قوى الطبيعة
***
تهيمن أربع قوى أساسية على الكون: قوة «الجاذبية» والقوة «الكهرومغناطيسية»، إلى جانب القوة النووية «الشديدة» والقوة النووية «الضعيفة»، اللتين تعملان داخل نواة الذرة وحولها، وهاتان القوتان تعملان عبر مسافات أصغر من حجم الذرة، ومن ثَمَّ فهما ليسا مألوفين لحواسنا التي تستشعر الأشياء الكبيرة الحجم، وذلك مقارنة بتأثيرات الجاذبية والمغناطيسية. ومع ذلك فهاتان القوتان تلعبان دورًا حيويًّا في وجودنا، وتبقيان الشمس متَّقِدَة، وتوفران الدفء الأساسي للحياة.
الجاذبية هي أكثر قوة مألوفة من جانبنا، لكن بين الذرات المنفردة أو الجسيمات المكونة لها، تكون تأثيرات الجاذبية تافهةَ الأثر؛ فقوة الجاذبية بين الجسيمات المنفردة ضئيلة للغاية، وهي تبلغ من الصغر حدًّا يجعلنا نتجاهلها تمامًا في تجارب فيزياء الجسيمات. ولأن قوة الجاذبية تجذب كل شيء تجاه كل شيء آخَر، تتضاعف تأثيراتها وتتراكم إلى أن تصير قوية، وتعمل عبر مسافات فلكية.
تعمل القوى الكهربية وفق القول المعروف: «الأقطاب المتشابهة تتنافر، والمختلفة تتجاذب.» ولهذا، تظل الإلكترونات سالبة الشحنة في مداراتها حول نواة الذرة بفعل قوى الجذب الكهربي تجاه النواة المركزية الموجبة الشحنة.
تتسبَّب الشحنات الكهربية وهي في حالة حركة في التأثيرات المغناطيسية؛ فالقطب الشمالي والجنوبي لقطعة المغناطيس هما تأثيران للحركات الكهربية للذرات وهي تتحرك معًا في تناغم.
القوة الكهرومغناطيسية في جوهرها أقوى من قوة الجاذبية، إلا أن التنافس بين التجاذب والتنافر يتسبَّب في تحييد تأثيرها عبر المسافات البعيدة، وهو ما يفسح المجال أمام الجاذبية كي تكون هي القوة المهيمنة بشكل عام. ومع ذلك، تتسبَّب تأثيرات الشحنات الكهربية المتماوجة في القلب المنصهر للأرض في تسرُّب المجالات المغناطيسية إلى الفضاء. وإبرة المغناطيس التي تشير صوب القطب الشمالي، الذي قد يبعد آلاف الأميال، إنما تفعل هذا بسبب هذا التأثير.
القوة الكهرومغناطيسية هي التي تحافظ على تماسك الذرات والجسيمات معًا، مكوِّنة المادة الكثيفة؛ فأنا وأنت وكل شيء آخَر متماسكون بفضل القوة الكهرومغناطيسية. حين سقطت التفاحة أمام إسحق نيوتن، كانت الجاذبية هي ما تحكم في سقوطها، لكن القوة الكهرومغناطيسية — المسئولة عن صلابة الأرض — هي ما منعتها من مواصلة السقوط صوب مركز الأرض. قد تسقط التفاحة لثوانٍ عدة من ارتفاع كبير، وتعجِّل قوة الجاذبية من سقوطها، لكن حين ترتطم بالأرض فإنها تتوقف وتتهشم في لحظة واحدة، وهذا بفضل القوة الكهرومغناطيسية.
يُبقِي تجاذبُ الشحنات المختلفة الإلكتروناتِ في مساراتها الذرية حول النواة الموجبة الشحنة، لكن التنافر بين الشحنات المتشابهة يخلق معضلةً تهدِّد وجودَ النواة ذاته؛ فالنواة مضغوطة بإحكام، وترجع شحنتها الموجبة إلى احتشاد البروتونات المتعددة الموجبة الشحنة داخلها. كيف يمكن لهذه البروتونات، التي تعاني من ذلك التنافر الكهربي الشديد، أن تبقى متماسكة؟
إن قدرتها على البقاء تعطينا دليلًا فوريًّا على وجود قوة جاذبة «شديدة»، تشعر بها البروتونات والنيوترونات، وهي من الشدة بحيث تبقي عليها في مكانها وتمكِّنها من مقاومة قوى التنافر الكهربي. هذه القوة الشديدة إحدى قوتين تعملان داخل نواة الذرة وحولها، وهما تُعرَفان بالقوتين «الشديدة» و«الضعيفة»، وهاتان الصفتان تشيران إلى مقدار قوتهما مقارَنَةً بالقوة الكهرومغناطيسية على المستوى النووي، وهما قوتان قصيرتا المدى، وليسا من القوى التي تألفها حواسنا التي تستشعر الأشياء الكبيرة الحجم، بَيْدَ أن لهما أهمية حاسمة في بقائنا.
إن استقرار أنوية العناصر الذرية يمكن أن يكون توازنًا دقيقًا بين قوى الجذب وقوى التنافر الكهربي المتنافسة. ليس بالإمكان حشد عدد كبير للغاية من البروتونات معًا، وإلا سيتسبب التنافر الكهربي في جعل الذرة غير مستقرة. يمكن أن يكون هذا سببًا لبعض أنواع التحلل الإشعاعي، حيث تنقسم النواة إلى أجزاء أصغر. تستشعر البروتونات والنيوترونات القوة الشديدة على نحو متساوٍ، لكن البروتونات وحدها هي التي تستشعر قوى التنافر الكهربي؛ ولهذا السبب لا تحتوي أنوية العناصر كلها — خلا الهيدروجين — على البروتونات فحسب، وإنما على نيوترونات أيضًا كي تزيد من الاستقرار الإجمالي للقوة الشديدة الجاذبة. على سبيل المثال، يُسمَّى عنصر اليورانيوم ٢٣٥ بهذا الاسم لأنه يملك ٩٢ بروتونًا (وهو ما يحدِّد طبيعته كعنصر اليورانيوم؛ نظرًا لوجود الإلكترونات اﻟ ٩٢ التي ستجعل الذرة متعادلةً كهربيًّا)، و١٤٣ نيوترونًا، أي ٢٣٥ بروتونًا ونيوترونًا إجمالًا.
هنا قد تتساءل عن السبب الذي يجعل الأنوية تستقبل أي بروتونات على الإطلاق، خاصة وأن زيادة النيوترونات لا تؤدي فيما يبدو إلى عدم استقرار النواة. تعتمد الإجابة على تفاصيل لتأثيرات ميكانيكا الكم تخرج عن نطاق كتابنا هذا، لكن جزءًا كبيرًا من السبب يرجع إلى الكتلة الإضافية التي يتمتع بها النيوترون مقارنةً بالبروتون. وكما رأينا من قبلُ، فإن هذه الكتلة تخفي تحتها عدم استقرار جوهري يتسم به النيوترون، وبسببه يتحلل النيوترون إلى بروتون ويقذف إلكترونًا، الذي يُسمَّى وقتها جسيم «بيتا» الخاص ﺑ «نشاط بيتا الإشعاعي».
القوة التي تدمِّر النيوترون هي القوة النووية الضعيفة، وهي تُسمَّى بهذا الاسم لأنها تبدو ضعيفةً مقارَنَةً بالقوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الشديدة في درجة حرارة الغرفة. تقلقل القوة الضعيفة النيوترونات والبروتونات، بحيث تتسبب في جعل نواةِ أحدِ العناصر الذرية تتحوَّل إلى نواةٍ لعنصر آخَر من خلال نشاط بيتا الإشعاعي. وهي تلعب دورًا مهمًّا في المساعدة على تحويل البروتونات — أساس وقود الهيدروجين الموجود بالشمس — إلى هليوم (وهي العملية التي تنطلق بموجبها طاقة، وتظهر هذه الطاقة في نهاية المطاف على صورة أشعة الشمس).
تتسبَّب قوى الجاذبية بين البروتونات الوفيرة داخل الشمس في جعلها تنجذب إلى الداخل إلى أن تتلامس تقريبًا، وأحيانًا يتحرك بروتونان بسرعة كبيرة بما يكفي بحيث يتغلَّبان على التنافر الكهربي بينهما لوقت وجيز، ويصطدم أحدهما بالآخَر. تحوِّل القوةُ الضعيفة البروتونَ إلى نيوترون، ثم تُبقِي القوة الشديدة هذه النيوترونات والبروتونات معًا، بحيث تُكَوِّن أنويةَ عنصرِ الهليوم. تنطلق الطاقة وتُشع بفضل القوة الكهرومغناطيسية. إن وجود هذه القوى الأربع وسماتها وشدتها المتباينة هو ما يجعل الشمس تستعر بالمعدل الملائم لحياة البشر.
في المادة العادية، تعمل القوى الشديدة فقط داخل نواة الذرة، وهي بالأساس ناتجة عن وجود الكواركات، الجسيمات الأساسية النهائية التي منها تتكون البروتونات والنيوترونات. وكما أن القوة الكهربية والقوة المغناطيسية ما هي إلا تأثيرات تنشأ عن شحنات كهربية، تنشأ القوة الشديدة في نهاية المطاف عن نوع جديد من الشحنات تحمله الكواركات وحدها وليس اللبتونات؛ ومن ثَمَّ فإن اللبتونات، كالإلكترون، لا تستشعر القوة الشديدة، لكن على العكس، الجسيمات المؤلفة من كواركات — على غرار البروتون والنيوترون — تستشعر القوة الشديدة.
القوانين التي تحكم هذا الأمر مشابِهة في أساسها لتلك التي تحكم القوة الكهرومغناطيسية؛ فالكواركات تحمل الشحنة الجديدة فيما يمكن أن نعرِّفه على أنه الصورة الموجبة، وبالمثل تحمل الكواركات المضادة المقدار نفسه من الشحنة، لكنها شحنة سالبة. وقوة الجذب بين الكوارك والكوارك المضاد هي التي تُبقِي عليهما متحدين معًا؛ ومن هذا جاءت حالات اقتران الكواركات بالكواركات المضادة التي نطلق عليها اسم الميزونات. لكن كيف تتكون الباريونات، التي تتألف من ثلاثة كواركات؟
يتبيَّن لنا أن هناك ثلاثة أنواع متمايزة من الشحنة الشديدة، وللتمييز بينها سنسميها بالألوان الأحمر والأزرق والأخضر؛ ومن ثَمَّ فقد صارت هذه الشحنات تُعرَف باسم الشحنات اللونية، رغم أنه لا علاقة لها بالألوان التي تألفها أعيننا، فما هذه إلا مجرد تسميات. ومثلما تتجاذب الألوان المختلفة، تتنافر الألوان المتشابهة، ومن ثَمَّ فإن أي كواركين يحملان الشحنة اللونية عينها — الحمراء مثلًا — سيتنافران، لكن لو أن أحدهما يحمل شحنةً خضراء والثاني شحنةً حمراء فإنهما سيتجاذبان، والأمر عينه ينطبق على الثلاثة كواركات التي تحمل الشحنات اللونية الثلاث المختلفة، الحمراء والزرقاء والخضراء. وإذا اقترب كوارك رابع من هذا الثلاثي فسينجذب إلى اثنين من الكواركات لكنه سيتنافر مع الثالث، الذي يحمل الشحنة اللونية عينها. يتضح أن هذا التنافر يوازن قوة الجذب الصافية، بحيث يظل الكوارك الرابع في حالة حبيسة، لكنه إذا عثر على كواركين آخَرين يحمل كلٌّ منهما شحنةً لونيةً تختلف عن شحنته، يكون بمقدور هذا الثلاثي أن يلتحم معًا هو الآخَر. وهكذا نبدأ في رؤية أن قوى الجذب لهذه الثلاثيات — كما الحال عند تكوُّن البروتونات والنيوترونات — تنتج عن الطبيعة الثلاثية للشحنات اللونية. ومثلما يؤدي وجود الشحنات الكهربية داخل الذرات إلى تجمُّعها معًا لتكوين الجزيئات، تؤدي الشحنات اللونية داخل البروتونات والنيوترونات إلى تجمُّعها معًا لتكوين ما يُعرَف لنا باسم النواة.
هذا يأخذنا على نحو طبيعي إلى التساؤل عن الكيفية التي تَبسُط بها هذه القوى تأثيراتها عبر الفضاء.
حاملات القوى
القوة | الشدة | الحامل | أمثلة |
---|---|---|---|
الشديدة | ١ | الجلوونات | نواة الذرة |
الكهرومغناطيسية | ١٠−٢ | الفوتون | الذرات |
الضعيفة | ١٠−٥ | البوزونات و و | النيوترينو |
الجاذبية | ١٠−٤٢ | الجرافيتون | المجرات، الكواكب |
وأخيرًا، لدينا القوة النووية الشديدة، التي منشؤها الشحنات اللونية التي تحملها الكواركات والكواركات المضادة، في هذه الحالة يتم نقل القوة بواسطة «الجلوونات». بما أن الكوارك يمكن أن يأخذ أيًّا من الشحنات اللونية الثلاث، الحمراء والخضراء والزرقاء، فإن الجلوون المنبعث منه يمكن هو نفسه أن يحمل شحنة لونية. على سبيل المثال، الكوارك ذو الشحنة اللونية الحمراء يمكن أن ينتهي به المطاف وهو يحمل شحنةً زرقاء، لو كان الجلوون يحمل شحنة على غرار «أحمر موجب، أزرق سالب»، وتسمح النظرية الكمية النسبوية المعروفة باسم الديناميكا اللونية الكمية بثمانية ألوان مختلفة إجمالًا للجلوونات.
بما أن الجلوونات تحمل شحنات لونية، بإمكانها أن تتجاذب وتتنافر فيما بينها بينما تنتقل عبر الفضاء، وهذا على عكس حالة الفوتونات التي تنقل القوة الكهرومغناطيسية؛ فالفوتونات لا تحمل هي نفسها شحنةً (كهربية)، ومن ثَمَّ فإنها لا تتأثر بالقوى الكهرومغناطيسية فيما بينها. تستطيع الفوتونات الانتقال عبر الفضاء على نحو مستقل، بحيث تملأ الفراغ كله، وتتناقص شدة القوة بالتناسب مع مربع سرعة المسافة التي تقطعها، حسب «قانون التربيع العكسي» الشهير لعلم الكهرباء الساكنة. تحمل الجلوونات شحنات لونية، ولا تملأ الفضاء كما تفعل الفوتونات. وتتسبب تفاعلاتها المتبادلة في جعل القوة الناتجة مركَّزةً في خط مستقيم، على امتداد محور الاتصال بين الكواركين الملونين.
هذا ما نعرفه بالفعل، وإذا استكشفنا تأثيرات القوة اللونية والقوة الضعيفة والقوة الكهرومغناطيسية على طاقات قصوى، أبعد بكثير عما يمكننا قياسه في المختبر، فستبدو هذه القوى الثلاث متشابهة. وسلوك الجسيمات الذرية على الطاقات العالية، كتلك التي كانت وفيرة بُعَيْد الانفجار العظيم، يوحي بأن القوى اللونية قد ضعفت، وأنها تشبه في شدتها القوة الكهرومغناطيسية المألوفة. وقد ظهرت بوادر لتوحيد القوى بالفعل، تُعرَف بنظرية التوحيد العظمى للقوى، وهذه النظرية تقترح أن ثمة بساطة ووحدة كامنة في قلب الطبيعة، وأن ما لمحناه من الطبيعة حتى الآن ما هو إلا بقايا باردة غير متناظرة لهذه الحالة الأصلية. لكن سيتُرَك الفصلُ للتجارب المستقبلية لمعرفة مدى صحة هذه النظرة من عدمها.