقات المعجلات الحديثة. تتحرك الجسيمات عبر أنبوب دائري مفرَّغ محاط بالمغناطيسات، وتُعجَّل الجسيمات خلال كل دورة بواسطة جهد متناوب ذي تردُّد متنوع، والذي يوجَّه في موضع أو أكثر على امتداد الحلقة، وتبقى الجسيمات على مسارها الدائري عبر الأنبوب بواسطة الشدة المتزايدة على نحو ثابت للمجال المغناطيسي. هذه الآلة تُسمَّى المعجل الدوراني التزامني (السينكروترون)، وهي لا تزال أساس معجلات الجسيمات الكبرى. وقد شيدت أولى السينكروترونات الكبيرة في مختبر بروكهافن في الولايات المتحدة وسيرن بجنيف، بطاقاتٍ تصل إلى ٣٠ جيجا إلكترون فولت في عام ١٩٦٠.
في ستينيات القرن العشرين، ظهرت فكرة الكواركات، ومعها جاء التحدي المتمثِّل في الوصول إلى طاقات تزيد عن المائة جيجا إلكترون فولت، أملًا في الإطاحة بالكواركات خارج البروتونات. أدت التحسينات التكنولوجية إلى تصنيع مغناطيسات أقوى، وعن طريق وضع المغناطيسات في حلقة قطرها يزيد على الكيلومتر، تمكَّن مختبر فيرميلاب قرب شيكاجو بالولايات المتحدة ومختبر سيرن في جنيف بحلول منتصف السبعينيات من الوصول بالبروتونات إلى طاقة مقدارها ٥٠٠ جيجا إلكترون فولت. وبحلول عام ١٩٨٢ تمكَّنَ مختبر فيرميلاب من الوصول إلى طاقة مقدارها ١٠٠٠ جيجا إلكترون فولت، أو «١ تيرا إلكترون فولت»، وصار يُعرَف باسم «تيفاترون».
واليوم، تمكِّننا المغناطيسات ذات التوصيل الفائق من عمل مجالات مغناطيسية أقوى من ذلك. وفي مختبر فيرميلاب، إلى جانب تيفاترون، هناك حلقة أصغر تُعرَف باسم «المحقن الرئيس»، وأحد المهام الأساسية للمحقن الرئيس هي توجيه البروتونات على طاقة مقدارها ١٢٠ جيجا إلكترون فولت نحو أهداف من أجل إنتاج حِزَم ثانوية من الجسيمات بغرض إجراء التجارب عليها. تضرب البروتونات المستخلصة أهدافًا خاصة من الكربون أو البيريليوم لإنتاج تيارات من البايونات والكاوونات. يُسمَح للبايونات بالتحلل من أجل إنتاج حزمة من النيوترينوات، بينما يمكن فصل الكاوونات لعمل حزمة من الكاوونات بغرض إجراء التجارب عليها. الجسيمات المختلفة ذات الخواص المختلفة تستكشف سمات مختلفة للأهداف وتساعد على بناء صورة أكثر ثراءً عن تكوينها.
أيضًا يوجِّه المحقن الرئيس بروتونات ذات طاقة قدرها ١٢٠ جيجا إلكترون فولت صوب هدف خاص من النيكل على طاقات تكفي لإنتاج المزيد من البروتونات والبروتونات المضادة بمعدل قدره ٢٠٠ مليار بروتون مضاد في الساعة. للبروتونات المضادة — نسخة المادة المضادة من البروتونات — شحنة كهربية سالبة لا موجبة، وهذا يعني أن بمقدورها الدوران حول حلقة التيفاترون من مغناطيسات التوصيل الفائق بنفس زمن وسرعة دوران البروتونات، لكن في الاتجاه المعاكس. وما إن تصل الجسيمات إلى طاقة ١٠٠٠ جيجا إلكترون فولت — ١ تيرا إلكترون فولت — يُسمَح للحزمتين بالاصطدام على نحو مباشر، ويكون التيفاترون قد حقَّق هدفه النهائي: مصادمة البروتونات والبروتونات المضادة على طاقات تعيد إنتاج الظروف التي كان عليها الكون، بينما كان يبلغ من العمر جزءًا على التريليون من الثانية.
وفي سيرن، ترشد حلقة طولها ٢٧ كيلومترًا من هذه المغناطيسات البروتوناتِ على طاقاتٍ مقدارها ٧ تيرا إلكترون فولت في «مصادم الهادرونات الكبير». تستطيع المغناطيسات الخاصة توجيه حزمتين تدوران على نحو متعارض من البروتونات، أو من الأنوية الذرية، بحيث تتصادمان مباشَرَةً. وهذه ستكون ذروة تكنولوجيا الحزم المتصادمة، التي صارت استراتيجية أساسية في الفيزياء العالية الطاقة في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين.
المعجلات الخطية
معجل ستانفورد الخطي هو أطول معجل خطي في العالم، وهو يعجل الإلكترونات حتى طاقة قدرها ٥٠ جيجا إلكترون فولت في ثلاثة كيلومترات وحسب، بينما في مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير تصل الإلكترونات إلى طاقة قدرها ١٠٠ جيجا إلكترون فولت، لكنها تتطلب حلقة طولها ٢٧ كيلومترًا لتحقيق ذلك. لماذا هذا الاختلاف؟ وما الذي يحدِّد ما إنْ كنَّا سنصنِّع معجلًا خطيًّا أم دائريًّا؟
تعمل معجلات الإلكترونات الدورانية التزامنية — السينكروترونات — على نحو طيب، إلا أن هناك مشكلة وحيدة أساسية: أن الإلكترونات العالية الطاقة تشع طاقة بينما تتحرك في مسار دائري، هذا الإشعاع — المعروف باسم الإشعاع السينكروتروني — يصير أشد قوةً كلما قلَّ نصف قطر المدار، وكلما عظمت طاقة الجسيم. البروتونات أيضًا تشع إشعاعًا سينكروترونيًّا، لكن لأنها أضخم بنحو ألفي مرة من الإلكترونات، فإنها تستطيع الوصول إلى طاقات أعلى بكثير قبل أن يصير مقدار الطاقة المفقود ذا أهمية. لكن حتى على طاقة مقدارها بضعة جيجا إلكترون فولت، تشع الإلكترونات التي تدور في المعجلات الدورانية قدرًا عظيمًا من الطاقة، وهو ما يجب تعويضه من خلال ضخِّ المزيد من الطاقة عبر موجات الراديو في الفراغات المعجِّلة؛ ولهذه الأسباب ظلت معجلات الإلكترونات العالية الطاقة خطية حتى وقت قريب. في الواقع، استُخدِمَت الإلكترونات في المعجلات الدورانية فقط من أجل المزايا الخاصة التي تقدمها، وتحديدًا أن التصادمات المباشرة وجهًا لوجه تستغل الطاقة على نحو أكثر كفاءةً بكثير عما هو الحال حين يُضرَب هدفٌ ساكن. المزية الثانية الضخمة هي القدرة على الاستكشاف بطرق قد تكون دون ذلك مستحيلة، كما الحال مثلًا داخل مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير، حيث تفنى الإلكترونات لدى التقائها بالبوزيترونات، وتكون الحزم التي تدور على نحو معاكس هي الوسيلة الوحيدة الفعَّالة لتحقيق الشدة العالية المطلوبة.
كان مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير معجلًا دورانيًّا يمتد داخل نفق طوله ٢٧ كيلومترًا. ويقدم هذا المعجل دليلًا على المشكلات التي نواجهها عندما تتحرك الإلكترونات والبوزيترونات الخفيفة في دوائر؛ إذ إننا بحاجة لكل هذه المسافة كي نمكِّنها من الوصول إلى طاقة قدرها ١٠٠ جيجا إلكترون فولت دون إهدار قدر كبير من الطاقة على صورة إشعاع. إن الوصول إلى طاقات قدرها عدة مئات من الجيجا إلكترون فولت في مدارات دائرية يحتاج إلى مسافات تمتد لمئات الكيلومترات، وهو أمر مستحيل؛ ولهذا السبب يُخطَّط لاستخدام مصادمات خطية في المستقبل البعيد.
المصادِمات
في المعالج الخطي المُوجَّه صوب هدف ساكن، يندفع الحطام الناتج عن عملية التصادم إلى الأمام، تمامًا مثلما تندفع السيارة إلى الأمام حين تصطدم بها سيارة أخرى من الخلف. وحين تصطدم حزمة الجسيمات بهدف ساكن، تتحول طاقة الحزمة المكتسبة بعد جهد جهيد إجمالًا إلى طاقة حركة — جسيمات متحركة في الهدف — ومن ثَمَّ فهي تُهدَر بالأساس. يتم التغلُّب على هذه المشكلة إذا جعلنا الجسيمات تتصادم مباشَرَةً وجهًا لوجه، بحيث يمكن أن تستهلك طاقتها في التفاعل بينها. في مثل هذا التصادم يتطاير الحطام في كل اتجاه، ويعاد توزيع الطاقة معه، فلا «يُهدَر» شيء عند جعل الكتل الساكنة تتحرك.
هذه الأمور كانت واضحةً لبناة المعجلات منذ وقت بعيد يرجع إلى أربعينيات القرن العشرين، بَيْدَ أن الأمر استغرق عشرين عامًا حتى تتخذ مصادمات الجسيمات شكلها، وخمسة عشر عامًا أخرى حتى تصير الشكل المهيمن من معجلات الجسيمات، وهو ما استمرت عليه إلى اليوم. المشكلة هي أن الجسيمات تميل إلى أن يخطئ بعضها بعضًا، وفقط خلال الثلاثين عامًا الماضية صارت التقنيات قابلة للتطبيق.
كان التطبيق الأساسي هو تمكين حدوث التصادمات بين الجسيمات والجسيمات المضادة، وبالأساس بين البروتونات والبروتونات المضادة، أو الإلكترونات والبوزيترونات.
حين بدأ مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير العمل في تسعينيات القرن العشرين، كانت مجموعات رفيعة للغاية من الإلكترونات يمر بعضها من خلال بعض في قلب الكواشف كل ٢٢ ميكروثانية (٢٢ جزءًا على المليون من الثانية). ورغم احتواء كل مجموعة على نحو مليون مليون إلكترون، إلا أنها كانت مشتتة؛ لذا كان التفاعل بينها شحيحًا. وقد كان التصادم المثير للاهتمام — أو «الحدث» — يقع مرةً واحدةً فقط كل أربعين مرة أو نحو ذلك، تمر فيها مجموعات الإلكترونات بعضها ببعض. تمثَّلَ التحدي في تحديد الأحداث المثيرة للاهتمام وتجميعها، وعدم تفويتها أثناء تسجيل أي أحداث أخرى متواضعة الأهمية. كان «زناد» إلكتروني يستجيب لأولى الإشارات الآتية من التصادم من أجل أن «يقرِّر» في غضون ١٠ ميكروثانية ما إذا كان شيءٌ يستحق الاهتمام قد وقع. وإذا كان الحال كذلك، يتم البدء في عملية القراءة وجمع المعلومات من كل أجزاء الكاشف، وتعيد شاشة الكمبيوتر بناءَ نمطِ مسارات الجسيمات وتبيِّن أين ترسَّبَتِ الطاقة في الكاشف.
في الوقت الحالي، يجري بناء مصادم للبروتونات والأنوية الذرية ليحل محل مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير. هذا هو «مصادم الهادرونات الكبير». سيعجل هذا المصادم البروتونات إلى طاقة مقدارها ٨ ملايين مليون إلكترون فولت (٨ تيرا إلكترون فولت) لكل حزمة، بحيث تصطدم بطاقة إجمالية قدرها ١٦ تيرا إلكترون فولت. هذا يساوي نحو مائة مرة مقدار الطاقة الناتجة عن تصادمات مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير، ويساوي نحو عشر مرات مقدار الطاقة الناتجة عن تصادمات البروتونات والبروتونات المضادة في فيرميلاب.
المصانع
الفكرة هي إنتاج الإلكترونات والبوزيترونات على طاقات محدَّدة، تكون «مضبوطة» بحيث تنتج الكاوونات أو الميزونات القاعية، على الترتيب، على حساب الأنواع الأخرى من الجسيمات. في فراسكاتي، قرب روما، يوجد «دافني»، وهو مصادم صغير يمكن وضعه في قاعة أكبر قليلًا من صالة التدريبات الرياضية. وهناك تفني الإلكترونات والبوزيترونات بعضها على طاقات قدرها ١ جيجا إلكترون فولت فقط، وهو الأمر المثالي لإنتاج الكاوونات.
كما يُحدِث «مصنع الميزونات القاعية» تصادمات بين الإلكترونات والبوزيترونات على طاقات قدرها نحو ١٠ جيجا إلكترون فولت، والمضبوطة بحيث تنتج الميزونات القاعية وجسيماتها المضادة معًا. ومن فرط صعوبة التحدي جرى بناء معجلين في أواخر التسعينيات، وهما المعجل بي إي بي ٢ في ستانفورد بكاليفورنيا، والمعجل كيه إي كيه بي في مختبر كيه إي كيه باليابان.
تختلف مصانع الميزونات القاعية عن مصادمات الإلكترونات-البوزيترونات السابقة بصورة مثيرة للاهتمام. ففي مصادمات الإلكترونات-البوزيترونات التقليدية، تتحرك الحزم في اتجاهات متقابلة لكن بالسرعة عينها، بحيث إنه عندما تتقابل الجسيمات فإن بعضها يلغي حركة بعض. ويكون «الانفجار» الناتج عن إفناء الإلكترونات والبوزيترونات بعضها بعضًا ساكنًا، وتظهر الجسيمات الجديدة من المادة والمادة المضادة بانتظام في كل الاتجاهات. لكن في مصانع الميزونات القاعية، تتحرك الحزم المتصادمة بسرعات مختلفة، وهو ما يجعل الانفجار الناتج نفسه متحركًا.
نتيجة لهذا التصادم غير المتناظر، تميل المادة والمادة المضادة الناتجة إلى الانطلاق في اتجاه الحزمة المبدئية الأسرع، وبسرعات أعلى مما يحدث في حالة حدوث الإفناء في حالة سكون. وهذا لا يسهل عملية رصد الجسيمات المتكونة وحسب، بل أيضًا الذرية التي تخلفها حين تفنى؛ وذلك بفضل أحد تأثيرات النسبية الخاصة (الإبطاء الزمني) والذي يتسبب في جعل الجسيمات تعيش لمدة أطول وتتحرك لمسافة أكبر (نحو مليمتر واحد) عندما تتحرك بسرعة عالية. ولهذا أهمية بالغة؛ لأن الميزون القاعي، في حالة السكون، يعيش فقط لمدة واحد بيكو ثانية؛ أي جزء على مليون المليون من الثانية، وهذا يقع على حدود قدرتنا على القياس.
ثمة خطط جارية لبناء مصانع للنيوترينوات، حيث ستمكِّننا المصادر القوية للنيوترينوات من دراسة هذه الجسيمات المبهمة. إن كتلة النيوترينوات صغيرةٌ للغاية بحيث يستحيل قياسها، بَيْدَ أنه يمكن الحصول على قياسات غير مباشرة للاختلافات في كتلتها. بل إن هناك إمكانية أن النيوترينوات قد تتحول إلى نيوترينوات مضادة والعكس، وستكون لتحوُّلِ شكل من أشكال المادة إلى شكل من المادة المضادة تبعاتٌ مهمة على فهمنا لهذا التناظر العميق. وهذه التأثيرات من الممكن قياسها في مصانع النيوترينوات المناسبة.
وأخيرًا، يعمل الاكتشاف المتوقَّع لبوزون هيجز في عام ٢٠١٢ والذي تبلغ كتلته ١٢٥ جيجا إلكترون فولت من بين الحطام المتخلف عن مصادمة البروتونات بالبروتونات أو البروتونات المضادة، على تولية قدر من الاهتمام لإنتاج أعداد ضخمة منها في ظروف أكثر إحكامًا. ولعمل ذلك، من المخطط إجراءُ تصادمات بين الإلكترونات والبوزيترونات على طاقات عظمى تبلغ ١٢٥ جيجا إلكترون فولت؛ ومن ثَمَّ يكثر الحديث عن بناء معجلين خطيين، أحدهما للإلكترونات والآخَر للبوزيترونات، وضبطهما بحيث ينتجان تصادمات مباشِرة لحزم الجسيمات. هذا هو الشكل الذي من المرجح أن يكون عليه مستقبل الفيزياء التجريبية العالية الطاقة فيما يخص المعجلات.